مجلة الرسالة/العدد 330/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 330/رسالة النقد
لا بد مما ليس منه بد
حول كتاب
بقلم الدكتور بشر فارس
قال لي ناس - وأهل الفطنة كثير -: رأيناك تشهر القلم في وجه بعضهم إرادة الذود عن حمى العِلم، إذ قلتَ (الرسالة 314): (إن العلم في مصر أمسى شيئاً مقدساً له سَدَنته وله حراسه، فكيف يأخذنا القول بالظن والكلام المتحدي والجدال المتحكم والتظاهر بالتثبت والدراية). ونصحتَ لمن عنَّ له التطاول أن يطيل الروّية، وبصرتَه عواقب أمره (إذا هو أقبل على الاشتغال بالعلم أو على نقد من توفر عليه، لأن النقد لا ثمرة فيه إذا حاد عن خدمة العلم وحده). وهذا الناقد ينقضه كلامك فيكتب مقالاً وثانياً وثالثاً، وأنت معرض عنه وقد قلتَ كلمتَك فسارت. فاعلم أن في عنقك أن تكشف عما يجب الكشف عنه مادام المتستر ينتفض فتنزلق المناظرة على يديه إلى مماحكة.
قال لي ناس. . . فقلت: شهرت القلم من قبل للسبب الذي تعرفونه، فلما رأيت الرجل يلوّى قلمه ويكابر، قلت في نفسي: هذا الوادي لا أنزل فيه ولا قَبل لقلمي بالوثب في منحرفاته. إن إسماعيل أدهم تخرّج في جامعة موسكو سنة 1933 على قول مجلة الحديث (حلب 1938)، وأنا في غير هذه الجامعة تخرجت؛ وقد لقّنني من أدبني أن ألتزم طريق الحق كيفما دار وحيثما انقطع ولا أدري كيف يكون التلقين في جامعة موسكو. قلتم إن المناظرة انزلقت على يد الخصم إلى مماحكة، فحسبي اليوم أن أدوّن ما يؤيد قولكم
قلت كلمتي في (الرسالة) بعد نقد أدهم الأول لكتاب (مباحث عربية). فردَّ أدهم في الأعداد 317، و 326، و 328. وكنت أنا وغيري نرقب كيف يحاول أدهم التنصّل مما ألصقته به، فأخفقت الرقابة.
كنت قد كتبت إن أدهم (يختلق القول). إذ يقول: (يعتبر الباحث (يعنيني) كلمة البصيرة مقابلاً (يريد: ناظرة إلى) في ص 57 من مباحث عربية). وزدت أنه من الغريب أني لم أثبت كلمة إزاء كلمة البصيرة في الصفحة المذكورة وقد أطلعت صاحب (الرسالة) ورئيس تحرير المقتطف على ذلك، فمن أين جاء أدهم بالكلمة الفرنسية، وكيف جعلني (أعتبر) ما يجهل أنا (معتبره)؟
ثم كنت كتبت أن أدهم (يرتجل المصادر) ودليلي أنه استشهد بالإصحاح الرابع عشر من (سفر دانيال) من العهد القديم للكتاب المقدسّ، على حين أن (سفر دانيال) كله أثنا عشر إصحاحاً فقط. فبينت كيف اقتبس أدهم ذلك المرجع الوهمي من كتاب (ملتقى اللغتين) لمراد فرج، وكيف سقط هذا المرجع هناك من باب الغلط المطبعي - إذ الصواب الإصحاح الرابع - فسطا عليه أدهم من غير تحقيق ولا رؤية. ثم إني أتيت بدليل آخر مجمله أن أدهم استشهد، عند الكلام على أنساب العرب، بالجزء الثالث من (الفهرست) لابن النديم وعين الصفحة 187 فبعد أن نفيت احتمال غلط الطبع بينت أن (الفهرست) لم يخرج إلا في جزء واحد، وأن الصفحة التي عينها الرجل لا أثر فيها لما استشهد به. وكان أدهم قد أسند نص الاستشهاد إلى أبن حزم، فسألته من ابن حزم هذا وما كتابه، ولابن حزم المشهور ستة وثلاثون مؤلفاً؟ فاستخلصت من هذا كله أن أدهم اقتبس المرجع إلى (الفهرست) من كتاب من الكتب الحديثة من غير أن يراجع المظنة، دأبه مع (سفر دانيال). هذا وأخبرني من هو أرسخ مني في العلم قدماً بأن ما استشهد به أدهم إنما هو وارد في الجزء الثالث من كتاب (بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب) للألوسي. فانظر كيف يكون الاضطراب في تناول المراجع.
