مجلة الرسالة/العدد 332/في الأدب الإنجليزي الحديث

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 332/في الأدب الإنجليزي الحديث

مجلة الرسالة - العدد 332
في الأدب الإنجليزي الحديث
ملاحظات: بتاريخ: 13 - 11 - 1939



د. هـ. لورنس

للأستاذ عبد الحميد حمدي

5 - الرجل كابن ومحب

بدأ لورنس حياته الأدبية الصحيحة بمعالجة مشكلة من مشكلات العصر الحديث، ألا وهي موقف الرجل كابن ومحب، أو موقفه حيال عاطفتين: عاطفة البنوة وعاطفة الحب. وقد سبق أن عالج لورنس هذا الموضوع في أولى رواياته (الطاووس الأبيض) ثم عالجها بشكل أعمق في روايته (الأبناء والمحبون) ولم ينسها في قصصه القصيرة التي من أهمها (بنات القسيس) وأخيراً بحث فيها بتطويل وصراحة في كتابه عن اللاشعور. ولم يصل كاتب إنجليزي إلى ما وصل إليه لورنس من العمق والدقة في تحليل العلاقة بين الحبيب وحبيبته وبين الوالدين وأبنائهما أو بناتهما. ولا يجوز أن نعزو معالجة لورنس لموضوع واحد في كتب مختلفة إلى رغبته في التكرار أو إلى نقص في معينه، وإنما يجب أن نذكر دواماً أن لورنس كاتب يبشر بدين جديد وبآراء ومعتقدات لم تكن معروفة من قبل. فكان لزاماً عليه أن يعرض الفكرة ويكرر عرضها ويمثل لها بشخصيات متعددة بعد أن يضعها في ظروف مغايرة حتى ترسخ في أذهان قرائه ويؤمنون بها.

ويعتقد لورنس أن الطفل يولد وتولد معه غريزته الجنسية، ولكن لا ينبغي أن تظهر هذه الغريزة أو يبدأ عملها حتى يصل الطفل سناً معينة. وإن من الخير أن نقيم الحد الفاصل بين الولد والبنت في تلك السن المبكرة حتى نضمن عندنا رجولة كاملة وأنوثة مطلقة، وبدون ذلك لا تقوم للمجتمع قائمة. ويحدد لورنس الرجولة الكاملة بأنها هي التي تحدو صاحبها إلى تحقيق غرض سام في الحياة، غرض يرمي إلى بناء الكون وتوسيعه. أما الأنوثة الكاملة فهي التي تتطلب من صاحبتها أن تكون كتلة عواطف، تقودها في كل أعمالها، دون أن يكون للعقل سلطان عليها، ويصحب التغيرات الجسمية التي تعتري الولد أو البنت في دور البلوغ تغيرات من نوع آخر، أهمها تغير العلاقات. فبعد أن ظل الولد أعواماً طويلة لا يفكر إلا في والده أو والدته يبدأ في هذه السن بالتفكير فيمن ستكون شريكة حياته. وبدل أن كانت علاقته قاصرة على أخوته وأخواته يبدأ يفكر في أصدقائه وصديقاته. ويعبر لورنس عن هذه السن بأنها ساعة دخول الغريب، وإنه من الأفضل أن نترك الغريب يدخل دون أن نحاول عرقلته أو الوقوف في سبيله. ويقصد لورنس من الغريب الحبيب أو الحبيبة. ويرى لورنس أن الوالدين في عصرنا هذا يبذلان قصارى جهدهما للوقوف في سبيل هذا الغريب وعرقلة مساعيه ظناً منهما أن في استطاعتهما احتكار حب الابن حتى لا يدعاه يفكر في أحد سواهما. فضلاً عن ذلك فإن حبهما الفياض لابنهما في تلك السن المبكرة يوقظ فيه غريزة كان يجب أن تكون نائمة في هذا الوقت ألا وهي الغريزة الجنسية، ويعتبر لورنس ذلك جريمة لا تغتفر يجنيها الوالدان على ابنهما. ثم يجيء دور البلوغ الذي يتطلب من الابن أن يكون حراً طليقاً يحب من يشاء ويصادق من يريد، فبدل أن يفعل ذلك يرى نفسه يرسف في أغلال حب ثقيل لا يستطيع منه فكاكاً، وبذلك يحرم من حبه للمرأة، ذلك الحب الذي لا تقوم للمجتمع قائمة بدونه

وكان الواجب على الوالدين أن يقطعا علاقتهما القديمة بولدهما بعد أن يصل إلى سن البلوغ كي يتركا له الفرصة لبدء علاقات جديدة غير علاقات الأبوة أو الأمومة. وليس هناك أخطر من أن يحاول الأب أو الأم أن ينصب من نفسه صديقاً لابنه.

