مجلة الرسالة/العدد 330/التاريخ في سير أبطاله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 330/التاريخ في سير أبطاله

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 10 - 1939



مازيني

(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل

بلاء الأنبياء)

للأستاذ محمود الخفيف

لئن كان في المجاهدين رجل أعوز في جهاده المرير كل سلاح فتسلح بإيمانه فحسب ومشى يهزأ بكل قوة حتى تغلب بذلك الإيمان وحده على جميع القوى التي غالبته، واثبت في النهاية أن المثل العليا في مختلف أوضاعها هي خير هاد للبشرية إلى ما تنشد من كمال، فذلك الرجل هو يوسف مازيني رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل بلاء الأنبياء.

وما نجد في الذين خلوا من قبله من المجاهدين والزعماء من كان مثله في ذلك؛ فهذه جان دارك الفتاة الناعمة على ما توافى لها من إيمان قد لبست الحديد واعتلت صهوة جواد وأقدمت يحف بها الجند وتلتمع من حولها السيوف؛ وهذا وشنجطون الزعيم الشيخ قد خاض إلى النصر غمرات الحتوف على رأس الأنجاد البواسل من جنوده؛ ثم هذا لنكولن المجاهد الصابر لم يجد بداً آخر الأمر من امتشاق الحسام ليصل به إلى ما لم تجد في الوصول إليه وسيلة من الوسائل.

لذلك كان مازيني بدعاً من الزعماء، وكان كفاحه فاتحة عهد جديد في كفاح المغلوبين على أمرهم، ثم كان جهاده مثالاً يحتذي كما كان صبره على ما لقي من الأذى ومجابهة حوازب الخطوب أحقاباً طويلة وحياً للمجاهدين من بعده يوحي البطولة إلى نفوسهم ويربط على قلوبهم ويحبب إليهم التضحية والفداء. ومن هنا كان خطر مازيني في تاريخ الحرية، ثم من هنا كان أساس عظمته ومبعث قوته.

أما في الذين خلفوا من بعده فقد نستطيع أن نضع إلى جانب أسمه أسم سعد في مصر واسم غاندي في الهند؛ فلقد انتهج هذان البطلان منهجه عامدين أو غير عامدين، إذ كان سلاح كل منهما إيمانه فحسب، وكان ما تعرض له كلاهما من ألوان الخطوب بحيث يبوئهم شك مكان كبار الأبطال، كما كانت قضية كل منهما قضيته وإن اختلفت الظروف وتباعدت الأيام.

ولد يوسف مازيني في جنوه في اليوم الثاني والعشرين شهر مايو سنة 1805؛ وكان أبوه طبيباً يتمتع بقسط من الشهرة في تلك المدينة، وكان رجلاً رقيق الحاشية، عطوفاً حتى ليمد يد المساعدة أحياناً إلى المرضى دون أجر، وإن كان يعنف في بعض الأحيان على أسرته ويريها شيئاً من الغلظة والتحكم. وكانت أمه امرأة صالحة قانتة قوية الخلق ذكية الفؤاد، ولقد ورث الصبي هذه الخلال فما ورث من أمه فكان أكثر شبهاً بها منه بأبيه.

ونشأته هذه الأم قوياً، فلقد كانت تعني أشد العناية بإعداد أبنائها لملاقاة مصاعب الحياة يوم يجابهون الحياة؛ ودرج الصبي في عصر كان ينذر بجسيمات الأمور، عصر كانت البلاد فيه أشد ما تكون حاجة إلى أولى الفطنة والعزم من الرجال؛ وراح يستبقل الشباب في الوقت الذي كانت إيطاليا تستقبل فيه فترة من حياتها كانت كفترة الشباب من حياة الأفراد.

