مجلة الرسالة/العدد 331/صوت من ألف عام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 331/صوت من ألف عام

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 11 - 1939



للأستاذ محمد حسن الأعظمي

وهذا الصوت هو ديوان الأمير تميم بن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، وهو كما يعرف الأدباء أمير شعراء مصر في العصر الفاطمي. ويمكننا القول بأن تميما هذا كان مبدأ حياة خصيبة عامرة نشأ في وقت واحد مع القاهرة. وكان الشعر في مصر بما نعلمه عن الضعف والقلة والندرة، إذ كان العصر العباسي الثاني حافلاً بدويلات مختلفة شبه مستقلة، وكان الشعر فيها يصيب تشجيعاً من أمراء العرب كدولة بني حمدان. إلا أن الحياة في مصر كانت طوفاناً مضطرب الأمواج بين أيدي رسل الخليفة من الأتراك الذين لم يكن الشعر العربي يلقي حياته المعروفة عندهم بحكم تباين اللغة والمنزع. لهذا كان يلجأ الشعراء إلى غير مصر ويلتمسون لأنفسهم الحياة والرقي في الشام وبغداد، بينما كانت اللغة الفارسية تلتمس في ذلك العهد نهضتها وانبعاثها في الدولة السامانية والغزنوية فإذا ما أتيح للفاطميين أن يقيموا دولتهم الكبرى في وادي النيل فنحن أمام دولة عربية هاشمية تحمي اللغة كما تحمي كتابها ودينها، ففي عصر الفاطميين أخصب البيان العربي وانفسح الميدان للشعراء يتبارون في قرض قصائده وعرض فرائده، أمكننا أن نسمع مائة شاعر في رثاء بعض الوزراء ينشدون جميعاً وينالون الجائزة جميعاً، فيجيدون من أربحية الفاطميين وسعة نائلهم ما يشجعهم على القول يدفعهم إلى الإجادة. ولكن لماذا يحدث صاحب العمدة والثعالبي وغيرهما عن تميم والجميع قد أجمعوا أو كادوا يجمعون على أن تميما كان على عرش الإمارة في الشعر كما كان أبوه وأخوه على عرش الخلافة في مصر. الحق أن للسياسة دخلاً كبيراً في السطو على تميم وحرمان أبناء العربية أدهاراً طوالاً من ثمار تفكيره، فقد كان شعر تميم ضمن مخلفات ذلك البيت المالك، وفي خزانة القصر الفاطمي التي كانت حافلة بمئات الألوف من الذخائر الأدبية والنفائس الفلسفية والعلمية، ونحن نسمع من التاريخ أحاديث متشعبة الأطراف عن الأحداث الجسام التي انتابت هذا القصر في كتبه وفي جواهره بل في أهله ومشيديه، وكان الأمر بعد عصر الحاكم نهباً في أيدي الثورات المتتابعة بين الجيوش السودانية والتركية من جهة والمصرية من جهة أخرى، وأصيب الملك كله بأزمة جائحة وصدمة فاجعة تركت القصر نهباً والكتب سلباً. ثم جاء بعد ذلك العصر الذي غربت فيه شمس الدولة الفاطمية فنهبت هذه القصور وأحرق أكثرها وحمل القليل من تحفها وجواهرها، وشاءت الأقدار أن تحفظ لنا تميما وأن ينقل من مصر مع من هاجر من بقايا هذه الأسرة وأتباعها الذين اعتصموا بجبال اليمن ولاذوا بحصونها الطبيعية المنيعة من غوائل أعدائهم. أما أدباء العرب والمؤرخون فلم يعرفوا عن تميم بعد ذلك إلا شذرات متفرقة وبضع قصائد لعبت بها يد التحريف والتصحيف

إن البقية الباقية من أتباع الفاطميين لم يكونوا بمأمن على أنفسهم في جبال اليمن فأرادوا النجاة بأرواحهم وبما في أيديهم من الكتب إلى الهند في مقاطعة كُجرات، فأقاموا بها وشيدوا لأنفسهم هنالك دويلة روحية وأقاموا لهم كلية عظيمة تدرس بها العلوم الفاطمية حيث يقبل الطلبة من أنحاء الهند إليها فيتعلمون بعد امتحان دقيق ما تصبوا إليه نفوسهم من العرفان. وكان من نصيبي أن أدرس بهذه الكلية، أو بعبارة أقرب إلى الوضوح أنه كان يعنيني في هذه الكلية دراسة فلسفتها كما حاولت قبلها الانتساب إلى كليات أخرى في مذاهب شتى لاستكمال الثقافة الإسلامية من نواحيها العديدة، ولاعتقادي أن الحكمة ضالة العاقل ينشدها في كل مكان ويبحث عن لآلئها في كل غور وصقع. وكان هذا الديوان فيما وجدته بين نفائس المكتبة وما أكثرها، فنقلته من سبع نسخ مختلفة كما نقلت غيره من الكتب الخطية المفقودة في جميع مكاتب العالم، ومنها مثلاً ثمانمائة محاضرة لداعي دعاة الفاطميين المؤيد الشيرازي الذي ناظر أبا العلاء المعري. وقد أردت قبل طبع الديوان جملة أن أعرض على قراء الرسالة الغراء نماذج يسيرة من هذا الديوان

