مجلة الرسالة/العدد 333/بين الإسلامية والعربية
مجلة الرسالة/العدد 333/بين الإسلامية والعربية
صفحة موجزة من التاريخ
للأستاذ علي الطنطاوي
لما أراد الله أن يتم على العالمين نعمته، ويختم فيهم رسالته، وينزل عليهم (الكتاب) الذي ما فرط فيه من شيء، الجامع لكل ما يسعدهم في أولاهم وأخراهم، الخالد الذي تعهد عز وجل بحفظه وكفل حمايته، اختار الله لرسالته محمداً رجلاً من العرب لا من الروم ولا من الفرس، فأنزل عليه وحيه، واختصه بفضله وهو أعلم حيث يضع رسالته، وبعثه في (مكة) أم القرى، لم يبعثه في (روما) أم المدائن، ولا في (قصبة فارس) ذات الإيوان، وأمره أن يبدأ بقومه من قريش فيدعوهم، وبعشيرته الأقربين من هاشم فينذرهم، وأنزل عليه القرآن كتاباً عربياً لم ينزل بلغة روم ولا يونان، منة امتنها الله على العرب، ونعمة أفردهم بها. . . وكان العرب - على كريم خلالهم، وجميل سجاياهم، وأنهم لم تفسدهم الحضارة التي أفسدت غيرهم من الأمم - في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وتنازع واختلاف، ذوي عصبية جاهلية يقاتل الرجل منهم أخاه على بكرة، ويزاحمه على قطرة، إن دعوا فإلى جامعة القبيلة ورابطة العشيرة، وإن نادوا فبيا لَتغلب ويا لَبكر ويا لَعبس ويا لَذبيان، ما نادوا قط: يا لَلعرب! فدعاهم ﷺ إلى ما يحييهم: إلى طرح أصنامهم وآلهتهم، وعبادة الله إلهاً واحداً لا إله إلا هو، وإقامة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وإيتاء الزكاة التي تصلح حال الأمة، وتؤلف بينها، وتحيي فقيرها بما لا يضر بذله غنيها، وصوم رمضان وحج البيت وشهادة المؤتمر الأكبر في عرفات، واستكمال مكارم الأخلاق، وطرح عصبية الجاهلية، واستبدال الخلاف والتنازع بأخوة في الله، ووحدة في الإسلام، فأجاب منهم من كتب الله له الحسنى، وأبى من سبق عليه الشقاء، فصار الناس فريقين: مؤمنين وكافرين، وصار القرآن ينزل بـ (يا أيها الذين آمنوا) بعد أن كان ينزل بـ (يا أيها الناس)، ولم يبق إلا نسب الإسلام نسب، وبطلت من دونه الأنساب، فغدا النبي ﷺ يصلى تالياً شتم عمه الأدنى أبي لهب الهاشمي القرشي (تبت يدا أبي لهب وتب) ويقول عن سلمان الفارسي الأعجمي: سلمان منا أهل البيت. وتطوي بنت أبي سفيان رضي الله عنها الوسادة عن أبيها وتقول إنما أنت رجس، وقد كان (رحمه الله) يومئذ على دين قومه، ويستأمر رسولَ الله في قتل شيخ المنافقين ولدُه الذي انحدر من صلبه، ويقول أبي بكر رضي الله عنه لابنه (وكان مع قريش): لو تراءيت لي في المعركة لقتلتك. لا تأخذهم في دين الله شفقة ولا رحمة، ولا يعدلون برابطة الدين رابطة ولا رحماً، ويؤيد الله المسلمين بنصره فينصرهم ببدر وهم أذلة، فيقتلون المشركين ولم يقتلوهم ولكن الله قتلهم، ويثبتهم في أحد ويرسل على الأحزاب ريحاً وجنوداً لم يروها، وينزل أعداءهم من اليهود من صياصيهم. ولبثوا على ذلك حتى أراد الله إكمال الدين وإتمام النعمة، فجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وعم السلام الجزيرة وألف بين أهلها (ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) واجتمع المسلمون في حجة الوداع، وقام ﷺ يخطب مبيناً ومودعاً ومبلغاً، فقال:
أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من أئتمنه عليها وإن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تَظلمون ولا تُظلمون.
أيها الناس، إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطع فيما سوى ذلك فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه دينكم.
أيها الناس، إن لكم على نسائكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبيَّنة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهنَّ في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوانٍ لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس، اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟
قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد.