ولد مازيني بعد ثلاثة أعوام من تتويج ابن الثورة بونابرت إمبراطوراً على فرنسا؛ وكانت لا تزال انتصاراته في إيطاليا تشغل أذهان بنيها، تلك الانتصارات التي وضع بها أساس مجده وعظمته؛ وكانت نفوس الإيطاليين لا تزال تجيش بما هبط عليهم من وراء الألب مع الفاتحين من مبادئ تلك الثورة التي افتتحت فصلاً جديداً في تاريخ بني الإنسان؛ وأحس ذلك الشعب كما أحس غيره من الشعوب أنه تلقاء فجر عصر جديد يخالف ما سلف من العصور أشد المخالفة، وكانت ترف على جانبي ذلك الفجر أطياف جميلة بسَّامة ولدت كلها من النور كأنما تهبط من عالم غير هذا العالم الذي ألف الظلام؛ ولقد اشتد هيام الناس بتلك الأطياف الساحرة التي سموها الحرية والديمقراطية والمساواة، وراحوا يمنون أنفسهم بالصباح الجميل بعد ليلهم الحالك الطويل.

ولكن الصبي لم يكد يناهز التاسعة من عمره حتى كان الإمبراطور في قبضة أولئك الذين كان يزعجهم بالأمس مجرد ذكر اسمه؛ وأرسل (القورسيقي الصغير) كما بات يدعوه أعداؤه إلى جزيرة إلبا حيث يلاقي ذل الأسر؛ وشاعت في طول أوربا وعرضها أحاديث القومية ويقظة الشعوب وتحطيم الاستبداد وما إليها من العبارات التي ولدها الجيل، وتكشف الفجر عن طيوف جديدة ازداد بها طلاقة وسحراً.

على أن الناس في إيطاليا وغير إيطاليا ما عتموا أن أدركوا أنهم كانوا تلقاء فجر كاذب، فلقد راح أرباب العروش وأقطاب السياسة يعدون الأغلال والسلاسل بدعوى القضاء على عوامل الفوضى والضرب على أيدي الخارجين على حكامهم الشرعيين؛ وهبط الليل، وانحسرت الموجة العاتية التي انبعثت من فرنسا، ولكن لتتجمع فتتلاطم فتندفع فتحطم الجسور وتجرف السدود.

ويستمع الصبي إلى هذه الأنباء في بيته حيث كان يلتقي خلان أبيه، فلا يفهم منها إلا بمقدار ما يسع عقله الصغير؛ ولكنه كان صبياً قوي الخيال منذ حداثته، وعصر الطفولة هو عصر الخيال الخصب، هو ذلك العصر الذي يخيل إلى كل طفل فيه أنه قادر على أن يكون بطلاً ككل من يسمع سيرهم من الأبطال؛ ولذلك تحرك خيال الصبي أكثر مما تحرك عقله، وامتلأ لا ريب بشتى الصور عن ذلك القورسيقي الإيطالي المولد الذي جاب البلاد قاصيها ودانيها فاتحاً ظافراً ليستقر آخر الأمر أسيراً في جزيرة إيطالية. وما الذي هزم ذلك الجبار وأنزله من عليائه؟ ذلك ما يتساءل عنه الصبي. وماذا يعني أبوه بقوله اتحاد الشعوب ضده؟ ولكن خياله القوي لا يلبث أن يسعفه بالجواب، فهو وخلانه الصغار إذا اتحدوا على صبي كبير فإنهم يخيفونه ويهزمونه؟ وهكذا يتعلم زعيم الغد أول درس من دروس الجهاد ويفطن إلى أول عدة من عدد القوة.

