مجلة الرسالة/العدد 331/استطلاع صحفي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 331/استطلاع صحفي

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 11 - 1939



مدرسة الطيران الحربي

كيف تصبح طياراً حربياً؟

(لمندوب الرسالة)

تكلمنا في مقال سابق عن مدرسة التصوير الجوي وبينا

أهميتها. ونتحدث اليوم عن مدرسة الطيران الحربي حيث

يتلقى ضباطنا الطيارون دروسهم العلمية والعملية فيكونون

أهم وسائل القتال الحديث. فقد اصبح الطيران الحربي عماد

الجيوش فهو الذي يؤدي مهمة استطلاع مواطن العدو، وهو

الذي يدمر بقنابله موارد جيوشه، ويعطل طرق تموينه بنسف

السكك الحديدية أو المصانع الحربية والحاجيات الأولية، فهو

الذي يدعم الحرب الاقتصادية).

قوة الأعصاب

على طرف مسطرة ممدودة في يد أحد الطلاب أوقف مسمار على سطحه المستوي. والمسطرة وذراع الطالب في مستوى كتفه يتحركان ذات اليمين وذات اليسار تبعاً لأوامر الطبيب دون أن يهتز المسمار أو يسقط. فالطبيب يختبر قوة أعصاب الطالب ليقرر إذا كان يصلح لدراسة فن الطيران الحربي أو لا يصلح. وينتقل الطالب من اختبار إلى اخر، فهنا يختبر الطبيب حدة بصره وسلامته من العيوب فيقرب جسماً صغيراً من وجهه ليرى زاوية التقاء البصر في العينين، وهناك يدرس حساسية أجزاء الجسم فيمر أجساماً غريبة على جلده ويلاحظ الانفعالات المختلفة، وهكذا يمر طالب الالتحاق بمدرسة الطيران الحربي من مرحلة إلى أخرى، حتى يتأكد الطبيب أن جسمه من أصلح الأجسام وأقواها، فإن الطيار يتعرض لضغوط جوية مختلفة تودي بحياته إذا كان جسمه لا يتحملها.

فإذا قبل الطالب في مدرسة الطيران الحربي، فهو يبدأ دراسة فنية عمادها الخبرة العملية وتطبيق النظريات العلمية مع ملاحظة سرعة الخاطر وحضور البديهة. فالطيران الحربي فن الطوارئ سواء كانت طبيعية أم صناعية، فقد يقابل الطيار أثناء تحليقه في الجو إعصاراً، وقد يفسد منه أحد الأدوات، فعليه أن يدبر نفسه ويصلح خلله وإلا كلفه جهله أو ارتباكه ثمناً غالياً إذا لم يكن حياته فهو الطائرة التي يركبها. وقد تقابله أثناء قتاله مع العدو قوة أقوى من قوته أو خدعة لم تخطر له على بال، فعليه في هذه الحالة أن يتصرف ويجيد التصرف، وعليه أن يغامر ويحسن المغامرة وإلا أفسد المهمة التي كلفه بها قائده وكلف جيشه وأمته خسائر مادية ومعنوية كبيرة.

الطيران الثابت

يبدأ الطالب دراسته في مدرسة الطيران الحربي في غرفة صغيرة في أحد جوانبها جهاز صغير على شكل حجم الطائرة، ورسم على حائط الغرفة الأفق وزوايا الطيران المطلوبة. وفي جانب آخر يجلس المدرب أمام جهاز لاسلكي يعرف بواسطته حركات الجهاز كما يصدر أوامر بالاتجاه إلى اليمين أو إلى اليسار والأمام.