والآن لندرس حالة البيئة الحديثة لنرى نتيجة إهمال الوالدين في تربية أبنائهما. فيرى لورنس أن المرأة في عصرنا هذا قد تبوأت مركزاً غير مركزها الذي خلقت من أجله فسيطرت على البيت بكل ما في هذه الكلمة من معنى. فهي التي تقود الرجل وترشده بعد أن كان راعيها وحاكمها، وهي لا تنظر إلى جنسها أي إلى العلاقة الجنسية سوى نظرتها إلى وسيلة للسيطرة على الرجل واستغلاله. وهي لا تعتبر الرجل سوى تابعاً لها أو خادمها المطيع، وتعتبره أحياناً مصدراً لإشباع عواطفها إذا ما عاودتها الرغبة في الرجوع إلى أنوثتها الأولى، وهذا عكس للأمور ووضعها في غير نصابها، وإن يكن له نتيجة فستكون هدم كيان المجتمع وتقويض بنائه. ثم زوال المدنية الحديثة واندثارها، تلك المدنية التي نفخر بها دواماً.

ويرى لورنس أن الواجب قطع تلك العلاقة القديمة بين الأم وابنها أو بين البنت وأبيها إذا ما وصلا إلى سن البلوغ. فقبيل هذه السن يجب أن نبعد الولد عن كل سيطرة نسوية، كسيطرة الأم أو الأخت أو المربية. ويستحسن أن يوضع في رعاية رجل. وليس هناك أخطر من أن يدلل الأمهات أبنائهن بأن يلبسنهم ملابس البنات أو يعاملنهم معاملتهن، أو يتركنهم يزاولون ألعابهن لأن عاقبة ذلك تكون فقد رجولتهم أو عدم استكمالها. ويجب أن يكون لنا في الزنوج خير قدوة عندما نراهم يحتفلون بوصول الولد إلى سن البلوغ ودخوله دوراً جديداً من أدوار حياته، وهم باحتفالهم به إنما يشعرونه أنه انتقل إلى حياة جديدة لها أهميتها

وأول واجب للوالدين بعد وصول ابنهما إلى هذا الدور هو أن يحيطاه علماً بالغريزة الجنسية، وليست هذه المهمة باليسيرة إذ يلزم الأب أو الأم أن يكون حريصاً في كلامه في هذا الموضوع كل الحرص، ويعتقد لورنس أن أسوأ ما يفعله الوالدان هو أن يلجئا إلى المعلومات العلمية يفسران بها لولدهما ما خفي عنه من هذه الغريزة، لأن أمثال هذه المعلومات كفيلة أن تبغض الولد في هذه الغريزة مما يترك لديه أسوأ الأثر. كذلك يجب على الأم ألا تصور العلاقة الجنسية لابنتها في شكل روحي غامض. والى القارئ مثلاً من الأمثلة الخاطئة التي يتبعها بعض الأمهات مع بناتهن:

(والآن يا حبيبتي، تعرفين أن أباك رجل، وأني أحبه، وسوف يأتي الوقت الذي تقابلين فيه رجلاً تحبينه كما أحب أباك وبعد ذلك سوف تتزوجين منه وتعيشين معه عيشة سعيدة. ولذلك آمل أن تتزوجي من الرجل الذي سوف تشعرين أن قلبك يخفق نحوه بالحب. . .) ثم تقبل ابنتها وتستطرد قائلة: (وبعد زواجك ستحدث لك أشياء كثيرة لا علم لك بها يا حبيبتي، وستفكرين في أن يكون لك طفل جميل، وكذلك سيفعل زوجك، لأن ابنك سيكون ابنه أيضاً، أليس كذلك يا حبيبتي؟ وسيكون الطفل طفلكما معاً. . . أنت تعرفين ذلك تمام المعرفة، ولكنك لا تعرفين كيف يتم ذلك. سيأتي هذا الطفل من جسمك وسوف يخرج من جسمك كما خرجت أنت من جسمي من قبل. . . الخ) ويقاوم لورنس هذه الطريقة التي يتبعها معظم الأمهات في الإدلاء بالمعلومات الجنسية إلى بناتهن، ويرى أنها لا تغني ولا تشبع من جوع. وليست الطريقة العلمية بأحسن منها حالاً. فهي بتشريحها جسم الإنسان إلى جزيئاته الصغيرة تشوه جماله وتسيء إلى صاحبه، وتكون النتيجة أن يشب الولد وهو ينظر إلى هذه العلاقة نظرة خوف واشمئزاز.

