مجلة الرسالة/العدد 33/فضائح المالية العليا في فرنسا

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 33/فضائح المالية العليا في فرنسا

مجلة الرسالة - العدد 33
فضائح المالية العليا في فرنسا
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 02 - 1934



للاستاذ محمد عبد الله عنان

(تتمة)

حدثت في فرنسا، مذ كتبنا مقالنا الاول، تطورات سريعة خطيرة لم تكن في حساب أحد؛ فان وزارة مسيو شوتان أو وزارة (الفضيحة) لم تستطع أن تواجه غضب الرأي العام أو أن تهدئ روعه؛ ووقعت في باريس وفي الأقاليم مظاهرات ومصادماات دموية خطيرة قتل فيها مئات وجرح ألوف: وشحنت حامية باريس بالجند المدجج تحوطا للطوارئ، ولاح مدى لحظة أن فرنسا ستغدو فريسة الحرب الأهلية، أو يتحكم فيها النظام الجمهوري لتقوم مكانه دكتاتورية مطلقة. ولكن وزارة دالاديية استقالت في الحال؛ واستدعى مسيو دومرج رئيس الجمهورية الاسبق ليؤلف وزارة ثقة قومية، وقد وفق مسيو دومرج الى تأليف وزارته من شخصيات قوية بعيدة عن ريب الفضائح الأخيرة، وهدأ الرأي العام نوعا، ووقفت المظاهرات مؤقتا. ولكن فرنسا ما تزال مترقبة جزعة، ومن المستحيل أن يتنبأ انسان بما قد يقع بعد هذا الهدوء المؤقت من الحوادث أو التطورات.

كانت فضيحة ستافسكي المالية التي فصلنا حوادثها وظروفها روح هذه التطورات الخطيرة وباعتها الأول. ويندر أن نجد في صحف التاريخ الحديث جريمة أو جرائم مالية كالتي ارتكبها ستافسكي، تحدث في سير الحياة العامة لامة عظيمة كفرنسا مثل هذه الآثار الفادحة، فتهدد سلامة نظام عريق بأسره كالنظام الجمهوري، وتدفع شعباً عظيماً إلى نوع من التوراة أو الحرب الاهلية. ولكن فضائح ستافسكي كانت في الواقع وصمة للنظام باسره، وكانت دليلا ساطعاً على أن عوامل الفساد والانحلال قد سرت الى جميع واحي الحكم والادارة والحياة العامة الفرنسية كلها، وقد شهد الشعب الفرنسي في روعة وسخط كيف يكشف التحقيق تباعا عن أن من بين وزرائه وحكامه وقضاته ونوابه رجالا يلحق الريب بذممهم ونزاهتهم، وكيف أن المجرمين الذين يدبرون اغتيال أموال الشعب يستطيعون بالرشوة أن يشتروا أولئك الذين اختارهم الشعب للسهر على أمواله ومصالحه، وأن يستظلوا بحماية أولئك الذين عهد اليهم بقمع الجريمة، وان يجعلوا من القانون والقضاء اداة مشلولة. وقد رأينا مما تقدم كيف أن ستافسكي، وهو متهم بعدة جرائم نصب وتزوير، استطاع مدى ثمانية أعوام أن يتفادى نظر القضاء لقضيته، وان يفوز بتأجيلها تباعا عشرات المرات، وانه لبث أعواما يمرح في جرائمه واختلاساته مع أنه معروف لدى دوائر البوليس، ولم تكن جرائمه سراً من الاسرار، فأي دليل أسطع على فساد القضاء وتدهور القانون والأمن والنظام؟

