مجلة الرسالة/العدد 33/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 33/الكتب
2 - أهل الكهف
قصة مسرحية للاستاذ توفيق الحكيم
بحث وتحليل ونقد بقلم الأديب عبد الرحمن صدقي
ألوان التفكير:
لا نقصد الى استقصاء ألوان التفكير في الرواية. فالتفكير العميق المنساب في غير للجب ولا عنف هو من أظهر مميزاتها. وقلما تخلو منه صفحة من صفحاتها. والقارئ المطلع على الادب العالي في الأمم الراقية يألف هذه الأفكار، ولا يجد هذه المناحى من التفكير غريبة عنه. وانما براعة هذا المؤلف المسرحي حق براعته في أنه لا يشعرك بأن له فكرة، أو انه يفكر ويتفلسف. وانما هي وقائع الحال ناطقة، وهذا الذي تسمعه هو ما يجري على لسان الحال، وتنطلق به كل نفس على سجيتها في مثل هذه الملابسات
فالرواية فلها فكرة عامة خرج بها المؤلف من بعث هؤلاء الذين بعثوا. وفيها تشاؤم متغلغل خفي نكتفي بالتنويه به تاركين للقراء اكتناهه.
كما أن كل فصل من الفصول الأربعة يكاد يكون له فكرة خاصة يدور على محورها. فهو يعرض في الفصل الاول للأيمان وصنوفه: فثمة ايمان الراعي الموروث في رسوخه وبساطته من غير تحليل ولا تعليل، فهو ايمان التسليم الخاشع والعاطفة الجميلة الساذجة. فاسمع اليه يروي يوم أن ذهب الى المدينة في بعض شأنه، فلمح خارج أسوارها راهباً يتكلم في جميع صغير بين خرائب قديمة تخفيهم عن الأعين؛ فاقترب وأصغى اليه، فاذا به كأنما انقلب إنساناً آخر. فلما سأله صاحباه في الكهف عما كان يقوله الراهب؛ قال: (لست أذكر شيئاً مما قال، لكني لن انسى ما شعرت به إذ ذاك، إحساس لم يعترني في حياتي من قبل إلا مرن إذ كنت أهبط الجبل ساعة غروب، فأشرقت على منظر بالخلاء لم ار اجمل منه، فلبثت ليلتي أفكر وأستذكر أين رأيت هذه الصورة من قبل؟ أفي االطفولة؟ أفي الاحلام؟ أم قبل أن أولد؟. إن هذا الجمال على غرابته ليس مجهولا مني. وقمت في الفجر فذكرت صورة البارحة، وفجأة برقت في رأسي فكرة: هذا الجمال كان موجوداً دائماً منذ الازل، منذ وجدت الخليقة. هذا الاحساس بعينه هو ماشعرت به وأنا أصغي الى الراهب. إن كلامه الذي أسمعه لاول مرة ليس مع ذلك جديداً عندي. أين سمعته ومتى؟ أفي الطفولة؟ أفي الحلم؟ أقبل أن ولدت؟ وتولدت في نفسي عقيدة أن هذا الكلام هو الحق، إذ لا أتصور بدء الوجود بدونه ولا انتهاءه بدونه. . .)
أما المستشاران فهما بطبيعة تعليمهما وحداثة عهدهما بالعقيدة يؤمنان ايمان العقل والمنطق. بلا شأن لله فيما وقعا فيه بل هما اللذان أوقعا نفسيهما في التهلكة. وهما يفكران في أمرّهما أكثر من تفكيرهما في الله. واذا صليا له فلكي يسألانه الخير - هذا لامرأته وولده وذلك لحبيبته. والحب يبتلع كل شيء حتى الايمان لانه ايمان أقوى من كل ايمان. وما دام الله قد خلق للناس قلوبا فقد نزل عن بعض حقه عليهم. . . واذا هما قابلا بين ايمانهما هذا وايمان الراعي قدرا في تحليل وتعليل أن صاحبهما خلى، فما يضيره أن يمنح قلبه كله لله أو للشيطان
ثم ايمان المرأة، فقد كان حسب ابنة الملك أن تسمع الفتى الذي تحبه يقول لها وهي في ثياب بيضاء تخطر في بهو الأعمدة في هدأة الليل وسكون القصر (إنك ملك من ملائكة السماء) وأن تعلم منه ان هذا في المسيحية اسم لمخلوقات أسمى وألطف من مخلوقات الارض، حتى رضيت نفسها عن المسيحية وارتاحت لها بحافز ما في الاحياء عامة وفي المرأة خاصة من الانانية الكامنة.