كتبت ذلك فأحجم أدهم عن الدفاع، أو قل أبي التسليم: أحَياء أم مكابرة؟
أما نقد أدهم الثاني فمما لاُ يلتفت إليه؛ فيه عناد ومغالطة وتحدٍّ وعود إلى اختلاق القول وتهويل ونقد عن هوىً. والله يعلم أنيً لست ممن يعتبط الكلام ويرسل التهمة؛ فرجائي من القارئ أن يلمس بعض الأدلة:
- أما العناد ففي إصرار أدهم على أن المسلمين الذين اهتديتُ إليهم في فنلندة سنة 1934 لم يرحلوا إليها عقب الثورة البلشفية في روسية، على حسب ما أثبتُّ نقلاً عن هؤلاء المسلمين أنفسهم واستناداً إلى بيان موظفي الحكومة الفنلندية. وإن أدهم يحملنا على أن نظن أن أولئك المسلمين من سلالة طائفة من الترك هبطوا فنلندة في (القرن السادس عشر للميلاد)، وحجته هنا أن مدينة (توركو) الفنلندية تشتق اسمها من هؤلاء الترك. فرددت على هذا قلت: إن مدينة (توركو) تصعد إلى المائة الرابعة عشرة، واستشهدت فيما استشهدت به بدائرة المعارف البريطانية. ولكن أدهم لم يدفع شهادة دائرة المعارف البريطانية - ولعل هذا السفر مما لا يعول في جامعة موسكو - بل عاد إلى تشكيكه في تاريخ هجرة أولئك المسلمين، وقام يستند إلى كتب ألفها علماء من روسية ليبرهن على أن جماعة من الترك رحلوا إلى فنلندة قبل الثورة البلشفية، وأن أمرهم مشهور.
- وحسبي اليوم أن أنقل هنا رسالة بعث بها إلي رأس المستشرقين في روسية، وهو الأستاذ كراتشكوفسكي أستاذ العربية وآدابها في جامعة لننجراد (وهي غير جامعة موسكو، كما يعرف أدهم نفسه) ومن أعضاء الأكاديمية الروسية فيها، (وقد اطلع صاحب مجلة (الرسالة) ورئيس تحرير المقتطف على تلك الرسالة) ونصَّها:
(سيدي الأستاذ الفاضل، سلاماً واحتراماً وشكراً على ما أنعمتم علي به من رسالتكم اللطيفة عن أحوال المسلمين في فنلندا، وقد قرأتها بكل إمعان ولذة في مجلة الدراسات الإسلامية، ولكم الفضل في لفت أنظار العلماء إلى هذه الزاوية من العالم الإسلامي الحاضر) ا. هـ
وعلى هذا فقد شهد شاهد من أهله، وأي شاهد!
