مجلة الرسالة/العدد 333/الشيوخ والسياسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 333/الشيوخ والسياسة

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 11 - 1939



للأستاذ عباس محمود العقاد

الشيخوخة زيادة ونقصان

زيادة في الخبرة والحنكة، ونقصان في الطاقة والهمة، والأمم السعيدة هي الأمم التي تحسن الانتفاع بجانب الزيادة، وتحسن الحذر من جانب النقصان.

أما الأمم التي تهملهما إهمالاً فهي مسرفة مضيعة، قد تفوتها المنفعة ولا تضمن أن تفوتها الخسارة.

في جزائر الفيجي، على ما يقال، قبيلة تقتل الشيوخ الفانين أو تدفنهم أحياء. . . لأنهم لا ينفعون في حرب ولا صيد ولا عمل. وقد يعرقلون أعمال النافعين

أولئك قوم من الهمج لا يحتاجون إلى الرأي ولا يفترقون إلى عبر الماضي وهي كل ما يعرفه الشيوخ. فإذا بدا لهم أن الشيخوخة ضرر محصن وسن عقيمة فلا عجب: هي كذلك بين أمثال هؤلاء الناس.

وفي اليابان مجلس للشيوخ الكبارين ينتظم فيه الرجل بعد اعتزاله مناصب الحكم ومعارك السياسة ومطامع الحياة، وقلما ينتظم فيه قبل السبعين أو الثمانين. فإذا أشار بالرأي فإنما ينزع فيه عن غرض قويم لا خبيئة وراءه من طمع ولا ضغينة، أو هكذا يعتقدون هناك في فضائل الرأي الذي يصدر من مجلس الكبارين، وما نخالهم على الصواب كل الصواب فيما اعتقدوه، لأن المرء قد يطمع لغيره إذا بطلت مطامعه لنفسه، وقد يكون طمعه لابنه أو زوج بنته أو نصيره أشد تمكناً من هواه وأثقل غشاوة على بصره من الطمع الذي كان يطمعه لنفسه في شبابه.

لكن هؤلاء الكبارين ينفعون

ومتى كان لهم بعض النفع فمن الإسراف تضييعه، ومن الواجب تمييز نفعهم وضرهم قبل رفض النفع والضرر جزافاً على السواء.

أما اعتقادنا نحن في آفات آراء الشيوخ فالمحقق أنها عرضة لآفتين متلازمتين قد تفسدان كل ما لهم من أصالة وصواب: إحداهما التهيب من الأعمال الجسام، والثاني الحرص على العادة المتبعة والاستخفاف بكل شيء لا يضعون أيديهم عليه، ولا يملكون تصريفه مع خلفائهم في الميدان

وقد خطر لي هذا الخاطر يوم نقل البريد الإنجليزي إلينا أقوال لويد جورج وأحاديثه التي يذكر فيها أنه يتلقى الرسائل كل يوم بتعجيل مؤتمر السلام، وأنه يرى (أن تتولى الولايات المتحدة عقد هذا المؤتمر، وألا يكون أساس البحث فيع عودة الحدود البولونية والتشيكية إلى ما كانت عليه قبل احتلال الألمان، بل ضمان الوسيلة التي يتحقق بها دوام السلام بين شعوب العالم)

عجبت لهذا الرأي يصدر من الرجل الذي ألَّب الدنيا على غليوم الثاني، وهو لم يبلغ مبلغ هتلر من إقلاق الشعوب وإهدار العهود وإزعاج الشرق والغرب بالتهديد وراء التهديد، والإرهاب في ذيل الإرهاب.

عجبت لمثير الأمم كلها إلى الحرب كيف يحجم هذا الإحجام، ويرتاع هذا الارتياع، ويحسب أن الحرب شر من العواقب التي لا تنقطع فيها الحروب ولا تهدأ فيها الفتن لو نجح هتلر فيما ابتغاه وفقدت الشعوب كل سند تستند إليه حيثما جمح به هواه، وعاد إليه ديدنه وهجِّيراه؟

أهذا لويد جورج الذي كان يقسم لا يتركن غليوم حتى يشد بيديه حبل مشنقته في العاصمة الإنجليزية؟

أهذا لويد جورج الذي كان يقسم ليفتشن جيوب الألمان فرداً فرداً عن بقية الدراهم الباقية عليهم من غرامات الهزيمة؟

كلا!