هذا هو مجمل لرأي لورنس في العلاقة التي يجب أن تكون بين الوالدين وولدهما وبين الابن ومن سوف تشاركه حياته المستقبلية. والآن فلنحاول تطبيق ما قلنا على إحدى روايات لورنس المهمة، وهي (الأبناء والمحبون) فهذه الرواية هي ترجمة دقيقة لحياة لورنس، وحوادثها هي تجاربه الخاصة، وأشخاصها هم الأشخاص الذين احتك بهم في الجزء الأول من حياته وكان لهم أكبر الأثر في حياته المستقبلية. وفيما يلي الخطاب الذي أرفقه لورنس بالرواية بعد أن فرغ منها وأرسله إلى إدوارد جارنت أحد الناشرين، ومن هذا الخطاب نقرأ الرواية باختصار:

(تدور حوادث هذه الرواية حول امرأة من طبقة النبلاء أحبت عاملاً من طبقة الدهماء وتزوجت منه. ولكن كانت الشقة بين ثقافتيهما واسعة فلم تتفق حياتهما في نقطة واحدة، فانصرفت الزوجة عن زوجها وانصرف هو عنها. وبعد أن أعقبت منه أطفالها استعانت بهم لإشباع رغباتها الغريزية بعد أن فشل في ذلك زوجها. وكان من جراء حبها الجارف لأطفالها أن شبوا يفيضون حباً لها ويبادلونها عاطفة بعاطفة. ولكن أتى ذلك الوقت الذي وصل فيه الولد إلى سن الرجولة وشعر بالرغبة الملحة في داخلية نفسه نحو الحب، حب امرأة غريبة عنه، ولكن أتى له ذلك وأمه تملك عليه كل مشاعره وتقيده بتلك الأغلال التي لا يستطيع لها كسراً؟ ورغم ذلك فقد حاول الاتصال بامرأة، فشعر بالانقسام داخل جسمه لأن قلبه كان نهباً بين حبين، حبه لأمه وهو حب قوي جارف، وحبه للمرأة الأخرى، ذلك الحب الذي لا يستطيع أن يعيش بدونه، ولقد كان من جراء هذا الانقسام أن مات الولد الأكبر لأنه لم يحاول مقاومة أو دفاعاً. أما الابن الأصغر فقام للدفاع عنه تلك المرأة التي كان يريد أن يجعلها شريكة حياته، فقاتلت الأم ودافعت عن مركزها دفاعاً مجيداً. ولقد دام هذا النضال طويلاً ولكن النصر في النهاية كان للأم وباءت المرأة الأخرى بالفشل، وذلك لأن مركز الأم كان أمنع وأقوى من مركز المرأة، وحتى بعد أن ترك الأمر للابن أي الكفتين يرجح؛ عمد إلى كفة أمه فرجحها لصلة الدم التي تربطهما معاً، ولم يأبه للمرأة الأخرى التي تحطم قلبها وتكسرت آمالها. وفي النهاية تدرك الأم خطورة الدور الذي تلعبه وأثره السيئ في حياة أولادها فمرضت وأشرفت على الموت، ولكن لم يمنع هذا من أن يهجر الولد المرأة بتاتاً ليلازم أمه ويقوم بالعناية بها. وأخيراً تموت الأم وتكون النتيجة أن يفقد الولد أمه وخطيبته في آن واحد: فلا هو أصاب حب أمه ولا هو أصاب حب المرأة)

