انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 331/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 331/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 11 - 1939



دراسات في الفن

معضلة بين الفن والقانون

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

قابلتني، وكنت أنا في هذه المرة المهموم فسألتني مشفقة:

- مالك؟

- إني متألم لصديق توشك نكبة أن تحل به ويلزمه العيش أن يمهد لها السبيل كي تحل به

- أعوذ بالله! ومن صديقك هذا؟ أأعرفه؟

- تعرفينه، ويعرفه الكثيرون. هو محمود حسن إسماعيل الشاعر، والموظف بوزارة المعارف

- محمود إسماعيل؟ وماذا جرى له؟

- عينه اليسرى ضعيفة - فيما تقول الوزارة - وهو الآن يعالجها ليقويها لينجح في الفرصة الأخيرة من فرص الكشف الطبي، لتجدد الوزارة عقده وتثبته في وظيفته. . .

- فهل أصابها سوء وهو يعالجها؟

- يقول إنها تتقوى

- وأي شيء في هذا؟

- أن يمتنع الشعر على محمود!

- إيه؟ ولماذا

- لأن عينه اليسرى هي التي يرى بها الشعر ما دامت على هذه الحال

- أما قلت لي هذا من الأول؟! حسبت ما يهمك جداً. وماذا يا سيدي؟

- لا شيء، أما يكفيك هذا؟ كم هم الشعراء في مصر الذين يشبهون محموداً في مصر الآن ومن قبل

- يا سلام؟! أإلى هذا الحد تكبره؟

- هذا رأيي. وقد قلته له في وجهه، وأنت تعرفين قلة ما أقتنع بالناس، وندرة ما أصرح بهذا الاقتناع. . . وأنا كما قلت لك دائماً أعجز العاجزين، وأضعف الضعفاء

- ولكني لا أرى محموداً كما تراه. . .

- فليكن رأيك فيه ما يكون. ولكن التاريخ سيشهد بأن الشعر العربي في مصر بدأت تكثر فيه التسابيح، والأنغام، والتهاويل، والطهارات، والأشعة، والضفادع، والثيران، والغربان، والنخيل، والبقول، والزهور، والأرواح، والأطياف، والمعازف، والمزامير، والمباسم، والمشاعل، والساقي، والأكواخ، و. . . و. . . و. . . من بعد اليوم المبارك 23 يناير سنة 1938

- وهل استصدر محمود في هذا اليوم مرسوماً من القصر الملكي باستعمال هذه الألفاظ في الشعر، وطواف الشعراء حول ما يحيط بها من المباني؟

- نعم. لقد فعل محمود هذا

- لو لم اكن نسيت مسدسي في البيت! كيف حدث هذا يا أخانا؟

كان هذا اليوم المبارك هو ثالث أيام زفاف الفاروق، وكان جلالته قد أسعد محمودا والفن بالشرف الأسمى إذ دعاه إلى عابدين ليرتل بين يديه من أغاني الروح على أثر إعجابه به في حفل سمعه فيه، وكان هذا الحفل من حفلات الجمعية الخيرية الإسلامية، وقد هذه الدعوة حضرة صاحب المقام الرفيع محمد محمود باشا رئيس الوزارة السابقة ورئيس الجمعية الخيرية الإسلامية، والظل الأول الذي أظل محموداً، كما شهدها حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا رئيس الديوان الملكي سابقاً، ورئيس الوزارة اليوم. وكانت هذه الدعوة هي هذا المرسوم، وقد تلاه محمود في عابدين. . . إنه الشعر الذي طاب للملك. . . والملك عارف، والملك عبقري، والملك ناقد فذ

- ما أبرعك صديقاً!

- في اختيار أصدقائي لا في رفعهم بالباطل

- فمحمود إذن له قيمة. . .

