مجلة الرسالة/العدد 330/من بغداد. . . إلى كركوك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 330/من بغداد. . . إلى كركوك

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 10 - 1939



وداع بغداد!

للأستاذ علي الطنطاوي

الوداع يا بغداد. . .

يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد، والكرخي والجنيد، وأبي نؤاس والعباس، ومخارق وإسحاق، ومطيع وحماد. . .

يا منزل القواد والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأنقياء، والمغنين والشعراء، والمجان والظرفاء. . .

يا مثابة العلم والتقى، واللهو والفسوق، والمجد والغنى، والفقر والخمول. . . يا دنيا فيها من كل شيء

الوداع يا دار السلام، ويا موئل العربية، ويا قبة الإسلام

يا بلداً أحببته قبل أن أراه، وأحببته بعد ما رأيته. . .

لقد عشت فيك زماناً مر كحلم النائم، صحوت منه على صوت الداعي يؤذن بالفراق، فلم أجد منه في يدي إلا لذع الذكرى

وهل تخلف الأحلام يا بلد إلا الأسى والآلام؟

ولكني على ذلك راضٍ راضْ. . . فالوداع يا بغداد واسلمي على الزمان!

ودعتها والسيارة تشتد بي إلى المحطة تسلك إليها الشوارع ذات بهجة وجمال، شبهتها (والمحطة غايتها) بليالي الحب كلها أنس وحلاوة، ولكن نهايتها وحشة الوحدة ومرارة الفراق. وعانيت الوداع، فأيقنت أني مفارق بغداد عما قليل، وأني سأتلفت فلا أرى رياضها ولا أرباضها، ولا أبصر دجلتها ولا نخيلها، فجرى لساني بقول الأول (وإن من الأقوال ما لا تبلي جدته ولا يمضي زمانه):

أقول لصاحبي والعيس تهوى ... بنا بين المنيفة فالضمار

تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار

شهور قد (مضين) وما شعرنا ... بأنصاف لهن ولا سرار

فأما ليلهن فخير ليل ... وأطيب ما يكون من النه وجعلت أذكركم ودعت من أحباب، وكم فارقت من منازل، وكم قطعت قلبي قطعاً نثرتها في أرض الله الواسعة التي لا تحفظ ذكرى، ولا ترثى لبائس، ورأيتني لا أكاد أستقر في بلد حتى تطرحني النوى في آخر، كنبتة لا تكاد ترسخ في تربة وتمد فيها جذورها حتى تقلع وتنتقل إلى أخرى. . . ورأيت أني دخلت بغداد يوم لم يكن جاءها أحد من أصحابي فلبثت فيها وحيداً مستوحشاً، لا أعرف منها إلا المسجد، وما كان لمسلم أن يرى نفسه غريباً في بلد فيه مسجد، ولكنها العاطفة الضعيفة المتهافتة، فلما ألفتها وصارت بلدي، وغدا لها في قلبي مكان نفيت عنها. . .

دخلنا كارهين لها فلما ... ألفناها خرجنا (مكرهينا)

وفكرت في أمري متى ألقي رحلي، ومتى أحل حقائبي؟ وهل كتب علي أن أطوف أبداً في البلاد، وأعيش غريباً وحيداً بعيداً عن أهلي وكتبي وصحبي؟ وهاجت في رأسي الخواطر السود وماجت حتى لقد رأيت الشوارع الحالية بالزهر صحراء مجدبة، ورأيت شعاع القمر المضيء أظلم خابياً. . .

ومن طوف تطوافي، وأقبل مثلي على بلاد ما لها في نفسه صورة، ولا له فيها صديق، وفارق أهلاً إليه أحبة، وصحباً عليه كراماً، وكانت حاله كحالي، عرف صدق مقالي!

وصفر القطار وسار، وطفقت ألوح بمنديلي لصديقيّ الأثيرين أنور وحسن حتى داراهما عني الظلام، فنظرت حولي فإذا أنا وحيد في العربة الفخمة، لا أنيس ولا جليس، فكر فكري راجعاً إلى بغداد. . .

بغداد، يا مهد الحب، يولد الحب على جسرك الذي تحرسه (العيون)، وينمو في زوارقك ذات الأجنحة البيض التي تخفق كخفقان قلوب راكبيها، ويشب في كرخك وتحت ظلال نخيلك

فتشوا كم تحت الثرى من بقايا القلوب التي حطمها بسهام (العيون) هذا المخلوق الجبار الذي ولد على الجسر شابا، ونما في الزورق، واكتهل في الكرخ، ثم لم يمت لأنه من أبناء الخلود

سلوا أرض بغداد: أعندها خبر من شهداء الغرام؟

سلوا جو بغداد: أين النغمات العذاب التي عطرت نسيمه بعطر الجنة، فهزت قلوباً، وهاجت عواطف، وأضحكت وأبكت، وأماتت وأحيت؛ هل أضعت ويحك هذه الثروة التي لا تعوض؟

سلوا الجسر. . . يا (جسر بغداد) إن ما بقي من حديثك قد ملأ كتب الأدب، حتى لم يعرف الناس سوقاً للعواطف والأفكار والعبر أكبر من جسر بغداد، فأين سائر أخبارك؟