وقد حاولت وزارة مسيو شوتان التي ظهرت في ظلها هذه الفضائح ان تقمع الفساد بسرعة، فأبعد منها الوزيران اللذان اتجهت اليهما الشبه، وهما مسيو دالامييه وزير المستعمرات ووزير العمل السابق، ومسيو رينالدي وزير الحقانية، وقدمت الى البرلمان مشاريع قوانين بمعاقبة الرشوة والمواظفين المرتشين بأشد العقوبات، وقبض على مدير البوليس القضائي وبعض زملائه ليحقق معهم، وقبض على النائبين جارا وبونور اللذين ثبت انهما تلقيا مبالغ طائلة من الافاق ستافسكي وعاوناه في مشاريعه لدى الرجال المسؤلين، وأحيل عدة قضاة من رؤساء الدوائر وأعضاء النيابة الى المحاكمة التأديبية لأنهم تهاونوا في نظر قضية ستافسكي فتركت معلقة عدة أعوام دون أسباب معقولة، ولكن هذه الاجراءات كلها لم تقنع الشعب ولم ترضه. وبدا للشعب بحق أن الجريمة أوسع مدى مما ظهر، وأن الداء أشنع وأبعد أثراً مما صور، وكان من اصراره وسخطه واضطرامه ان استقالت الوزارة (الملوثة) واستقالت من بعدها وزارة دالالدييه، لأنها تستند الى نفس الأحزاب التي ينتمي اليها الرجال (الملوثون)؛ وجاشت باريس وفرنسا كلها بموجة ثورية، كادت تكتسح في طريقها كل شيء لولا أن تذرع الرجال المسئولون ببقية من الشجاعة والحزم، وتقدم الرئيس الشيخ دومرج ليضطلع بأعباء الحكم في هذا المأزق العصيب؛ فألف وزارة ثقة قومية ارتضتها البلاد واستطاعت أن تبث نوعاً من الطمأنينة.

والآن لنعد الى ستافسكي بطل هذه الفضائح المروعة التي كادت تبث الى فرنسا ضرام الحرب الأهلية

لقد شرحنا فيما تقدم طرفا من الحياة المالية العجيبة التي خاض غمارها هذا الافاق البارع، وكيف انه ارتفع من العدم الى صف أعظم رجال المال، وانشأ شركات وبنوكا عديدة، وانتهى بأن انشأ بنك التسليف البلدي في بايون، واتخذه مع شركائه اداة لاصدار سندات مزورة بمئات الملايين كان يستولي على قيمتها ويبددها على بذخه ولهوه، وشرحنا طرفا من الوسائل والاجراءات التي كان يتبعها لاختلاس هذه المبالغ الطائلة، وكيف اكتشف أمره أخيرا وقبض على شريكه ومساعده الاول تسييه مدير بنك بايون، فبادر بالاعتراف وقص على المحققين كيف كان هذا الاختلاس الهائل يدبروينفذ مدى هذه الاعوام، والقى كل مسئولية فيه على ستافسكي وزعم أنه ضحية نفوذه وإكراهه المعنوي.

وكان اكتشاف الحادث في يوم 22 ديسمبر، ففي نفس اليوم غادر ستافسكي مسكنه الفخم بحي الشانزليزيه بباريس وودع زوجه وولديه، وقال انه مسافر الى فينا لاعمال هامة. ثم اختفى في نفس الوقت الذي صدر فيه أمر قاضي التحقيق بالقبض عليه، وابلغ هذا الامر الى جميع مراكز البوليس والنيابة في فرنسا، والى جميع سلطات الحدود، وطير الامز بواسطة الراديو واللاسلكي الى جميع البواخر الراسية في الثغور الفرنسية والمسافرة في عرض البحر، فلم يكن ثمة وسيلة لأن يغادر ستافسكي فرنسا أو يجتاز الحدود الى أي بلد أجنبي، وأطلقت في أثره مئات من رجال البوليس السري في جميع المواطن التي يظن أنه قصد اليها، ولكن ستافسكي ظل مختفياً عن العيان، ولم يظفر انسان بأثره، وأصرت زوجته على أنها لا تعرف شيئاً عن مصيره ومكان اختفائه ولم تهتم قط بأن تعرف شيئاً عن اعماله المالية.