- قيمة خطيرة. ولو أن ملكاً في غير مصر فعل هذا الذي فعله الفاروق أعزه الله في شاعر لبدأت الحكومة، وبدأ الشعب يدرسان هذا الشاعر، فالملك لا يدعو كل شاعر، والملك لا يفعل ما يفعل عبثاً، فهو يعرف أنه رأس الدولة، انظري إليه. . . من الذي أعلن عنه رضاه من رجال المسرح بعد أن استعرضهم جميعاً. . . أليس هو نجيب الريحاني؟. . . ومن في رجال مسرحنا مثل نجيب الريحاني؟. . . وانظري. . . ألم يغن عبد الوهاب في القصر

- فحياه جلالته حين سمعه بكل ما في الملوك النبلاء من أدب ورقة. . .

- إنك بدأت تفهمين. . . يخيل إليّ أنه ليس في مصر من يحس ويتذوق ويفهم مثل فاروق الأول. . . تربية فؤاد الملك الذي اعتلى العرش بعد ما اختبر الحياة مع الملوك ومارس الحياة في صميمها بين أفراد الشعوب. . . فعرف بعد ذلك كيف يملك وكيف يحكم وكيف يعد للعرش من بعده ملكا يتغلغل بالإدراك في تلافيف وطنه. . . ومحمود الشاعر الذي قدره الفاروق والذي يهتف الجيش اليوم بنشيد من شعره، تساومه الآن وزارة المعارف ووزارة المالية في فنه، لا بد أن يفقده إذا أراد أن يبقي موظفاً. . . فهل يصح أن يحدث هذا؟ كلا! فلا بد أن يعفي من الكشف الطبي

- ولكن أحداً لم يطلب منه أن ينزل عن شعره!

- إنهم يريدون منه أن يقوي عينه اليسرى. . . وقد قلت لك إن عينه اليسرى هذه هي التي يرى بها الشعر

- وكان يجب أن أقول لك أنا إن هذا هو كلام المجانين

- أرجوك ألا تصدري حكما على شيء قبل أن تبحثيه وتدرسيه. . . لقد عرض محمود عينه هذه على ثلاثة من أطباء العيون الممتازين في مصر هم الدكتور محمد صبحي وقد سمعت من الكثيرين أنه أقدر أطباء العيون في مصر، والدكتور محمد بكري وهو مدير مستشفى العيون بروض الفرج. . . مدير المستشفى. . . والدكتور إيليا ناشد وهو عضو كلية الجراحين بإنجلترا. . . بإنجلترا لا بمدغشقر. . . وقد قرر هؤلاء الفحول الثلاثة أن عينه اليسرى هذه سليمة، وأن أعصابها قوية. . . فهي إذن ليست ضعيفة. . .

- إذن فقد كان يجب عليها أن تنجح في الكشف الطبي

- هذا لو أنها كانت كبقية العيون التي ركبها الله تركيباً يمكنها من رؤية علامات الكشف الطبي

- وهل هي مركبة تركيباً آخر فليست مثل عيون الناس؟ - أسمعي! هل تصدقين النبي محمداً أو أنت تكذبينه؟

- معاذ الله أن أشك في قوله

- الحمد الله. كان محمد رسول الله يقول إنه كان يسمع الوحي سمعاً. . . وكان يوحي إليه في الموقعة الحربية، وكان يصاحبه في مواقعه الحربية جنوده وأنصاره فلا يسمع الوحي أحد غيره. فهل كانت أذن محمد كآذان بقية الناس؟ أجيبي؟

- كان محمد نبياً

- وكان بشراً مثلنا بتقرير القرآن وتقريره هو نفسه. . . فتكذبين القرآن؟

- حاشا الله. . .

- إذن فهو لا يختلف في شيء عن تكوين البشر. . . ومع هذا فقد كان يسمع ما لم يسمعه جيرانه والملتصقون به. . . فلا بد إذن أن يكون من تكوين البشر حالات خارقة نادرة يستعصي على الآلات وأجهزة الكشف الطبي قياسها. . .