ويأتي الفصل الثاني فتراه يعالج في مطلعه طبيعة المرأة. فهي أبداً امرأة، قديسة كانت أو غير قديسة، ملكة أو من بنات السوقة فاذا قيل ارتباط بعهد مقدس لم يخطر لها انه مع الله بل حسبته مع من يختاره قلبها. فقلب المرأة يتسع دائماً لله وغير الله. ولعل اللقديسة كانت تفضل أن تكون امرأة لو أنها استطاعت.
والفصل الثالث عن الزمن. فالمؤلف يشعرك بأنه لا حقيقة المزمن خارج شعورنا وأنه على قدر تطور شعورنا تكون حركة الزمن. فكل واحد من أهل الكهف لم يشعر بشقة الزمن الذي غبر حتى أحس بالشقة السحيقة بينه وبين من حواليه في الشعور. والذي أطال وهم أصغر فتية الكهف أنه التقى بمن تشبه حبيبته، وتكاد تكون مثالا لتقمص روحها، فلم يصدق دورة الزمن حتى حدث له ما حدث. ثم اسمع لقائل منهم يقول: (حياة جيدة! إن مجرد الحياة لا قيمة لها. ان الحياة المطلقة المجردة عن كل ماض وعن كل صلة وعن كل سبب لهي أقل من العدم بل ليس هناك قط عدم. ما العدم إلا حياة مطلقة)
والفصل الأخير يعرض لحيرة العقل في الحد بين الوهم والحقيقة، وما يعترض المعرفة الصحيحة من عقبات لقيام العواطف االداخلية والمؤثرات الخارجية، وكيف اختلاط الحقيقة بالوهم بحيث يرفع الخيال عالم الواقع ويجمل الحلم عالم اليقظة، كما يفعل الفني بمادته من الحياة فيسبغ عليها من عبقريته معنىً فنياً من جمال أو فظاعة لم يكن لها.
أسلوب التأليف
المؤلف خبير بالقصة المسرحية، وما يدخل هذه الصناعة من التفنن والاحتيال. فلم يغفل عن شيء فيه تقويه العمل والحركة في روايته. وقد بث في اثناء كل فصل من فصولها المفاجأة بعد المفاجأة فكلما استقرت حواسك وألفت من القصة مسلكاً، ابتدهك بما يجدد اهتمامك ويفززك، فلا يدركك فتور ولا ركدة. والعجب أنك على عرفانك بوقائع القصة المروية فأنه يسوقها في نظام يجعل شعورك بها جديداً، ولا يسردها سرداً في نفس واحد، بل يفرط عقدها حبة حبة بين حين وآخر في ظرفها الملائم وموقعها المناسب، فاذا كل واقعة تفعل في نفسك كأنه اول عهد لك بها. كما أنه لا يفتأ يستغل كل جزء منها في أصغر تفاصيله ويستنبطه حتى أخر قطرة فلا يتركه بعده الامصاصة جافة. ومؤلفنا من طبيعة ذهنه الاستطراد والتنقل من فكرة ومن أحساس الى إحساسن تتداعى جميعها في سبحات حالمة دون ان يكون سياقها منبتاً وعراهاً متفككة ومن ديدنه أحياناً تكرار الجمل وترديد الخواطر في مواضع تشعرك بتعلق القوم بأمل ضعيف واه يعيدون فيه ويستأنفونه محاولين بهذا إقناع أنفسهم. ثم ان عنده مقدرة بارزة الأثر في تعقيد المواقف وخلق سوء التفاهم بحيث يتكلم كل فريق ويتصرف بما يفهمه اللآخر على غير الوجه المقصود وإن كان يحتمله منطوقه. وله هنا وهناك فكاهة دقيقة تجمع في بعض الاحايين بين الفكه والفاجع ويتجاور فيها الدمع والابتسام.