ويحار الصبي أحياناً بين مادحي ذلك الجبار وبين قادحيه؛ ولئن استطاع أن يدرك أنه يبغض لأنه كان مستبداً يفرض إرادته على الشعوب، فما يقوى عقله الصغير على متابعة الذين يمدحونه والذين يسندون إليه أنه خطا بإيطاليا خطوات واسعة نحو الاتحاد فقضى على حكم البربون وحكم البابا، وأشاع في البلاد على رغم خضوعها له شعور القومية والوحدة. لا يستطيع الصبي أن يفهم ذلك جلياً، وإن كان خياله لا يتقاصر عن تصور الوحدة ولو في أبسط صورها؛ وأنه ليدين لهذا الخيال بالكثير مما يتعلم في هذه السن. وهل يفلت من الخيال في غد يوم يكون شاباً مثقفاً أو كهلاً مجرباً؟ كلا. فلسوف يكون الخيال من أعظم أسباب قوته ومن اشد دعائم إيمانه ومن أبرز خصائصه؛ وإن كان بعض دارسيه يعيبونه عليه وينكرون إسرافه فيه، وهم لو أنصفوا لرأوا فيه عنوان محامده. وكم كان للخيال من فضل على كثير غيره من العظماء! ويجلس الساسة في فينا بعد واترلو يتحكمون في مصير الضعفاء ويقضون قضاءهم في إيطاليا كما قضوا في غيرها، فإذا سلطان النمسا يفرض على ولايتها وتضم جنوة إلى بيدمنت، وقد طالما مناها الساسة بالاستقلال، وتعود إلى البابا ولاياته وسلطته، وتقادم في نابلي مملكة تخضع للبربون، ويتفق ملكها سراً مع زعيم الرجعية العتيد في ذلك العصر مترنيخ على ألا يمنح شعبه دستوراً إلا بإذن من النمسا. وهكذا يفلح ذلك السياسي الماكر في تقسيم إيطاليا وتفريق كلمتها حتى ليحق عليها قوله: (إن إيطاليا ليست سوى اسم جغرافي).

وتخيم الرجعية على إيطاليا جميعاً وتطارد الحرية الشريدة أينما ظهر هيكلها المكدود أو لاح علمها الممزق؛ وينتقل الصبي من طور الخيال الغالب إلى طور العقل المتيقظ في مثل ذلك الجو البغيض

ولن يملل الصبي القراءة في تناول أعداداً قديمة من صحيفة الجيروند كان قد دسها أبوه بين كتبه الطبية مخافة الرقباء، وينهل ما شاء من معين عذب يروى غليل نفسه ويبهج روحه ويثبت فؤاده؛ ويحرم عليه وعلى التلاميذ الكتب التي تخشى الحكومة منها فلا يعطون إلا الكتب الكلاسيكية ليكون لهم فيها ما يبعدهم عن الآراء الثورية، ولكنهم يقرئون تاريخ الإغريق والرومان فيعجبون بالنظام الجمهوري ويطربون لما تقع عليه أعينهم من مبادئ الديمقراطية

ويستشرف الفتى للسادسة عشرة من عمره فتهز نفسه من أعماقها أنباء تتناقلها الألسن عما انبعث من الرجفات في أنحاء إيطاليا، فإن الناس حين ضاقوا بحالهم لم يجدوا بداً من تكوين الجماعات السرية وكان من اشهر هذه الجماعات جماعة الكاربوناري، وما زالت هذه الجماعة تنمو وتنتشر حتى كان لها أنصارها في أكثر الولايات! وكان لهذه الجماعة بحكم تكوينها رموز يعرفها أعضاؤها، فاسمها معناه (موقدو الفحم)، ومن مبادئها (طرد الذئاب من الغابات) ولعلهم يريدون طرد الحكام الأجانب من البلاد. على أن غاية الجماعة كانت تنحصر في القضاء على الاستبداد وإحلال الحكم الدستوري محله

وما حل عام 1820 حتى هبت الثورة في نابلي، وقد جاءت الأنباء إلى الكاربوناي هناك عن ثورة في أسبانيا؛ وأسقط في يد الملك فأجاب شعبه إلى الدستور؛ وحذا الكاربوناري في بيدمنت حذو إخوانهم في الجنوب، فاندلعت نيران ثورتهم في صورة لم يجد ملكهم بداً إزاءها من اعتزال الحكم، فقد خشي من النمسا أن يمنح شعبه الدستور؛ واتسع نطاق الثورة حتى شملت لمبارديا نفسها وكانت تخضع مباشرة لحكم النمسا