وهل ثمة حاجة بعد ذلك إلى أن أخبرك بأن (مجلة الدراسات الإسلامية) التي يخرجها المستشرق ماسينون في باريس نشرت حديثي عن أولئك المسلمين على أنه (اكتشاف)، نشرته بالفرنسية سنة 1934 قبل أن أنقله إلى لغتنا في (مباحث عربية)؟ أو إلى أن أخبرك بأن المستشرق جِبّ من أساتذة جامعة اكسفرد بعث إلي برسالة (اطلع عليها صاحب مجلة الرسالة ورئيس تحرير المقتطف) يقول فيها إنه لم يك يعلم شيئاً عن أولئك المسلمين؟
- وأما مغالطة أدهم، فقد بينتها من قبل عند الكلام على ارتجاله لعنوان كتاب جعل اسمه أول الأمر (مجموعة محاضرات دركايم عن علم الاجتماع في السوربون)، حتى إذا ضيقت عليه المسالك قال: (الرسالة 317 وردّى 320) إن هذا الكتاب يحمل أسم (قواعد منهج علم الاجتماع) تحت عنوان شامل هو (أعمال السنة الاجتماعية) (وهي مجلة دورية)، وقد حاول عبثاً أن يقحم كلمة (مجموعة) في هذين العنوانين. ثم إنه اعترف بعد ذلك أنه كان قد استند إلى ترجمة الكتاب بالإنجليزية. فكيف يناقشني - أول ما يناقشني - في الأصل الفرنسي ويعين صفحات منه؟ - وأما تحدي أدهم في القول فيدخل تحته ما بدا له أن يكتب في جانب اللغة. ووالله ما أدرى ما الذي استدرج الرجل إلى اقتحام النقد اللغوي، وهو لا يزال يأخذ لغتنا عنا كما يقول (الرسالة 313 ص 331)، وهو يريد الاعتذار من اقتباس تعبيرات لي: (إنني حين أكتب بالعربية فأنا أكتب بلغة غير لغتي الأصلية، ومن هنا بعض ما يجئ على قلمي من التعابير الخاصة لكتاب اليوم استداركاً للمعنى الذي في ذهني). هذا ولا شك عندي أن القارئ لمس ارتباك أسلوب أدهم وركاكة عبارته واختلال مواقع ألفاظه، وكثيراً ما قوّمت تعبيره، وأنا أناظره حتى يفهمه القارئ. وهيهات أن أجادل أدهم فيما جاء به في نقده الثاني دفاعاً عن آرائه اللغوية الأولى. فقد نصحت له من قبل أن يقرأ النوع السابع والعشرين من (المزهر) للسيوطي حتى يتبين معنى (المترادف)، ونصحت له فوق ذلك أن يراجع دواوين اللغة والمؤلفات الفلسفية في العربية والفرنسية جميعاً لعله يعلم أن (الأخلاقيات): بمعنى شيء و (السلوك) شيء آخر. ماذا أصنع وأنا لا أملك إلا النصيحة؟
وحسبي اليوم أن أبرز للقارئ جانبين من نقد أدهم الثاني في باب اللغة، قال أدهم (الرسالة 326 ص 1924) - وهو على كل قول قدير - (وليس جعلنا (يعني نفسه) لفظة المتشابهة ناظرة إلى أفرنجياً بدليل (أضف: على) قصور في العلم باللغة. لأن المتشابهة والمتباينة (كذا والله!) من الألفاظ التي تنظر إلى أهـ. هذا وأنت تعلم أن لفظة تفيد مفاد كلمة (المترادف) عندنا. فالله كيف تكون الألفاظ المتشابهة والمتباينة ناظرة معاً إلى المترادفة، وبين المتشابه والمتباين ما بين الأبيض والأسود؟ - ثم قال أدهم (الرسالة 326 ص 1996): (أما عن مجيء هذه الروايات (الخاصة بالمروءة) من الجاهلية أو عدم مجيئها، فلا يؤثر على (يريد: في) القضية في شيء، لأن جلّها أتى من صدر الإسلام، والعربية لم تتغاير (يريد: تتغَّير؛ قد والله سئمت تهذيب أسلوب الرجل!) فلا معنى للاحتجاج بأنها ليست (يعني الروايات) من الجاهلية، وإذن يبقى معنا لفظة المروءة نازعة منزع السيادة في الجاهلية وصدر الإسلام، بعكس ما حاول أن يوهم القارئ بطرق ملتوية الدكتور بشر في مباحثه العربية) أهـ. فهل للأستاذ الدكتور أدهم أن يراجع في (الصاحبي) لابن فارس باباً لطيفاً قريب المنال عنوانه (الأسباب الإسلامية) ليتبين له أن العربية اتفق لها أن (تتغاير) كما يقول، بانتقال أهلها من الجاهلية إلى الإسلام إذ (حالت أحوال، وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع آخر. فعفى الآخر الأول). ليراجع الأستاذ الدكتور أدهم ذلك الباب، فبه إليه حاجة، وليطمئن إلى أن ابن فارس لا (يوهم القارئ بطرق ملتوية) مثل بشر فارس
- وأما عود أدهم إلى اختلاق القول فقصته أن الرجل قال (الرسالة 328 ص 1995) إني ألفتُ رسالة بالفرنسية عنوانها (العرض عند عرب الجاهلية وموضوعها أن أخلاق عرب الجاهلية تندرج تحت معنى العرض، ثم زاد) (ولما كان المستشرق جولدتسيهر قد كتب فصلاً كاملاً عن المروءة ذهب فيه إلى أن المروءة كانت تنزل منزلة الفضيلة عند عرب الجاهلية. فقد أضطر الدكتور بشر أن يعود عام (يريد: سنة) 1937 ليناقش رأي جولدتسيهر فكتب مادة مروءة في تكملة دائرة المعارف الإسلامية ثم توسع بالمادة فكان منها موضوع مبحث المروءة من كتاب مباحث عربية) , أهـ
والرد على هذا أن كتابي (العرض عند غرب الجاهلية) مطبوع ومتداول، وهو موجود في مصر، في دار الكتب مثلاً وعند نفر من علمائنا وكتابنا. فمن ذا الذي يقول إني لم أناقش في هذا الكتاب - هو الرسالة التي نلت بها شهادة الدكتوراه من السوربون - رأى جولدتسيهر ومن تلا تِلوه من المستشرقين؟ إني لم أتحول في مبحثي الذي نشرته لي دائرة المعارف الإسلامية الخارجة في هولندة ولا في مبحثي المدرج في مباحث عربية عما جاء في كتاب العرض عند عرب الجاهلية. إن ما ذهبت إليه هنا هو ما ذهبت إليه هنالك مع زيادة في سياقة النصوص وإفاضة في عرضها؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله! وحسبك موازنة ما جاء في كتابي الفرنسي (ص30 - 32) بما جاء في مباحث عربية (ص 72 - 74) وقد اطلع على ذلك صاحب مجلة الرسالة ورئيس تحرير المقتطف
- وأما تهويل أدهم فيدل عليه ما تقدم بك من ارتجاله للمصادر، وإن قال من قبل متواضعاً (الرسالة 311 ص 1225): (أظن أن الدكتور بشر فارس لا ينكر علينا أننا أكثر الكاتبين في العربية استقصاء للمصادر). ثم دعني أخبرك بأن أدهم سلط قلمه ثانية على مبحثي في المروءة فاستغرق نقد ثلاث صفحات من الرسالة (328). ولما رأيت ذلك قلت في نفسي: لعل الناقد يدفع ما ذهبت إليه بتضعيف النصوص التي استخرجتها وهي تزيد على ثلاثمائة سواء تصريحاً أو تلميحاً، أو لعله يسقط مبحثي بالطعن في المراجع التي عولت عليها وهي تقارب المائة. ذلك ما يرقبه الناس من الناقد الثبت فيما أعلم. فماذا أصبت في تلك الصفحات الثلاث؟ جاءني أدهم - حياتك - بنصوص دون غيرها، فحرفها عن مواضعها، وقدم من سياقها وأخر، وحملها ما لا تحمل ثم استخلص من ذلك التشويش أني أبعد ما يكون عن البحث اللغوي البسيط. بالله ثم بالله لِمَ لمْ يأت بنص من عنده، ولو بنص واحد؟