كم ضممت ذراعيك على عشيقين فنعما بينهما بلذة الحب! وكم تركت حبيباً ينتظر فلا يرجع بعد الانتظار إلا بالخيبة والأسى! وكم عطفت على بائس منكود، وأعرضت عن منكود بائس، فأريت الأول من مشاهد الحياة ما هون عليه ما هو فيه، وزدت الثاني بؤساً ونكداً؟ وكم وعيت من أسرار الحب والبغض والفرح والحزن، والغنى والفقر، والعزة والذل، وكل ما تحتوي الحياة وتشمل النفس من ألوان؟ كم رأيت من حصاد الأدمغة وثمرات القلوب؟

كم مدت تحت أقدام خليفة كانت تصغي له الدنيا إذا قال لأنه ينطق بلسان محمد، وقائد كانت تخضع له الأمم إذا سار لأنه يلوح بسيف محمد؟

يا (جسر غازي) الجديد، الهائل العظيم، أعندك نبأ من ذلك الجسر الذي كان عالماً من العوالم؟ والذي كان سُرّة الدنيا وقطب رحاها؟ وكان للجد إذا جد الجد، وللهزل إذا جاز الهزل، فحوى المجد من أساسه، وجمع المتعة من أطرافها؟

وهذه المنارة المنحنية المائلة في (سوق الغزل) تنظر بعيني أم ثكلى. . . سلوها أين مسجدها الذي كان يضيق على سعته بالمصلين، حتى تمتد الصفوف إلى الشارع ثم تتتالى حتى تبلغ النهر؟ أين أولئك العلماء الذين أترعوا الدنيا علما وملئوا آفاق الأرض نوراً وهدى؟ أين مواكب الخلفاء حيث. . .

الخيل تصهل والفوارس تدّعي والبيض تلمع والأسنة تزهر

ومشيهم في رحاب بيت الله. . .

. . . مشية خاشع متواضع ... لله لا يزهي ولا يتكبر

أين فرسان المنابر وأبطالها؟ أين جيران المحاريب وجلامها؟ أين. . . أين. . .؟

يا أسفي! لقد سرق المسجد، وهدم المنبر، وضاع المحراب، ولم تحفظ الحجارة يا بغداد مآثرك ومصانعك، ولاوعت الأرض ذكريات حبك، ولا أبقى الجو رنات عيدانك. . . أفلا حفظتها قلوب اقسم أصحابها أنهم ذاكروا عهدك وأنهم مرجعوا مجدك؟

فأين مسجد بغداد الجامع يا مديرية الأوقاف؟ أين المسجد يا إدارة الآثار؟ أين المسجد يا من تخذتم المسجد بيوتاً ودكاكين وتركتم المنارة منحنية عليه تبكي!

أين المدرسة النظامية يا من أقمتم على أنقاضها سوق الشورجة لتبيعوا فيه البصل والثوم - وقد كانت تباع فيها حيوات العلماء وعصارات عقولهم وقلوبهم؟. . .

لا تحزني يا بغداد واصبري فإن كل شيء يعود ما بقي في القلب إيمان، وفي الفم لسان، وفي اليد سنان

وتلفت ورائي فإذا بغداد قد اختفت وراء الأفق. . . وغابت مسارب الأعظمية التي تحاذي النهر، تتكشف تارة فتضيء، ثم تختفي في ظلال النخيل كشاعر منفرد يتأمل، أو محب معتزل يناجي طيف الحبيب، ويسامر ليالي الوصال التي تلوح له صورها. . . والنهر يطلع عليها مرة بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه أمنية بدت لحالم، ثم يحجبه عنها النخيل، ويمحوه الظلام كما تمحو الحياة بواقعها الأحلام وتطمس صور الأماني. . . وغابت شوارع الصالحية ذات الفتنة والجلال وغابت المآذن الرشيقة، وغابت القباب. . . وبقيت أنا والماضي!

هذا الماضي الذي طالما قاسيت منه، وطالما كابدت. . . ثم كلما أوغلت به انحداراً في أعماق نفسي ودفنته في هوة الذكرى وقلت مات، عاد حياً كاملاً تثيره نغمة وتهيجه صورة ويبعثه بيت من الشعر. . . فيبعث بحياته آلامي. . .

غابت، فسلام على بغداد، وأشهدوا أنه ما بعد دمشق بلد أحب ألي من بغداد، ولا بعد العتابا نغمة أوقع في قلبي من الأبوذية، ولا بعد الحور شجر أجمل في عيني من النخيل، ولا بعد بردي نهر أعز على نفسي من دجلة. . .

استغفر الله! إلا حرم الله ومدينة نبيه، فهما والله أحب البلاد ألي، وماؤهما ألذ الماء في فمي، وشجرهما، أبهى الشجر في بصري. . .

السلام عليك يا بغداد ولو نفيتني عنك إلى كركوك، وعلى ساكنيك السلام. . .

(ثانوية كركوك)

علي الطنطاوي