قال رداً على عبد الله بن المعتز في تفضيله العباسيين على العلويين في قصيدته التي أولها (أي ربع لآل هند ودار):

يا بني هاشم ولسنا سواء ... في صغار من العلي أو كبار

إن نكن ننتمي لجدّ فإنا ... قد سبقناكم لكل فخار

ليس عباسُكم كمثل عليٍّ ... هل تُقاس النجومُ بالأقمار

من له الفضل والتقدم في الإ ... سلام والناس شيعة الكفار

من له الصِهر والمواساة والنص ... رة والحرب ترتمي بالشرار

من دعاء النبي خِدنا وسمّا ... هـ أخا في الخلفاء والإظهار من له قال لا فتى كعلي ... لا ولا منصل سوى ذي الفقار

وبمن باهلَ النبيُّ أأنتم ... جهلاءٌ بواضح الأخبار

أَبِعبد الإله أم بحسين ... وأخيه سلالة الأطهار

يا بني عمنا ظلمتم وطرتم ... عن سبيل الإنصاف كل مطار

كيف تحوون بالأكُفِ مكاناًً ... لم تنالوا رؤياه بالأبصار

من توّطى الفراشَ يخلف فيه ... أحمداً وهو نحو يثرب سار

أين كان العباسُ إذ ذاك في ال ... هجرة أم في الفراش أم في الغار؟

ألكم مثل هذه يا بني العبا ... س مأثورة من الآثار. . .؟

ألكم حرمة بعم رسول (م) ... الله ليست فيكم بذات بوار؟

ولنا حرمة الولادة والأع ... مام والسبق والهدى والمنار

ولنا هجرة المهاجر قدماً ... ولنا نصرة من الأنصار

ولنا الصوم والصلاة وبذل ال ... عرف في عسرنا وفي الإعسار

ونحن أهل الكساء سادسنا الر ... وح أمين المهيمن الجبار

نحن أهل التقى وأهل المواسا ... ة وأهل النوال والأيسار

فدعوا خُطة العُلى لذويها ... من بني بيت أحمد الأبرار

أو فلوموا الإله في أن برانا ... فوقكم واغضبوا على المقدار

أجعلتم سقي الحجيج كمن آمن (م) ... بالله مؤمناً لا يداري؟

أو جعلتم نداء عباس في الحر ... ب كمن فر عن لقاء الشفار

كوقوف الوصي في غمرة المو ... ت لضرب الرؤوس تحت الغبار

حين ولّى صحب النَبّي فرارا ... وهو يحمي النبي عند الفرار

واسألوا يوم خيبر واسألوا ... مكة عن كرّه على الفجّار

واسألوا يوم بدر من فارس الإس ... لام فيه وطالب الأوتار

واسألوا كل غزوة لرسول (م) ... الله عمن أغار كل مغار

يا بني هاشم أليس عليّ ... كاشف الكرب والرزايا الكبار

فبماذا ملكتم دوننا إر ... ثَ نبيّ الهدى بلا استظهار أبقربي فنحن أقرب للمو ... روث منكم ومن مكان الشعار

أم بإرث ورثتموه فإنا ... نحن أهل الآثار والأخطار

لا تغطوا بحيفكم واضح الحق (م) ... فيقضي بكم لكل دمار

وأصيخوا لوقعة تملأ الأر ... ض عليكم بجحفل جرّار

تحت أعلامه من الفاطميي ... ن أسود ترمى شبا الأظفار

فأصدروا عن موارد الملك إنا ... نحن أهل الإيراد والإصدار

ولنا العز والسموّ عليكم ... والمساعي وقطب كل مدار

يا بني فاطم إلى كم أقيمكم ... بلساني ومنصلي وانتصاري

ويرثى الأمير أهل بيت النبي:

