مجلة الرسالة/العدد 333/في الأدب الإنجليزي الحديث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 333/في الأدب الإنجليزي الحديث

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 11 - 1939



د. هـ. لورنس

للأستاذ عبد الحميد حمدي

الرجل كابن ومحب

قابل بول فتاة أحلامه، وشعر بقلبه يخفق نحوها، وحاول أن يتصل بها فما أمكنه ذلك، لأنه كان عشيق أمه وخلها الوفي، وفي الوقت نفسه كانت الفتاة التي قابلها وليدة العصر الحديث وثمرته، ترى في الجنس عدوها اللدود، وترى في الرغبة الجنسية الشر الذي لابد منه. وكثيراً ما صرحت لبول برأيها في العلاقة الجنسية، ومن ذلك قولها له: (إن الزواج لا بأس به، ما خلا هذه العلاقة فلولاها لكان نعيماً ليس بعده نعيم، ولكن ما قدر يكون وليس علينا إلا الإذعان).

وبدل أن يكون الحب مصدر سعادة البنت وينبوع هنائها، صار سبب آلامها وأساس عذابها، فصارت تقضي جل وقتها واجمة مطرقة، تفكر وتمعن في التفكير، وكلما فعلت ذلك تضاعفت آلامها وزادت.

أحب بول ميريام وهام بها لكنه كان يريد أن يحبها حب الرجل للمرأة، ولكنها ما كانت لتستطيع التفكير في العلاقة الجسمية، وحتى القبلات الحارة كانت تؤلمها أيما إيلام. كان بول يفهم ذلك من حبيبته فما حاول أن يؤلمها أو يعذبها، وفضل أن يكبت غريزته على أن يجرح فيها تلك النقطة الحساسة. أما هي فشعرت برغبته الملحة إلى جسمها حتى دون أن يبديها بكلمة. أدركت الفتاة ذلك فأعطته ما يريد، أعطته إياه وهي تشعر بثقل التضحية التي تقدمها له، وهبت له جسمها، لا كما تهب المرأة جسمها للرجل ولكن كما توهب الضحية للآلهة. لم تكن تريد هذه العلاقة الجنسية، ولكنها كانت تريده هو، ولا سبيل إلى الاحتفاظ به إلا إذا أعطته ما يريد. وهذا ما دعاها للخضوع لمشيئته والاستسلام لرغبته. وإن ينس بول فلا ينس ذلك اليوم الذي أسلمت فيه له نفسها. لقد راعه في بادئ الأمر جمالها، فرأى فيها مثال الجسم الناضج الصحيح، فشعر بالدم يتدفق حاراً في عروقه، وأحس بجسمه يحن إلى الاتصال بها، فتقدم منها خطوة واحدة ثم وقف في مكانه لا يستطيع حراكاً. لقد رآه وقد رفعت يديها نحوه في حركة كلها توسل واستعطاف كأنما ترجوه أن يعفو عنها ويتركها دون أن يمسها بأذى أو مكروه. تطلع إلى وجهها فرأى عينيها الواسعتين ترقبانه في استسلام وخضوع وترجوانه أن يعفيها من هذه المهمة العسيرة. كانت كالذبيحة التي رقدت مستسلمة حتى يحين وقت تقديمها قرباناً للآلهة. . . فكان كل ذلك سبباً في برود كل عاطفة كان يشعر بها نحوها. . .).

وفضلاً عن ذلك كانت ميريام ابنة القرن العشرين، تؤمن بتلك النظرية المستحدثة التي تسوي بين الرجل والمرأة، والتي تقول بوجوب مزاولة المرأة لكافة أعمال الرجال، فبدلاً من أن تركز كان تفكيرها في حياتها المنزلية كانت تحن دائماً إلى ممارسة أي عمل من أعمال الرجال، وكثيراً ما كانت تقول: (أريد لو أتيحت لي الفرصة مزاولة عمل من الأعمال كما أتيحت لكثيرات قبلي. وهل كان ذنبي أنني خلقت امرأة، إن هذا أبعد ما يكون عن العدل).