وانتقل ﷺ إلى الرفيق الأعلى، وخرج المسلمون لينشروا دين الله، وينقذوا العالم، فكانوا يعرضون على من يلقون خصالاً: أولاها أن يدخل في الإسلام فيكون واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم، لا يفرق بين المسلمين اختلاف لون ولا تباين لسان، ولا يفضلون عربياً على عجمي إلا بالتقوى؛ فإن أبى رحمة الله وكره دين الحق، عرضوا عليه الثانية وهي أن يدفع الجزية فيكون له ذمة الله وذمة رسوله وذمم المسلمين، ويكون في حرزهم وكنفهم، حقه محفوظ له، وحريته مضمونة ومعابده قائمة، وإن تعدى عليه مسلم انتصف له منه، ثم إن الجزية شيء لا يكاد يذكر، دراهم قليلة هي دون ما على المسلم من زكاة أو عشر أو غير ذلك، ثم إنها يعفى منها الصبي والشيخ العجوز، والراهب المتعبد، فإن أبوها فقد آذنوا بالحرب. وكذلك فتحوا البلدان، فلم تكن إلا سنوات حتى تغلغل الإسلام في أقاصيها. ولم يمض القرن حتى غدت بلاد العجم كلها مسلمة الدين، عربية اللسان، ونشأ من كل مدينة فيها علماء فحول كانوا أئمة الدين وكانوا أعلام الأدب وكانوا مصابيح الهدى، وحسبك بالبخاري والرازي والطبري والمروزي والتبريزي والجرجاني والأصفهاني والقزويني والفيروز آبادي ممن نشأ في بخارى والري وخراستان ومرو وتبريز وجرجان وأصفهان وقزوين وفيروز آباد. ممن كان من أصل عربي أو كان من أرومة فارسية كأبي حنيفة وسيبويه والحسن وابن سيرين والزمخشري، من العلماء أو من الأدباء كابن المقفع وبشار وأبي نواس وابن الرومي، ولم يكن فيهم من يرضى أن تقول له أنت أعجمي يخدم العربية، بل هم لا يرون أنفسهم إلا عرباً، ولا يجدون شتماً أبلغ من أن تقول لواحدهم (أنت شعوبي) قال الزمخشري أستاذ الدنيا جار الله في مقدمة مفصله: (الحمد لله على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين والمشق بأسنة الطاعنين).
وسبب ذلك أن الإسلام امتاز من سائر الأديان، بأنه دين وقومية جامعة، وأنه سياسة وإنه تشريع (ولما كان الإسلام ديناً وجنسية، وقد رفع الحدود بين الأمم اللاتي تدين به، وكره أن يدعى فيها بدعوة الجاهلية، وجعل أصحابها جميعاً إخواناً يؤلف مجموعهم كتلة واحدة لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولما لم يكن بد للمجموعات البشرية من رابطة تتعصب لها وتعتصم بعروتها، فإنه وهو دين التوحيد ودعوته للاتحاد. . . كان لابد للمسلمين من وحدة عامة، وعصبية عامة، ولسان عام، وقد نبت الإسلام عربياً، وبعث على لسان رسوله العربي، ونزل قرآنه بلسان عربي مبين، فصح لهذا أن يمتزج الفرع بأصله، ولن يتحد الإسلام بالعربية، وأن يكون لسان شعوبها قاطبة، وقد نجحت هذه النظرية أتم نجاح، وأخلص المؤمنون العمل بها، فعمت العربية ذلك المنبسط الآسيوي والأفريقي إلى حدود جبال البرنة في أوربا، وذلك ما يعجب به علماء الاجتماع الآن).
فكان انتشار لسان العرب في هذه الأمم كلها واستعرابها قاطبة من عمل الإسلام الذي جعل العربية لسان العبادة بين العبد وربه. وأوجب على كل مسلم تعلم شيء منها يقيم به صلاته، وجعل فهم القرآن وهو غاية كل مسلم معلقاً على درس العربية وفهمها، وجعل حب النبي وقومه من أصول الإسلام، كما أوجب الحج لتكون هذه البقعة العربية القاحلة وهذا الوادي العاري غير ذي الزرع أحب إلى المؤمن من داره وبلده.
على هذا الأساس أنشئت الدولة الإسلامية الضخمة، وقامت تلك الحضارة الجليلة وبني الماضي العظيم، ولا صلاح لآخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ثانوية (كركوك)
علي الطنطاوي