ويدور هذا الجهاز بالكهرباء، فيجلس الطالب على مقعده فيجد أمامه عصا القيادة وأقيسة اتجاهات الريح والضغط والبوصلة وغيرها من الأدوات التي لا غنى عنها لطيار. ويعمل الجهاز فتتولد فيه عدة تيارات هوائية تمثل التيارات الهوائية الجوية، ويتعرض جهازه لعدة أخطاء فيتعلم الطالب كيف يضبط جهازه في الوضع الصحيح بتحريك عصا القيادة في اتجاه يصحح أخطاء الريح فإذا مال الجهاز بفعل التيارات إلى اليمين صححه الطالب

وتعرف هذه الرحلة بالطيران الثابت، ففيها يتعرض الطالب لجميع مؤثرات الطيران، ولكن جهازه لا يفارق الأرض، وإن سمح له أن يدور إلى اليمين أو إلى اليسار. ويمكث الطالب على هذه الحالة عشر دقائق في اليوم لمدة 15 يوماً. فيتاح للطالب المبتدئ أن يعرف كثيراً من أسرار الطيران دون أن يعرض حياته ومال الدولة للهلاك. أضف إلى ذلك أنه يكون بعيداً عن ضوضاء المحركات مالكاً لأعصابه فيسهل عليه أن يفهم إرشادات مدربه بسهولة لا تتيسر له إذا استعمل طائرة حقيقية، ثم وجد نفسه لأول مرة معلقاً بين الأرض والسماء

الطيران الأعمى

والأصل في هذا الجهاز أن يتمرن عليه الطيارون فيما يسمى بالطيران الأعمى، إذ يغطي سقفه فينعزل القائد عن العالم ولا يبقى أمامه إلا خريطة وأجهزة ليضبط بها الاتجاه الذي يجب أن يسير فيه. وهذا المران هام جداً لمن يريد قطع مسافات طويلة على ارتفاعات كبيرة لا يمكنه رؤية تفاصيل الأرض أو في مناطق متشابهة كالصحارى أو البحار والمحيطات، فعلى ضوء هذه الأدوات وحدها يعرف الطيار طريقه وبمساعدتها يصل إلى هدفه

ورأت إدارة المدرسة أن تستغل هذا الجهاز لتعليم المبتدئين لقلة نفقاته ولبعده عن الخطر، فإنه يدار بالكهرباء التي لا تكلف الدولة إلا نفقات زهيدة لا تذكر إلى جانب ما تستهلكه الطائرة الحقيقية من وقود وآلات. ويمر بهذا الجهاز كل طالب يدرس فن الطيران سواء كان ضابطاً أو مجاهداً (صول)

والمعروف أن الطيارين لا يحتاجون إلى كثير من تنظيم الصفوف وتعليم المشية العسكرية والحركات الحربية الأرضية ولكنه يحب على كل طيار أن يقضي أربعة أشهر يتعلم فيها هذه الحركات لتكتسب عضلاته المرونة الرياضية وليتعود الحياة العسكرية، فإذا أتقنها بدأت حياته كطيار

بين طبقات الهواء

وبعد أن يتقن الطالب السيطرة على إدارة هذا الجهاز ينتقل إلى الرحلة التالية فيحلق بطيارة حقيقية في الهواء. وتحتوى طائرة التدريب عادة على مقعدين أحدهما خلف الآخر جهز كل منهما بجميع أدوات القيادة، وامتاز مقعد المدرب (بزر) إذا ضغط عليه انتقلت عملية القيادة إلى أدواته. يجلس الطالب في مقعده ويجلس المدرب في الثاني فإذا ارتفعت الطائرة في طبقات الهواء ترك المدرب لتلميذه مهمة قيادتها تبعاً للخبرة التي تلقاها عندما كان في مرحلة الطيران الثابت. فإذا أخطأ صحح له أخطاءه

ويستمر هذا المران أشهراً ثلاثة يتلقى الطيار أثنائها فنون الطيران كالملاحة الجوية وصيانة الطائرة وفنون اللاسلكي واستعمال أسلحة القتال المختلفة، فإن المران العملي لا يستنفذ كل وقت الطالب إذ هو لا يتجاوز الساعة في اليوم بينما يصرف باقي يومه في تلقي العلوم النظرية، ويتلقى طلبة الكلية الحربية بعض هذه العلوم قبل التحاقهم بمدرسة الطيران

ويتنقل الطالب أثناء مرانه على ثلاثة أنواع من الطائرات تختلف في الوزن والسرعة والدقة، ولهذا فهي تقسم إلى ثلاث مراحل أولاها الطيران الابتدائي فيقود الطالب طائرة من طراز ماجستر، وفي الطيران المتوسط تكون طائرته من نوع الإفرو وفي المرحلة الأخيرة المعروفة باسم الطيران العالي يقود طائرة من نوع الأوداكس، وتختلف سرعة الهبوط على الأرض في كل من هذه الأنواع الثلاثة