هذا هو ملخص رواية (الأبناء والمحبون) كما كتبه لورنس بخط يده. والكتاب عبارة عن صورة دقيقة لحياة المناجم والمنجمين، وصورة أخرى لتلك المرأة التي وقفت ثقافتها ونبل أصلها حجر عثرة في سبيل الحياة الزوجية الصحيحة. ومن الصفحات الأولى للرواية نستطيع أن نحكم لأول وهلة أن هذه الزوجة هي على النقيض من زوجها في كل شيء، فهي امرأة مفكرة يروق لها البحث في الموضوعات المختلفة، ولها ولع شديد بالمناقشات والمجادلات وخاصة في المسائل الدينية والفلسفية والسياسية، وهذا أول سهم من سهام النقد التي يوجهها لورنس إلى المرأة الحديثة، فالمرأة في نظره لا يجب أن تعيش بعقلها بل بعواطفها وجسمها، أما التفكير فهذا من شأن الرجل وحده. فاهتمام المرأة يجب أن يركز إلى أسفل، وأما الرجل فهو الذي يوجه اهتمامه إلى أعلى، إلى الفكر. فالأم في هذه الرواية هي صورة مشوهة لامرأة أو هي صورة امرأة قد جردت من صفات أنوثتها واستعاضت عنها بصفات هي من شأن الرجل وحده، ولم يكفها ذلك بل عمدت إلى زوجها تحاول تغييره وخلقه من جديد خلقاً يتفق مع ما هي عليه من الشذوذ. لم ترضها رجولته ولم تعجبها حيوانيته، فأرادت أن تصقل من طبعه وتهذب من حواشيه وتحد من حيوانيته وتنتقص رجولته، فهدمت كيانه وهدمت نفسها معه، وبذلك لم يعد لها في الحياة مطمع ولا في العيش مأرب، اللهم إلا أن تعيش وتفني شبابها من أجل أطفالها، ولكنها لم تكن لتستسلم أو تقهر فبعد أن تكسرت آمالها، وتحطمت أمانيها، وانهارت خيالاتها تجولت إلى أول أطفالها بقلب يفيض حباً وعاطفة، وحملته بين ذراعيها، وتفرست في عينيه الزرقاوين الواسعتين، فشعرت بقلبها يكاد يقفز من بين جنبيها حباً وغراماً بطفلها، ثم أحست بذلك الرباط الذي كان يربطها بزوجها قد تمزق وانقطع، وأحست أن حبها لزوجها قد اندثر ولم يعد له أثر، وحل محله حب عميق فياض هو حبها لطفلها فقربته منها وضمته إلى صدرها وأخذته بين أحضانها

هذا هو شعورها بعد أن ولد أول طفل لها، فما كاد ثالث طفل يرى نور الحياة لأول مرة حتى كان زوجها في عالم النسيان. لم تعد تشعر قط بتلك الرغبة الغريزية التي كانت تدفعها سابقاً للاتصال بزوجها، لم تعد تحس بأن زوجها جزء متمم لها لا غنى عنه، لم يعد يهمها في كثير أو قليل متى يحضر أو ماذا يفعل، لم تعد تتأثر أو تتألم إذا ما أصابته مصيبة أو حدث له حادث. أما الرجل فكانت حياته جحيما لا يطاق، كان يشعر بالرغبة إلى زوجته، لكن أنى له ذلك فدونه خرط القتاد. افتقد امرأته فما وجدها، مد يده نحوها فما عبأت به، توسل إليها فاحتقرته، شعر بالفراغ يعم قلبه فحاول ملأه فما استطاع، صار المنزل جحيمه فهجره، إلى الحانة يتناول فيها ما هو كفيل بأن ينسيه آلامه وأحزانه ويصرفه عن ذكرى تحطيم آماله، هجر المنزل وهجر زوجه وأولاده وعاش عيشة لا يكاد يحتملها مخلوق، أما هي فاستعاضت عن حب زوجها بحب ابنها بول، فأشبعت غرائزها، وملأت فراغ قلبها وسدت ذلك النقص الذي كانت تشعر به وهي إلى جوار زوجها ولم تكتف الأم بذلك بل سعت حتى جعلت ابنها يبادلها حباً بحب وعاطفة بعاطفة. فشعر نحو أمه بذلك الشعور الذي كان يجب أن يشعر به نحو المرأة التي ستكون شريكة حياته، وبذلك قيدته بسلاسل حديدية لا يستطيع معها أن يتصل بامرأة أخرى أو يبادلها الحب. هذه هي الأم الحديثة، أم القرن العشرين، الأم التي يفسد حبها لأبنائها حياتهم وينغص عليهم مستقبلهم ويحطم آمالهم وأمانيهم.

(يتبع)

عبد الحميد حمدي

مدرس بمدرسة شبرا الثانوية