- كأني أريد أن أوافقك وأن أقول إن هذا كلام معقول

- هو معقول لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فمحمد الرسول كان بشراً وكان نبيّا له أذن تسمع ما لم يكن يسمعه الناس. . . وكذلك كان موسى. وكذلك في جهة أخرى كان بتهوفن الموسيقى الأصم. وكذلك كل موسيقى آخر يلتقط الأنغام من الجو. موهبة السمع فيهم واحدة وإن كانت تتشكل بأشكال مختلفة. . . ومحمود حسن إسماعيل شاعر، وله عين يرى بها ما لا يراه بقية الناس. . . هذا أمر لا عجب فيه. . .

- لو كان لديك دليل مادي غير هذه الاستنباطات

- الدليل موجود. . . وهو في شعر محمود. . . أقرئيه تجدي تسعين في المائة منه على الأقل كلها صور بصرية. . . إنه يشبه حتى المسموعات بالمرئيات. . . إنه يرسم معانيه صوراً كل صورة منها يمكن إن توضع في إطار. . . إن شعره كله يمكن أن يترجم إلى رسوم. . . فكيف يتاح له هذا إلا إذا كان يرى هذا الذي يصفه. . . لا تقولي إنه يتكلف هذا. . . فالمتكلف لا يستطيع أن يستمر وأن يتجدد وأن يفيض مثلما يفعل محمود. . . إنه يرى هذه الأشياء حقا. . . أقرئي شعره!

- فليكن هذا حقاً. . . فكيف نحكم بأنه يرى هذه الأشياء بعينه اليسرى لا اليمنى. . .

- لأنه يغمض عينه اليسرى حين يكتب. . . أنا أعرفه. . . وقد رأيته كثيراً وهو يسبح وراء خياله. . . كما رأيته كثيراً وهو يكتب. . . ورأيته يغمض عينه اليسرى كلما كتب شعراً

- قد تكون عادة!

- لا. بل إنه يغمض عينه اليسرى ليسترجع هذه الصور التي يصفها وليراها في وضوح. . . ويفتح عينه اليمنى ليرى بها القلم والورق و (اللكي سترايك)

- يا لها من خرافة!

- إنها ليست خرافة. . . وإنما هي رأي. . . ومع أنه رأيي فأني لا أريد أن أقطع به، فإن كنت قد تعلمت شيئاً فإن أساتذتي الذين علموني لا يزالون بحمد الله موجودين على قيد الحياة. . .

وهم جميعاً طوع أمر وزارة المعارف , ووزير المعارف رجل من رجال التربية وعلم النفس فهو عالم ومعلم قبل أن يكون سياسياً ووزيراً. . . ووكيل المعارف رجل من المجتهدين وممن لهم آراء جديدة في فنه، وممن لن تقف عقولهم عند القديم المقرر. . . فهو يرحب بالدراسات الجديدة من غير شك. . . فهذا وزير عالم وهذا وكيل مجتهد، والأستاذ عبد السلام القباني المتفنن في دراسات النفس وتجارب التربية موجود في معهد التربية للمعلمين وهو وكيله، والدكتور عبد العزيز القوصي أستاذ علم النفس بالمعهد موجود أيضاً وأظن أن الرسالة القيمة التي نال بها إجازة الدكتوراه في علم النفس على يد سبيرمان كبير الأساتذة الإنجليز كانت خاصة بالعين، والبصر، والنظر. . . وهذه وزارة المعارف من أولها إلى آخرها بمن فيها من علماء النفس، والمربين والأدباء والفلاسفة. . . وهذه حالة شاذة يصح أن تدرس. . . فلماذا لا تدرس؟ هي عين يقولون إنها ضعيفة، ويقول الأطباء إنها قوية، ويقولون إنها لا ترى علامات الكشف الطبي، وأقول إنها ترى صوراً لا يراها الناس ويصفها محمود بالشعر. . . فكيف تحكم حكماً صحيحاً في هذه المعضلة إلا بالدرس. . . أليس الدرس هو الطريق الطبيعي المنطقي الوحيد الذي يستطيع الإنسان به أن يصدر حكماً في مسألة من المسائل؟ فإذا لم نسلك هذا الطريق الوحيد مع شاعر رضى عنه الملك وينشد جيشنا شعره. . . فمع من نسلك طريق المنطق والعقل والطبيعة. . . إن المسألة أخطر مما تتوهمين!