وأظرف من هذا أنه أثبت مظان النصوص في نقده ناقلاً إياها من المراجع المثبتة في هوامش كتابي. ألا من يقول لي ما الذي يدعوه إلى أن يدوَّن مثلاً: (كتاب الأردبيلي مخطوط في آيا صوفيا رقم 2049 وهو مخطوط في التصوف كما وصف ذلك الأستاذ تيشنر في مبحثه المعنون باسم (هنا العنوان الألماني)، والمنشور بمجلة التي تصدر عن همبرج مجلد 24 ص58)، ما يدعوه إلى مثل هذا التعالم، وكل ما دوَّنه مثبت في مباحث عربية) (ص 59 المتن والحاشية)؟ وعلى هذا ما دوَّنه بشأن كتاب جولدتسيهر، وكتاب العرض عند العرب الجاهلية (راجع (مباحث. . .) ص 72، 74). وخير للأستاذ أدهم أن يعدل عن التعالم بعد اليوم، فلربما حفر حفرة وقع فيها. من ذلك الحفرة التي حفرها، وهو يسطو (على ملتقى اللغتين) لمراد فرج، ومن ذلك أيضاً قوله (الرسالة 328 ص 1995): (المعنى الحقيقي وياليته قنع بالسطو على التركيب العربي وحده، (وهو في (مباحث عربية) ص 60)! إلا أن وسوسة التهويل غوته فزاد كلمة فرنسية في صيغتها المؤنثة. فلم يؤنثها في نقده وهي واردة فيه من غير موصوفها؟ القصة أن أدهم نسى الموصوف في طيات (مباحث عربية) وهو (أي التعريف) فجاءت الصفة مبتورة، ولم يفطن أدهم إلى وجوب تذكيرها حتى ترد صيغة الإطلاق. ولو كان أسند كل هذا إلي لكان خرج من ظِنَّة السطو. . إلا إنها الوسوسات، لطف الله بنا!
- وأما نقد أدهم عن هوىَ مبيَّت في النفس فواضح في عناده عند الكلام على مسلمي فنلندة. وكان قد اجتاب النقد اجتلاباً من قبل ثم عاد فذهب في اللجاج، على ما قدمت، لأنه - هو المتخرج في موسكو بعد سنة 1918 - يريد أن يجعلنا نرتاب في أن نفراً من الناس بل من المسلمين يخطر لهم أن يفرَّوا من الثورة البلشفية (أو (الثورة الاشتراكية الكبرى) كما يسميها هو: الرسالة 311 ص 1230).
وأوضح من هذا أن أدهم خرج من نقده الثاني بهذه النتيجة: (ظهرت عقلية الدكتور بشر الشكلية بأجلى مظاهرها وتبين لنا كيف أن هذه الشكلية مساقة إلى أخطاء في البحث لا يقع فيها من له دراية بسيطة بالبحث اللغوي المستقيم (يعني نفسه طبعاً). والواقع أن بحث الدكتور بشر في المروءة ضعيف لا يثبت على نقد ولا يمكن أن يواجه مراجعة علمية صحيحة)
وهنا لا أحب أن أذكر أدهم بأن مبحث المروءة نشر من قبل بالفرنسية والإنجليزية والألمانية في دائرة المعارف الإسلامية الخارجة في هولندة ولم يظفر بمثل هذا الحكم. ثم لا أحب أن استشهد بآراء من كتب عندنا في (مباحث عربية) مثل العلامة الأب الكرملي، والأديب المترسل الأستاذ المازني، ومدرسَين من الجامعة المصرية وغيرهم. فلربما قال أدهم (وهو على كل قول قدير): إن هؤلاء وأشباههم لا (دراية لهم بالبحث اللغوي المستقيم). ثم لا أحب أن أطلعه على ما قاله المستشرق بروكلمن في الجزء الثالث من تكملة تاريخ الآداب العربية؛ فلربما قال: إن بروكلمن لا يستطيع (مراجعة علمية صحيحة). بل ليأذن لي الأستاذ الدكتور أدهم أن أدوَّن اليوم حرفاً لحرف ما قاله في نقد الأول لكتابي:
(وفي هذا المبحث (مبحث المروءة) يبرز الباحث (يعنيني (مع الأسف) رجلاً مدققاً عرض للموضوع في إحاطة عجيبة) (الرسالة 312 ص 1274).