ولكن النمسا ما لبثت أن ساقت جيوشها فقضت على الثورات وأرغمت الثوار على الفرار ونكلت بمن وقع منهم في يدها، وأثبت مترنيخ لساسة أوربا مقدرته على مقاومة هذه الحركات، وإنه لينسى أن القوة المادية مهما بلغت لن تقضي على القوة المعنوية، وإن هذه الثورات إنما تستعر كما تستعر الجمرات تحت الرماد؛ وهل كانت الحرية إلا تلك الشعلة التي لا تزداد مع الضرب إلا توقداً واشتعالاً؟

وكان الصبي يمشي صحبة أمة ذات يوم في أحد شوارع جنوة فوقعت عيناه على فلول من الهاربين كانوا في طريقهم إلى أسبانيا، ورأى معاني اليأس تلوح في وجوههم المصفارة، كما رأى آثار الإعياء بادية في أجسامهم المكدودة، وكان بعضهم لا يجد ما يقتات به وقد عضه الجوع أياماً

واستقر في خاطره هذا المنظر فما يبارحه قط، وتحرك اليوم خياله وعقله معاً، وأخذته حال من الهم صرفته عن كل شيء حتى باتت أمه تشفق مما ألم به، ثم أخذ يفكر في أسباب هزيمتهم ويتتبع أنباءهم حتى اهتدى إلى حكم؛ فقال وهو لا يدري أنه كان يعبر عن الواقع (لقد كان من الممكن أن ينتصروا لو أن كل فرد قد أدى واجبه)

وتعلق خياله بالكاربوناري ومبادئهم فما يلتفت إلى شيء سواها، وكان يومئذ في سن اليفاعة، سن الأحلام والآمال، سن التوثب والتطلع إلى المثل التي ينسجها الخيال ويفيض عليها من سحره ومن تلفيقه، وهو ذلك الفتى الذي اشتد خياله حتى أشرف به على المرض. أنظر إليه كيف آلى على نفسه أن يلبس السواد منذ ذلك اليوم الذي رآه اسود في خياله، فلن يبدل ثيابه السود بعدها حتى يلفه الكفن ويضمه سواد القبر

وهكذا ينضم الفتى إلى الكاربوناري بآماله وقلبه، ويتحرق شوقاً إلى اليوم الذي يجاهد فيه بين صفوفهم، ويستعذب معهم الألم في سبيل قضية الحرية والدستور

ويعود إلى كتبه بعد حين وقد انطوت نفسه على ما لن تقلع عنه بعد اليوم؛ وكم وجه سواه من العظماء وجهتهم حادث بسيط تقع عليه أعينهم فيرون فيه على بساطته مالا يراه غيرهم، وتستشف نفوسهم من خلاله من المعاني مالا تستشفه إلا كبار النفوس؛ وتلك خلة يمتاز بها العظماء أبدا من سائر الناس. . .

وكان الصبي يدرس الطب ليخلف أباه، ولكنه أخذه الإغماء مرة وهو يشهد عملية جراحية، فمال به ذلك الحادث عن الطب فاختار القانون؛ وكان يحس بميل قوي إلى القانون، فلعله كان يراه أقرب إلى ما وطد العزم عليه، وإن يكن قد أبغض طريقة تدريسه وبرم بالكتب التي تشرح قواعده

على أنه كان يكثر قراءة الشعر والتاريخ ففيهما لخياله المشبوب مجال، ولروحه المتوثبة وحي؛ ولنفسه الحزينة عزاء. ولما أوفت به سنة على الشباب عرف بين أقرانه بفصاحة اللسان وصفاء الذهن وحماسة القلب وشدة الشعور وجموح الخيال

(يتبع)

الخفيف