- ولكن كيف تدرس هذه الحال؟

- أنا لا أعرف كيف. . . فلست دكتوراً في علم النفس، ولا أنا شيء ما. . . وإنما هذه فكرة خطرت. . . أنا ذهبت إلى وزارة المعارف ومعي إنسان في (زكيبة)، وقلت لها يا وزارة المعارف خذي هذا الإنسان وأدخليه في مدرسة من مدارسك الابتدائية، فهل ترفضه الوزارة، أو تقبله قبل أن تخرجه من الزكيبة فتعرف إذا كان صبياً أو صبية. . . وهل هو أو هي مستوف أو مستوفاة لشروط الدخول في المدارس الابتدائية. . . أو أمره غير ذلك. . . كذلك موقفي الآن مع وزارة المعارف وفي يدي محمود إسماعيل. . . أفلا يجب عليها أن تتعرف ما هو؟. . . قبل أن تفصله أو تثبته أو تطالبه بتقوية عينه. . . أو. . .

- وما لوزارة المعارف وهذا كله. . . إنها تريد موظفين بعيون قوية

- اللهم يا رب عفوك. . . إن في الموظفين من ليست لهم عيون قوية ولا عيون. . . قوية. . .

- وماذا يضره لو أن عينه تقوت؟

- إنها لن تتقوى يا إنسانة. . . إنها مخلوقة هكذا. . . هذه هي قوتها. فهل يرضي مصر لو فشل محمود في تقوية عينه أن تلفظه وزارة المعارف فيسرح على الأبواب يقول: (الحمد لرب مقتدر) إن المسكين يضع على عينيه اليوم مناظير زاعماً أنها وسيلته إلى تقوية عينه وهو يخدع نفسه أحياناً فيزعم أنها تقوت

- ولماذا تقول إنه يخدع نفسه؟

- له شهر وأكثر وهو بهذه المناظير الثلاثة. واحد معتم للشمس، وواحد مكبر لتقوية عينه اليسرى، وواحد زجاج على اليسرى ليكشفها فترى، وسواد على اليمنى ليمنعها من الرؤية تمكيناً لليسرى من التدرب على النظر. . . ومنذ عصب عينيه بهذه المناظير قد كف عن الشعر. ألست تقرئين (الرسالة) على الدوام؟ ألم تلحظي أنه احتجب منذ خمسة أو ستة أسابيع؟. . . لقد كان يكتب قصيدة للإذاعة فكتب منها سبعين بيتاً إلا شطراً واحداً وقف عن كتابته منذ طلسم عينيه بهذه المناظير. إنه الآن لا يرى ما كان يراه من قبل وهو يعاني أزمة نفسية قاتلة، ولا عزاء له في هذا كله إلا أن يردد دائماً قوله: (إن عينه تقوت)، وهو يقولها كلما عجز عن رؤية شيء واضح. في سبيل الوظيفة والخضوع للنص الحرفي القديم في القانون سيختل عقل شاعر شاب فذ كان يكفيه ما يلاقيه الشباب من إنكار الشيوخ وبطشهم في هذا الزمن. . . فكيف ننقذه. . .؟

- أكتب في هذا الموضوع؟!

- ومن أنا حتى أكتب فيسمع كلامي؟!

- إنك إنسان ما. . . ولكن الكلام الذي تقوله معقول. والذين بيدهم الأمر كلهم عقلاء. . . وأصلبهم وهو وزير المالية أشدهم إيماناً بالعقل، فهو مهندس وبالعقل وحده استطاع أن يكون وزيراً للحربية ثم وزيراً للمالية. . . وهو مهندس. . . ولم يستطع هذا إلا لآن له عقلاً ناضجاً. . . ثق بأنه سيكون في صفك. . .

- إنك تشجعينني

- أكتب واطلب من وزارة المعارف أن تؤلف لجنة من علمائها لدراسة هذا الموضوع. . .

- طيب. على الله. . .

وهأنذا كتبت. . . فمن يكتب عن معضلتي أنا؟

عزيز أحمد فهمي