ثم هذه خاتمة نقد الأول: (هذا هو كتاب مباحث عربية. وهو كتاب فريد في موضوعه وفي نهج بحثه وفي منحى تحقيقه، يدل على أن صاحبه صاحب ذهنية علمية متزنة، يتصدى للموضوعات على أساس من التقصي للأصول والفروع مع دراية تامة بأساليب البحث (غريب، غريب!) والمآخذ التي أخذناها على أهميتها لا تنال من قيمة البحوث ولا من الجهد العلمي المبذول فيه. والواقع أن الدكتور بشر فارس شق الطريق للبحث العلمي الجدي (العفو!) ولو لم يكن له غير هذا الجهد لكفى ذلك التقدير. إسماعيل أحمد أدهم) (الرسالة 312 ص 1275)
إن السر في هذه الردَّة أنى أدهم كتب نقده الثاني وهو ناقم حانق، لأن بينت في المقتطف (أغسطس) والرسالة (314) كيف يجتلب النقد اجتلاباً ويرتجل المصادر ويتحدى في القول ويتعالم فينزلق إلى الاعتساف والغمر. ولم أجد بداً حينئذ من تبيين كل هذا - على ما قال أدهم في خاتمة نقده - حتى تستقيم موازين النقد عندنا وينزجر الهاجم على العلم من غير بابه. فلما عجز الأستاذ الدكتور أدهم عن دفع البينة فزع إلى المماحكة والمهاترة، قطع الله الحزازات التي تأكل النفس!
وإن قال أدهم (وهو على كل قول قدير): إن له أن ينكر رأياً دوَّنه فيستبدل به ضده، بعد مضىَّ أربعة أشهر (والحر في مصر شديد، ييبس كل شيء)، قلتُ ما دمتَ تناظر في العلم كأنك تداور في السياسة على الطريقة الحديثة، فخذ شهادة أخرى ممن يُجَلّ به من (أهلك)، وهي رسالة بالعربية بعث بها إلى الأستاذ كراتشكوفسكي، وقد اطلع عليها صاحب مجلة الرسالة ورئيس تحرير المقتطف: (سيدي العزيز الفاضل. سلاماً واحتراماً وشكراً لكم على إرسال كتابكم الجديد (مباحث عربية) وقد قرأته في هذه الأيام أيام العطلة المدرسية، وانتفعت منه كثيراً. لا يخفى عليكم أن في قراءته بعض صعوبة على من لم يتعود طريقاً علمياً صرفاً في البحث والاستقرار ومع ذلك في الكتاب درس مهم وخطوة جديدة في سبيل ترقية العلم العربي الحديث، عسى أن ينتفع بها أبناء العربية في كل أقطارها. حتى بدعة الرموز، الرموز الاختزالية رأيتها في مكانها وهي بدعة مستحسنة، ولا يتعسر إدراكها واستعمالها على كل من يتمرن فيها دقيقتين. وفي الإجمال قد خدمتم العلم والآداب بهذا الكتاب الجديد خدمة تذكر وتشكر ودمتم على مساعيكم الحميدة والنجاح حليفكم وذوو العقول السليمة في الشرق والغرب أصدقاؤكم. أغناطيوس، كراتشكوفسكي، الروسي) أ. هـ - ألا حسبي صداقة (العقول السليمة)!
وبعد فهذه كلمة ثانية، أرسلها مكرهاً، ولكنها رعاية العلم الحق وإقامة النقد الصحيح ولن أعود إلى مثلها مع إسماعيل أحمد أدهم، فإن قلمي لمشغول عن مماحكته بما هو أجل شأناً وأعم نفعاً
ب. ف.