نأت بعد ما بان العزاء سعاد ... فحشو جفون المقلتين سهاد

فليتَ فؤادي للظمائن مربع ... وليت دموعي للخليط مزاد

نأوا بعدما ألقت مكائدها النوى ... وقرّت بهم دارٌ وصحّ وِداد

وقد تؤمن الأحداث من حيث تتقى ... ويبعد نجح الأمر حين يراد

أعاذل لي عن فسحة الصبر مذهب ... وللهو غيري مألوف ومصاد

ثوت لي أسلاف كرام بكربل ... هُم لثغور المسلمين سداد

أصابتهم من عبد شمس عداوة ... وعاجلهم بالناكثين حصاد

فكيف يلذ العيش عفوا وقد سطا ... وجار على آل النبي زياد

وقتلهم بغياً عبيد وكادهم ... يزيد بأنواع الشقاق فبادوا

بثارات بدر قاتلوهم ومكة ... وكادوهمُ والحق ليس يكاد

فحكّمت الأسياف فيهم وسلطت ... عليهم رِماح للنفاق حِداد

فكم كربة في كربلاء شديدة ... دهاهم بها للناكثين كياد

تحكّم فيهم كل أنوك جاهل ... ويغزون غزوا ليس فيه محاد

كأنهم ارتدّوا ارتداد أُميّة ... وحادوا كما حادت ثمود وعاد

ألم تعظموا يا قومُ رهط نبيكم ... أمالكم يوم النشور معاد

تداس بأقدام العُصاة جسومهم ... وتدرسهم جردٌ هناك جياد تضمُيهم بالقتل أمة جدهم ... سفاها وعن ماء الفرات تذاد

فماتوا عطاشاً صابرين على الوغى ... ولم يجبُنوا بل جالدوا فأجادوا

ولم يقبلوا حكم الدعىّ لأنهم ... تساموا وسادوا في المهود وقادوا

ولكنهم ماتوا كراماً أعزّة ... وعاش بهم قبل الممات عباد

وكم بأعالي كربلا من حفائر ... بها جُثث الأبرار ليس تُعاد

بها من بني الزهراء كل سميدع ... جوادٍ إذ أعيي الأنام جَواد

معفّرة في ذلك الترب منهم ... وجوه بها كان النجاح يفاد

فلهفي على قتل الحسين ومسلم ... وخزي لمن عاداهما وبعاد

ولهفي على زيد وبثاً مردّدا ... إذا حان من بث الكئيب نفاد

ألا كبدٌ تفنى عليهم صبابةً ... فيقطر حزناً أو يذوب فؤاد

ألا مقلة تهمي ألا أُذن تعي ... أكلّ قلوب العالمين جماد

تقاد دماء المارقين ولا أرى ... دماء بني بيت النبي تقاد

أليس هم الهادين والعترة التي ... بها انجاب شركٌ واضمحل فساد

تساق على الإرغام قسراً نساؤهم ... سبايا إلى أرض الشآم تُقاد

يسقن إلى دار اللعين صواغراً ... كما سيق في عصف الرياح جراد

كأنهم فيء النصارى وإنهم ... لأكرم مَن قد عزّ عنه قياد

يعزّ على الزهراء ذلة زينب ... وقتل حسين والقلوب شِداد

وقرع يزيد بالقضيب لسّنه ... لقد مجسوا أهل الشآم وهادوا

قتلتم بني الإيمان والوحي والهدى ... متى صحّ منكم في الإله مُراد

ولم تقتلوهم بل قتلتم هداكم ... بهم ونقصتم عند ذاك وزادوا

أمية ما زلتم لأبناء هاشم ... عِدي فاملأوا طرق النفاق وعادوا

إلى كم وقد لاحت براهين فضلهم ... عليكم نِفارٌ منكم وعناد

متى قط أضحى عبد شمس كهاشم ... لقد قل إنصاف وطال شراد

متى وُزِنت صمّ الحجار بجوهر ... متى شارفت شمَّ الجبال وهادُ

متى بعث الرحمن منكم كجدهم ... نبيَّا علت للحق منه زِناد متى كان يوماً صخركم كعليّهم ... إذا عُدَّ إيمان وعُدّ جهاد

متى أصبحت هندٌ كفاطمة الرضى ... متى قِيس بالصبح المنير سَواد

أَآل رسول الله سؤتم وكدتم ... ستُجنى عليكم ذلة وكساد

أليس رسول الله فيهم خصيمكم ... إذا اشتد إبعاد وأرمل زاد

بكُم أم بهم جاء القرآن مبشراً ... بكُم أم بهم دين الإله يُشاد

سأبكيكم يا سادتي بمدامع ... غزارٍ وحزن ليس عنه رقاد

وإن لم أعاد عبد شمس عليكم ... فلا اتسعت بي ما حييتُ بلاد

وأطلبهم حتى يروحوا ومالهم ... على الأرض من طول الفِرار مهاد

سَقى حفراً وارتكم وحوتكم ... من المستهِلاّت العِذاب عهاد

وقال متغزلاً:

قالت: أغدراً بنا في الحب قلت لها: ... لا نال غاية ما يرجوه مَن غَدرا

قالت: فلم لم تزرنا قلت: زاركم ... قلبي ولم يدر بي جسمي ولا شعرا

قالت: كذا يكتم العشّاق حبّهم ... فينعمون ويجنُون الهوى نضرا

قلت: اسمحي لي بتقبيلٍ أعيش به ... قالت: وأيّ محبٍ قبّل القمرا

وقال يصف الناعورة:

وباكية من غير دمع بأعين ... على غير خل دائماً تتحدر

يغني بها زجل المدير لقطبها ... فيطربها حسن الغناء فتنعر

إذا نزف العشاق دمع عيونهم ... فأدمعها مع كثرة السكب تغزر

وقال وقت الخروج من الشام سنة 374هـ:

قالوا الرحيل لخمسة ... تأتي سراعاً من جمادى

فأحببتهم أني اتخذت ... له البكا والحزن زادا

سبحان من قسم الهوى ... بين الأحبة والبعادا

وأعار للأجفان سق ... ما يسترق بها لعبادا

يا ويح من منع الفراق ... جفون مقلته الرقادا

وقال في الحكم: قواضب الرأي أمضى من شبا القضب ... والحزم في الجد ليس الحزم في اللعب

بت ساهراً عند رأس الأمر ترقبه ... ولا تبت نائماً عنه لدى الذنب

يرجى دفاع الرزايا قبل موقعها ... وليس يرتجع الماضي من النوب

وأفضل الحلم حلم عند مقدرة ... وأعذب الجود ما وافى بلا طلب

وقال أيضاً:

قتيل الحوادث مَن خافها ... فلا تخش حادثةً تنجح

مع العسر يسر يجّلي الأسى ... ألم تتذكر ألم نشرح

وقال:

عتبتْ فأثنى عليها العتاب ... ودعا دمعَ مقلتيها انسكاب

وسعت نحو خدّها بيديها ... فالتقى الياسمينُ والعُنَّاب

رُبَّ مبدي تعتّبٍ جعل العت ... ب رياء وهمّه الإعتاب

فاسقينها مدامةً تصبغ الكأ ... س كما يصبغ الخدود الشباب

ما ترى الليل كيف رقَّ دجاه ... وبدا طيلسانه ينجاب

وكأن الصباح في الأفق باد ... والدجى بين مخلبيه غراب

وكأن السماء لجة بحر ... وكأن النجوم فيها حباب

وكأن الجوزاء سيف صقيل ... وكأن الدجى عليها قِراب

وقال معرضاً ببعض القرابة، وذاك أنه ذكر أن الأمير يستعين على ما يأتي به من الشعر بغيره:

أرى أناساً ساءني ظنهم ... في كل ما قلت من الشعر

لما تطاطا بهمُ علمهم ... قاسوا بأقدارهمُ قدري

لو فهموا أو عقلوا لاستحوا ... أن يجعلوا المريخ كالبدر

قيسوا بشعري شعره تعلموا ... تصايق النهر عن البحر

من بطّل الحق هجا نفسه ... بجهله من حيث لا يدري

فناظروني فيه أو فاشرحوا ... شعريَ إن أنكرتم أمري

أو لا فقولوا حسدٌ قلتل ... مستمكن في القلب والصدر وقال يمدح أخاه الخليفة العزيز بالله الفاطمي:

أشرب فإن الزمان غضّ ... وصرفه ليِّن الجناب

من قهوة مرّة كميت ... أسكرُ من أعصر الشباب

أرق من أدمع التصابي ... سكباً وأشهى من الضراب

صاغ لها المزج حين شبت ... بطاق در من الحباب

كأن في كأسها صباحاً ... والليل محلولك الثياب

يسعى بها ساحر المآقي ... لا يمرض الوصل بالعتاب

كأنها لون وجنيته ... وطيب ألفاظه العذاب

إن ندى راحتي نزار ... ما زال يغني عن السحاب

مهذب أروع السجايا ... مقابل ما جد النصاب

ومن أحسن ما قيل في الأمير قول ابن رشيق:

أضح وأقوى ما سمعناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم

محمد حسن الأعظمي

-