مجلة الرسالة/العدد 334/على هامش الأبحاث الفلسفية والنفسية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 334/على هامش الأبحاث الفلسفية والنفسية

مجلة الرسالة - العدد 334
على هامش الأبحاث الفلسفية والنفسية
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 11 - 1939



بين الفرض النظري والحقيقة الواقعة

للدكتور محمد البهي

- 1 -

للفيلسوف أن يفرض ما شاء من النظريات والمبادئ لإصلاح المجتمع وتهذيب الفرد، وللأخلاقي أن يتحدث عن كمال الإنسانية وفضائلها، وللواقع بعد ذلك أن يسطر حوادثه في سجل الوجود بأسلوبه الخاص وعلى النهج الذي ترتضيه الأيام ويضعها أمام الأفراد والجماعات

وضع أفلاطون (جمهوريته) وتكلم فيها عما يجب أن يتبع لقيام حكومة عادلة ونظام دائم يرعى مصلحة الفرد كما يحرص على نفع الجماعة. وأسهب في تفاصيل ذلك النظام وقسمه وفق طبائع الإنسان التي قدرها والتي يجب أن تسودها (العدالة) في نظره إذا قصد به إلى الكمال المطلق

وظن كثير من أتباع هذا الفيلسوف أنها أجود ما ينتجه عقل مفكر، وأن في نظامها خير ما تبغيه الإنسانية

إلا أرسطو - لأنه عاش بتفكيره في عالم الواقع ووجه عمله العقلي في أغلب الأحايين إلى إيجاد حلول لمشكلات وقته وأزمات شعبه - فقد تناول جمهورية أستاذه بالنقد مسترشدا بتجاربه ورد كثيراً من مبادئها لأنها قامت على الفرض الذي لا تمكن الأيام ولا طبيعة الإنسان من تنفيذه

كذلك شعّب كثير من علماء الأخلاق وجهات نظرهم فيما هو أسمى الفضائل التي تقرب الفرد والجماعة من (المثال الأعلى) وتضعهما في مستوى روحي يحول بينهما وبين الشقاء النفسي. وتحدثوا كثيراً عن العدل (المطلق) كتحديد لهذا الأسمى من الفضائل أو تقريب لمفهومه. وآمن رجال الدين بهذا المبدأ وبنوا عليه وعظهم الخلقي كما حاول المقنِّنون جعله غاية تقنينهم، سواء فيما يتعلق بنظام الحكم أو بمعاملة الأفراد بعضهم لبعض

ولكن الواقع أنكر هذا الإطلاق فيما مضى وما زال - وسوف - ينكره لأن ما يق تصرف الإنسان مهما كان العقل مستقلاً - عن الغرائز - في إصداره، ومهما بدت الدوافع التي بعثت عليه في مظهر التجرد عن الغايات الشخصية لا يخلو من تأثره (بالميول). وهذه لاشك تضيِّق من دائرة العدل وتقيد عمومه. ولذا يميل البحث الواقعي للمسائل الخلقية إلى الإكتفاء بطلب العدل النسبي في الإنصاف بوصف العادل. وفي هذه النسبية يتفاضل العادلون

كذلك قرَّ في النفوس البشرية إما عن رغبة في حسم النزاع بين الأفراد في الأصل تحولت فيما بعد إلى عرف بينهم أو عن دافع فطري، أن (الكفاية) هي المقياس الصحيح للفصل في أفضلية فرد على آخر. وهي تختلف طبقاً لما تتطلبه ميادين النشاط المتنوعة في الحياة. فالكفاية الدينية غير الكفاية السياسية، وهاتان غير الكفاية العسكرية والاقتصادية مثلاً. وكانت في جملتها مقياساً صحيحاً لأنها تكشف عن عنصر القوة الذي يُهيئ للبقاء الصالح ويُعده للفوز في معترك الوجود، ولأنها أضمن لتوجيه نظام الجماعة للإنتاج الإيجابي والعمل المثمر في سبيل الحصول على رغد العيش، فضلاً عن أنها أدنى لتحقيق العدل في توزيع منافع الحياة بين الأفراد

ويندر لذلك عدم تقرير مبدأ الكفاية من الناحية النظرية في نظام الحكومات مهما اختلفت الأسس التي قامت عليها تلك الحكومات، ففي عصرنا الحديث نجد الدكتاتورية، برغم ما يبدو في طابعها من تحكم الصفات الفردية، تنادي بالكفاية كشرط أولى لإنتاج الأداة الحكومية. والديمقراطية طبعاً بحكم ما ترتكز عليه نظريّاً من أصل المساواة ورفع أي اعتبار آخر في التفضيل للتكليف بالأعمال العامة سوى الجدارة المحض، أشد إيماناً في مجال النظر بمبدأ الكفاية من أي نظام آخر من نظم الحكم الحاضرة