مدرسة حديثة ناجحة

فإذا نجح الطالب في اجتياز هذه الفترات الثلاث جاز له أن يقود أكبر الطائرات وأكثرها تعقيداً. وقد تمكنت مدرسة الطيران الحربي من سد حاجات سلاح الطيران الجوي المصري رغم حداثة عهدها إذ أنشئت سنة 1938. ولم تكن هي أولى مدارس الطيران في مصر، فقد أنشأ سلاح الطيران الحربي البريطاني مدرسة في أبي قير سنة 1929

ويبذل مدير المدرسة عبد الحميد الدغيدي أفندي كثيراً من الجهد والوقت حتى تؤدي المدرسة مهمتها بتقديم طيارين صالحين يقدرون المهمة الملقاة على عاتقهم بالدفاع عن مصر وكرامتها، ويعرفون أن الطيران أصبح من أشد وسائل القتال خطورة

صيانة وإصلاح

وإذا قلنا مدرسة الطيران الحربي فإننا في الواقع نتكلم عن أربع مدارس مجتمعة في مكان واحد وتحت إدارة واحدة. فإن الطيران الحربي يحتاج إلى مدرسة ميكانيكية يتعلم فيها رجال الجيش كيف يصلحون العطب الذي يحل بطائرتهم والعناية بها، فإن مهمة حفظ هذه الأدوات لا تقل خطورة عن مهمة قيادتها. فإن أقل خلل في جهاز الطائرة يعرضها للتلف كما يكلف الأمة فقد أرواح عزيزة عليها

ولهذا فقد اختص فريق من الطلبة بالدراسة في هذا المعهد حيث يفحصون أجزاء الطائرات على نماذج مكشوفة عملت فيها قطاعات تبين أجزائها المختلفة حتى يشاهد الطالب بنفسه العمليات الداخلية في الطائرة وأثرها. ففي إحدى الغرف تشاهد محركاً تظهر فيه مجاري الوقود وتبين تأثيره. وفي مكان آخر تشاهد نموذج جناح الطائرة وجزءها الخلفي وهو مكشوف بين التركيبات الداخلية وقوة مقاومتها

ويتولى خريجو هذا القسم الإشراف على صيانة الطائرات وإصلاحها، ولا يباح للطائرة أن تغادر حظيرتها إلا إذا رأى الضابط المسئول أنها في حالة جيدة وأن جميع أجهزتها سليمة. ولهذا يتولى المسئولون فحص الطائرات كل مدة معينة. وأحياناً يكون هذا الفحص كاملاً وأحياناً يكون سطحياً تبعاً لحالة الطائرة والمدة التي حلقتها في الجو، فلكل طائرة كتابها الخاص الذي يبين تاريخ حياتها حيث تقيد فيه عدد ساعات تحليقها في الجو والأماكن التي زارتها والأعمال التي أدتها

حلقة متصلة

وتستلزم لدراسة الميكانيكية لأجزاء الطائرات معرفة عدة مهن فكما تحتاج إلى حداد فهي تحتاج إلى نجار، فبعض أجزائها يتكون من المعادن وبعضها الآخر يتكون من الخشب. أضف إلى ذلك ما يحتاجه سلاح الطيران من أثاث تعد به الحجرات وصناديق تحفظ فيها الذخائر والأجهزة

ويتبع مدرسة الطيران الحربي مدارس التصوير الجوي والمدفعية واللاسلكي. وقد تحدثنا عن الأولى في مقال سابق وفي عدد تال نتحدث عن المدرستين الأخريين فإن كل هذه الفنون ضرورية للطيار حتى يكون قادراً على تأدية مهمته سواء في زمن السلم أو في زمن الحرب

وفي مدرسة المدفعية يتعلم كيف يطلق القنابل ويستعمل مدافعه السريعة الطلقات، وفي مدرسة اللاسلكي يتعلم كيف يتلقى الأوامر من قيادته وهو محلق في الجو

فوزي الشتوي