على أن ادارة البوليس كانت على ثقة من أن ستافسكي لم يغادر فرنسا وأنه لا زال مختفيا بها بمعاونة بعض أصدقائه وقد اسفرت تحرياتها المتواصلة في النهاية عن تأييد هذه الحقيقة، واستطاع بعض رجال البوليس السري بعد أسبوعين من البحث والتنقيب أن يعثروا بآثار بعض أصدقاء ستافسكي في مدينة (شوموني) احدى مدن الجنوب الجبلية، وأجتمعت لديهم القرائن والأدلة على أن الهارب قد التجأ الى هذه الناحية القاصية. وكان ستافسكي قد فر الى هذا المكان بمعاونة اثنين من موظفيه السابقين الذين كان يغدق عليهم عطفه وعطاءه، واستاجر له أحدهما في (شوموني) منزلا صغيراً منعزلا باسم مستعار، ولجأ اليه ستافسكي مع صديقيه باسم مستعار أيضا، ولزم غرفته ولم يغادرها، فحاصر رجال الشرطة هذا المنزل بعد أن وثقوا من أنه هو المقصود، وأن ستافسكي موجود فيه بلا ريب. ثم صعد بعضهم الى الطابق الأعلى، وطلبوا الى ستافسكي أن يسلم نفسه، وكان معتصما بغرفته، فلم يجبهم أحد، فاستمروا في البهو الخارجي حينا يطلبون التسليم دون جدوى. وأخيراً دوت من الغرفة المحصورة طلقة نار، وهوى جسم على الارض، فكسر رجال البوليس باب الغرفة في الحال، فالقوا ستافسكي بعينه ملقى على الارض مضرجا بدمه في النزع الاخير وقد اخترقت الرصاصة رأسه. وكان ذلك في الثامن من شهر يناير الماضي.

هذا هو البيان الذي قدمته إدارة البوليس عن مصرع ستافسكي بطل الفضيحة الكبرى، ورددته معظم الصحف الفرنسية. ولكن ثارت حول هذا البيان ريب وشكوك خطيرة، وأنكرت بعض الدوائرصحته، وأكدت أن ستافسكي لم ينتحر، ولكن البوليس قتله قتلاً لكي يخرس بذلك لسانه الى الأبد فلا يفضيي إلى المحققين بشيء من الاسرار التي يعرفها، ولا يفضى بالاخص باسماء شركائه ومنهم كثير من الرجال المسئولين، وبذلك يسدل الستار على أهم جوانب الفضيحة. وقد رددت هذه التهمة بقوة، وقذف بها في مجلس النواب في وجه الوزارة، وأهتم لها الرأي العام. ويدلل أصحاب هذا الاتهام على صحته بقرائن شتى، منها أن ستافسكي لو كان ينوي الانتحار لانتحر منذ البداية، ولم يتكبد مشاق الفرار والاختفاء وان رجال البوليس حينما داهموه في مخبئه انتظروا نحو ساعة قبل أن يحاولوا القاء القبض عليه، وأن رئيسهم اتصل أثناء ذلك تليفونيا بادارة البوليس في باريس مع أنه كان يحمل أمراً صريحاً بالقبض على ستافسكي، ثم يقولون أيضاً إن ستافسكي ترك بعد مصرعه طريحاً ينزف الدم منه نحو ساعة ونصف ساعة قبل أن يسعفه الطبيب وسمح للمصورين أن يصوروه وهو في هذه الحالة الخطرة، وأن المقصود بذلك كله أن يهلك ستافسكي قبل أن يستطيع الافضاء بشيء وهذه أقوال لها قوتها بلا ريب. ونحن من جانبنا نرجح مقتل ستافسكي لا انتحاره، خصوصاً وانه ثبت من التحقيق أن البوليس كان يتستر على ستافسكي، وان بعض أكابر ادارة الشرطة الباريسية وفي مقدمتهم مسيو جيشار مدير البوليس القضائي كانوا يتلقون منه الاعانات الطائلة، هذا الى أن الاختام القضائية لم توضع على مسكن ستافسكي الباريسي، وعلى مكاتبه الا بعد عدة أيام من فراره، ولما فتشت لم توجد بها أوراق تفيد التحقيق في شيء:

هكذا كانت خاتمة سرج ستافسكي أعظم أفاق ومختلس في العصر الحديث، بيد أن هذه الخاتمة لم تنجع شيئا في تهدئه اضطراب الرأي العام، ولم تفعل سوى أن أثارت على وقائع الفضيحة وظروفها ظلاماً جديداً. هل قبض على جميع المجرمين المسئولين عن تبديد أموال الشعب بهذه الجرأة المثيرة؟ أم بقى الاكابر المرتشون المتسترون كالعادة في الظلام؟ هذا ما يتساءل الشعب الفرنسي عنه اليوم. والظاهر أن الشعب الفرنسي لم يقنع بأن ما اتخذ من اجراءات القبض والتحقيق يكفي للقمع ذلك الفساد الذي يقضم النظم والحياة العامة كلها. فقد سقطت وزارة دالادييه أمام غضب الشعب وسخطه، ولكن وزارة دومرج التي قامت مكانها ما تزال تصطدم بهذا السخط، وما تزال العاصمة الفرنسية تضطرم بمختلف المظاهرات، وما يزال العاصمة الفرنسية تضطرم بمختلف المظاهرات، وما يزال الجو فياضاً بمختلف الاحتمالات والرأي العام لا يقف عند المطالبة بمعاقبة المجرمين المغتالين لأموال الشعب أياً كانت مراكزهم وصفاتهم، ولكنه يطالب أيضاً بتطهير الحياة اللعامة من تلك الاادرلان المشينة ووضع الضمانات الكفيلة بطمأنينة الشعب على أمواله وثقته بأن وزاءه ونوابه وموظفيه ليسوا شركاء للصوص والمختلسين، بعد أن دل التحقيق في كل فضيحة من هذه الفضائح المالية الكبرى أن هنالك وزراء ونوباً ومواظفين يشتركون مع اللصوص والمختلسين، ويمرحون معهم في تبديد اموال الأرامل وصغار المودعين والمستشمرين، ويعانونهم في اجتناب سطوة القانون والعدالة. والواقع أن هذه الفضائح المالية الشاملة لم تبق في فرنسا حوادث فردية، بل غدت ظاهرة قوية في سير الحياة العامة. واذا تتبعنا تاريخ الجمهورية الثالثة وجدناه فياضاً بتلك الكوارث المالية الفادحة التي يدبرها افراد اذكياء بمعاونة الرجال المسئولين، وتسفر دائماً عن اختلاس مئات الملايين ونكبة مئات الالوف. وقد كانت هذه الحوادث في بدء الجمهورية الثالثة تعتبر من مخلفات الامبراطورية، لانها ظهرت وتفاقمت في أواخر عهدها، وان توطد النظام الجمهوري سوف يقضي عليها ويطهر الحياة العامة من ادرانها. ولكنها استمرت تتعاقب قوية مروعة في ظل الجمهورية؛ ودلت كثرتها وتفاقمها في الاعوام الاخيرة، حسبما بينا، على أن النظام الجمهوري او بعبارة أخرى على أن الديموقراطية تحتضنها وتسيغها. ويخشى اليوم أولئك الذين يقدسون النظم الديمقراطية، أن هذا الفساد الدفين الذي لم توفق الحكومة الديمقراطية الى قمعه، قد يصرف الشعب عن عبادة الجمهورية والديمقراطية، ويجعله أكثر قبولا لقيام النظم الفاشستية والطغيان المطلق. والديمقراطية تعاني اليوم ازمة شديدة، بعد أن سحقت في ايطاليا والمانيا؛ وهي تهتز اليوم في فرنسا ويخشى ان تنهار دعائمها اذا لم تتداركها الايدي القوية الماهرة، بيد أنا نستطيع أن نقول ان تطور الحوادث الأخيرة في فرنسا كان ايضاً ظفراً حقيقياً للديموقراطية فقد استطاع الشعب بقوة رأيه وارادته أن يسقط في اسابيع قلائل وزارتين لم يثق بهما ولم يرتض حكمها: وان يقدم الدليل القوي على انها ما زال في ظل الديمقراطية سيد نظمه ومصايره.

محمد عبد الله عنان