وعبارة الكاتب فيها قصد وايجاز تغنى بالاشارة عن الافاضة وتنطوي على ايحاء يفتح للقارئ نوافذ وكواء على آفاق وأجواء. وفيه شاعريه غنية تمده بالجميل قالباً ودلالة. فيقول مثلا عن أساطير الأمم أنها ضمير الشعب. ويقل على لسان أحد فتية الكهف وقد برم بالحياة في هذا الوسط الجديد (إلى الكهف، الكهف كل ما نعرف من مقر في هذا الوجود، الكهف هو الحلقة التي تصلنا بعالمنا المفقود) وعلى لسان آخر منهم (أننا أشباح لسنا ملك الزمن. إنما نحن ملك التاريخ. وقد هربنا منه. فالتاريخ ينتقم).
كذلك قصة أورشيما فهي في ذاتها جميلة رائعهة ويزيد في روعة جمالها موضعها من قصة أهل الكهف لما بينهما من مقابلة، ولو أنه يخشى ألا يكون للرومان والمسيحيين الأوائل علم بأساطير اليابان في عزلتها العتيدة.
وإلى هذا ملكة في التصوير ملحوظة. وأبرع مثال عليها وصف الراعي لاحساسه بالغربة في هذه البيئة المستحدثة:
(آه لو تعلمان ما رأيت الآن في شارع بطرسوس، إن كانت هذه بعد مدينة طرسوس (لو رأيتماني وقد أحاطت بي ناس في ثياب غريبة وعلى وجوههم ملامح غريبة. وأينما سرت فهم في إثري بنظراتهم المستطلعة الحذرة. وكأنهم يتفحصون امري تفحص من يحسبني من عالم الجن. لا أستطيع مخاطبة أحد منهم، وإن فعلت فلا أحسبني اجد مجيباً بل نظرت صامتة مفزوعة. . . بل إني سمعت اثناء هذا نباحاً خافتاً مخنوقاً، فأنتبهت فألفيت كلبي قطميراً كذلك قد أحاطت به كلاب المدينة، وطفقت ترمقه وتشمه كأنه حيوان عجيب. وهو يحاول الخلاص من خناقها ولا يجد الى ذلك سبيلا وجرى المسكين أخيراً الى جدار قريب ووقع تحته اعياء ورعباً، والكلاب في أثره، حتى وقفت منه على قيد خطوة. تعيد النظر اليه، ويريد بعضها الدنو منهه لمعاودة شمه فيقصيها الحذر. . هذا أنا، وهذا كلبي قمطير في هذه الحياة الجديدة.
وله أيضاً زكانة لأدراك العواطف المركبة وتحليلها، كاستمتاع برييسكا بعنف فتى الكهف في كلامه معها يحسب أنها وحنثت بعهده، فهي وإن صدمها عنف هذا الخطاب الا أنه يشعرها بأنها محبوبة - ولو وهما، يشعرها بعاطفة الحب التي تعيش كل امرأة في انتظارها
كذلك له توفيقات عجيبة نذكر منها على قبي المثل أنه يجعل الراعي أول من استيقظ من أهل الكهف كعادة الرعاة في التبكير ويتلوه مرنوش لأنه أكبر الصاحبين سنا والمرء يقل نومه كلما تقدم به العمر، وأخيراً مشلينيا لأنه فتى والفتيان نومهم عميق. وتجتزئ لضيق المقام بهذا المثل. ولا نحسب أن المؤلف حسب لكل هذه التوفيقات حساابها الدقيق ودبر لها التدابير. ولكنها - فيما نعلمه عن المؤلف - الهام ذوقه الفني. وان هذا الذوق الفني العميق الشعور هو فيما يكتب هايه ومسدد خطاه
الختام
فقصة الكهف قد استوفاها مؤلفها الشاب من ناحية التأليف المسرحي ورسم الشخصيات وعمق التفكير وجمال الحوار. ولا شك أن القارئ لا يفرغ منها حتى يقول: هذا الفتى فنان حتى أطرقاف أنامله.