ورغم أنها كانت تكره الجنس الآخر إلا أنها كثيراً ما كانت تتمنى لو خلقت رجلاً، وكان مقياس احترامها لأي شخص هو مقدار ما حصله من التعليم والدراسة.

وفي الوقت نفسه كان يشعر بول في قرارة نفسه أن حبه لأمه لا يترك له فرصة كي يحب امرأة أخرى غيرها، وكان يعرف أنه مهما أحب ومهما أخلص فحبه لأمه أقوى وأثبت. ومع ذلك كان يتمنى لو صادف المرأة التي تستطيع أن تحبه حباً جسيماً، حباً يستطيع أن يكسر تلك الأغلال التي تقيده بأمه وتربطه بها ولكن ما كانت ميريام أبعد ما تكون عن هذه المرأة، وكان هو يعرف عنها ذلك، فكان يحبها ويشفق عليها، ثم يعود يبغضها ويمقتها.

وأخيراً لم ير بداً من أن يطلب منها فصم تلك الصلة التي بينهما، فكانت الضربة القاضية التي هدمت حياتها.

ترك بول ميريام واتصل بكلارا، وعلى العكس من حبه لميريام، كان حبه لكلارا حباً حيوانياً لا غير، ففي أول مقابلاته لها نراه يسترق النظر إلى صدرها من تحت ثيابها منتهزاً فرصة انحنائها لاقتطاف زهرة، ثم نراه وقد انتقل ببصره إلى رقبتها وبقية جسمها، ورغم ذلك فقد باء حبه في هذه المرة بالفشل أيضاً نتيجة حبه لأمه، فعجز عن أن يهبها جسمه كله، فأعطاها جزءاً ومنع عنها الجزء الاكبر، وكانت كلارا امرأة ذات تجارب فلم يفتها ذلك ولم تتردد أن قالت له في يوم من الأيام بعد أن اتصل بها مباشرة: (إني أشعر وكأني لم أتصل بك ألبتة، أشعر كأنك بعيد عني كل البعد).

وفي آخر الرواية ترى الأم مقدار الضرر الذي تلحقه بأبنائها نتيجة استئثارها بحبهم، وترى كذلك أنها مهما خدمتهم ومهما تفانت في هذه الخدمة فلن تستطيع أن تجعله يعدل عن حب امرأة أخرى. فيتحطم قلبها ويذبل جسمها وتسير في طريقها نحو القبر بخطوات واسعة.

ويرمز لورنس بموت الأم إلى مآل المرأة التي تسير في الطريق غير الطبيعي، ذلك الطريق الذي لم تخلق له.

ويرى في ميريام وكلارا نساء القرن العشرين، فكل منهما امرأة لا تصلح لشيء سوى حضور المراقص وإقامة الحفلات واستغلال أصحاب الأموال واستعبادهم. ونرى شخصيتيهما تتكرر في رواياته الأخرى تحت أسماء أخرى.

فنجد أميلي في (الطاووس الأبيض) وهيلدا في (ظل الربيع) وهيلينا في (المعتدي).

ويرى في بول الرجل الذي يفيض قلبه بالعاطفة التي أشعلتها فيه أمه، وهؤلاء يظلون عذارى داخل أقفاص من حديد، يتمنون حب امرأة ليجرف أمامه حبهم لأمهاتهم، وعبثاً ما يتمنون.

وتتكرر هذه الشخصية كثيراً في روايات لورنس المختلفة، فهو شربنزكي في (قوس قزح) وألفريد دبرانت في (بنات القسيس) وجورج في (الطاووس الأبيض) وبرتي ريد في (العميان).

أما مورل الأب فهو مثال لورنس الأعلى ورجله الكامل، خلع عليه كل صفات الرجولة ومميزاتها، ونجد له أشباهاً في الروايات الأخرى، فهو أنابل في (الطاووس الأبيض) وهو ميلورز في (عشيق لادي تشاترلي).

(يتبع)

عبد الحميد حمدي

خريج جامعة اكسترا بإنجلترا