ولكن إذا قطعنا على الفكر متعته العقلية حين استعراضه الآراء المختلفة المتعلقة بنظم الحكم وحملناه على ملاحظة ما يجري فعلاً في التفضيل والاختيار؛ لاشك أنه سينغَّص، وسيمتد تنغيصه كلما كان أشد إيمانا (بالمثالية)

وإذا عجزت الملاحظة السطحية عن أن تقدم أمثلة كثيرة لما يحدث في ظل الدكتاتورية من مخالفة لهذا المبدأ - لدقة الرقابة على النشر - فسوف تلمس في الديمقراطية البرلمانية عنصراً آخر - وهو العصبية الحزبية - له السيادة المطلقة على مبدأ الكفاية في الاختيار وإذا جاوزنا مثل هذه المبادئ الخلقية العامة التي لا ننكر ضروتها من الناحية النظرية في حياة الجماعة، والتي وجدت لها، منذ أن عرفت الجماعة البشرية النظام، أنصاراً مدافعين إلى حد التضحية بأرواحهم أو بمتعتهم الشخصية في هذه الحياة - إلى الصفات التي هي أقرب أن تكون مذاهب فردية، نجدها كذلك لا تنعكس على مرآة الواقع طبقاً للصورة التي صاغها العقل فيها

فالذي يدين بمبدأ الصراحة، إذا أراد أن يتخذها أساس تصرفه وقوام عمله، سوف يجد عنتاً في بيئته وسوف تعقد الأمور في طريقه لأن سبل الحياة نفسها ملتوية ورغبات الأفراد فيها مختلفة لا تنال إلا عن طريق إخفائها

والذي يقدر كرامته تقديراً مثالياً، ينفر أشد النفرة، مما يتوهم فيه جرح عزته والحط من مكانته، سوف يصطدم مع الواقع صدمات عنيفة لأن ما في الواقع منازع له ولغيره. والنزاع كثيراً ما يكون سبباً مباشراً في اعتداء أحد المتنازعين على الآخر، والاستخفاف بالمعتدي عليه أخص مظاهر الاعتداء

والذي ينزع إلى فهم الصداقة على أنها يجب أن تسود كل العلاقات الممكنة بين شخصين سوف تكون آلامهُ من جراء هذه الصداقة أكثر من سروره بها، لأن التنافس والعمل على تحقيق المصالح والرغبات الشخصية، وهما من الغرائز الفطرية في الفرد، مما يحول دون الوفاء بمقتضيات الصداقة على هذا النحو

فالمبادئ النظرية لم توجد بعد في الواقع كما حاكها العقل النظري، أو على حد تعبير (كانت) العقل الخالص، لا كما صورها الخيال

ولكن هذا لا يمنع من تأييد الفيلسوف إلى حد ما إذا دعا لمبدئه، ورجل الدين والأخلاق إذا نادى بالتقرب من المثل العليا لأن غاية كل منهما تقليل شرور المجتمع (وليس رفعها لأنها من طبيعة الإنسان)

وإنما على الذين عاشوا حتى الآن في حياة النظر، واسترسلوا في خيال الأمل وحددوا مصيرهم على فروضه ألا تدفعهم الرغبة في تقليد المثاليين (إلى طلب مثلهم العليا حقائق واقعة لأن المثل الأعلى لم يكن كذلك إلا لبعده عن تحديد المشاهدة - وما يشاهد قريب منه فقط -، عليهم أن يربطوا بين حياة النظر وحياة العمل حتى لا تكون خيبة الأمل فاجعة إذا هالهم فرق ما بين الحياتين، وحتى لا يكون الانتقال من الأولى وهي حياتهم حتى الآن، إلى الثانية، وهي حياتهم الجديدة، قاسياً صعب التحمل. فكثير من الناس اعوّج سلوكه، وكثير من الناس صحبه التشاؤم في عمله وسيطر على حياته، وكثير من الناس لم يصبر على مشاق الحياة الواقعية - في نظره - فذهب ضحية اليأس والقنوط والتململ، لا لشيء سوى أنهم كانوا جميعاً شديدي الإيمان (بالمثالية) واستمروا حديثي عهد بالواقع.

محمد البهي