إنما لويد جورج الذي يقول هذا هو كما قال شاعرنا العربي:

فكأني وما أزيَّن منها ... قُعَديٌّ يزِّين التحكيما

لا ينصح بالسلام إلا كما ينصح الرجل بالعفة إذا خمدت فيه نار الغرام. أو هو كما قال خصومه (لويد جورج في السادسة والسبعين)!

أما لويد جورج الذي شن الغارة العالمية على غليوم الثاني فقد كان رجلاً آخر، لأنه كان لويد جورج في نحو الخمسين.

وشتان اللويدان! وشتان كل إنسان يتعاقب عليه هذان العمران

ولقد كان لهذا الشيخ الكبار أخ له من قبل كان أعظم منه شأناً وأرفع في الخدمة الوطنية رتبة وأخلد سابقة في سجلات وطنه وسجلات العالم بأسره

لأن لويد جورج هزم غليوم

أما أخوه السابق فقد هزم نابليون الكبير

ولأن لويد جورج هزم غليوم في ديوان الوزارة أو على منصة الخطابة

أما أخوه السابق فقد هزم نابليون الكبير بالرأي والسيف، أو هو كان ظافراً في الميدان كما كان ظافراً بعد ذلك في الديوان.

لأن لويد جورج لا ينسى المناورات السياسية والمفاجآت المسرحية.

أما أخوه السابق فقد كان مثلاً في صراحة القول وصراحة العمل، وكان نموذجاً من نماذج الفروسية في غزواته الحربية أو غزواته الوزارية.

ذلك الأخ السابق كما علم القراء الآن هو ولنجتون القائد السفير الوزير

وقد هزم نابليون وهو في الخامسة والأربعين، ثم ساورته مخاوف الهرم فقال بعد أن جاوز الثمانين: (إنه يحمد الله الذي حماه أن يعيش حتى يرى عاقبة الخراب الذي تتجمع حولهم دواعيه)!

ولنجتون في الخامسة والأربعين غير ولنجتون في الثالثة والثمانين.

ولويد جورج في السادسة والسبعين غير لويد جورج في الخمسين.

ولابد للشيخوخة من آفة وهي هي اضمحلال الحياة

وهذه هي آفة الشيخوخة لا مراء

على أنها ليست آفة الشيخوخة وحدها فيما يرجع إلى صاحبنا لويد جورج

لأن الرجل كان في الخامسة والسبعين قبل عام واحد وليس الفرق عظيماً بين شيخ في الخامسة والسبعين وشيخ في السادسة والسبعين.

كان لويد جورج شيخاً كباراً في شهر أكتوبر من السنة الماضية

وكان لا يكف يومئذ عن تحذير رئيس الوزراء من الضعف والهوادة (مخافة أن نخون الشرف وأن نفقد ثقة العالم. بل شر من ذلك وأدهى أننا نفقد الثقة بأنفسنا. ثم لا يكون سلام بعد هذا كله في خاتمة المطاف!).

فالذي يقول هذا في الخامسة والسبعين خليق أن يقول مثله في السادسة والسبعين

عام واحد لا ينقل الإنسان هذه النقلة، ولا ينال من عزيمته هذا المنال

فالشيخوخة على كثرة آفاتها براء مما نجنيه عليها حين نلقي عليها وحدها تبعة الخلاف في الرأي إلى هذا المدى بين عام وعام.

إنما هناك أمور أخرى تعمل عملها وتسبق الشيخوخة إلى آفاتها

إنما هناك شعور الرجل من قبل فرنسا لم يفارقه منذ كانت سياستها في حرب الأناضول سبباً من أسباب فشله وزوال عهده.

وإنما هناك شعور الرجل من قبل ألمانيا وما أبقته في قلبه زيارته لزعمائها.

وإنما هناك حب الملام ممن يده في الماء لمن يده كما يقولون في النار

وإنما هناك مفاجآت لويد جورج، ولا غنى للرجل عن مفاجآت

لقد حوسب الرجل بعد خطابه حساباً عسيراً:

حاسبوه على تبشيره بالمحالفة الروسية، وتبشيره من قبلها بالمحالفة الألمانية، وتبشيره بكل خطة تخالف ما خطته الوزارة القائمة، ثم يكون الفشل من نصيبها ويبدو العقم على وجهها قبل أن تنحدر إلى عقابيلها.

حاسبوه ولم يظلموه

وحاسبوا الشيخوخة وظلموها في غير ذنبها

وإن يكن للشيخوخة ذنب فمن الشيخوخة شفيع!

عباس محمود العقاد