مجلة الرسالة/العدد 328/رسالة النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 328/رسالة النقد

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 10 - 1939



فصل المقال

فيما دار من نقاش حول (مباحث عربية)

للدكتور إسماعيل أحمد أدهم

- 2 -

أما عن التلبيس في سوق الروايات والواقعات في كتاب (مباحث عربية) فإليك بعض من ذلك:

1 - أسند الدكتور بشر فارس ص60 من كتابه (مباحث عربية) ثماني روايات جملة إلى 16 مرجعاً منها أربعة مراجع مخطوطة؛ والغرض من ذلك الوصول إلى إثبات أن (التعريف) الحقيقي الناهض على التمييز للفظ المروءة غير ممكن، وليصل إلى هذا فقد ساق الدكتور بشر هذه الروايات جنباً إلى جنب، وأسندها جملة إلى مصادرها بالجملة للتعجيز، حتى لا ينظر القارئ مصادر كل رواية ويتدبر معانيها في مكانها ووجه مجيئها من الكلام. لأن في ذلك الخطر كل الخطر على البحث إذ يثبت أن الروايات تأتي في كلها لفظة (المروءة) من أصل واحد يحمل مدلول السيادة من جهة ويتضمن السجايا الرفيعة التي يتقوَّم بها شخص السيد. بيان ذلك:

(أ) يقول النوري: (المروءة بذل الهدى، وكف الأذى، وترك الهوى، والزهد في الدنيا، وطاعة المولى)، وهذه الرواية بهذا الإطلاق يتنافر فيها مفاد المروءة مع المدلول الحقيقي للفظة وهذا ما يريد أن يصل إليه الدكتور بشر، وهذا هو التلبيس لأن هذه الرواية لو أسندت إلى مصدرها، وهو مخطوط كتاب (الفتوة) للأردبيلي - أيا صوفيا 2049 - وهو مخطوط في التصوف كما وصف ذلك الأستاذ في مبحثه المعنون باسم والمنشورة بمجلة التي تصدر عن همبورج، م24 ص58، لظهر أن لفظة المروءة في هذه الرواية تأخذ مفادها من وجهة المتصوفة، وفي ذلك الوقت يتسق مفاد اللفظة في الرواية مع مدلول الكلمة الناهض على التمييز

هذا وقد نبهني أحد الزملاء إلى أن هذا المخطوط الذي وردت فيه الرواية، نشره الدكتو بشر في مقتطف أبريل سنة 1939 والعجيب أن يقول في التقدمة. (تدخل الفتوة على قلم الأردبيلي في التصوف، وكذلك المروءة التي هي شعبة من شعبها في كتاب الأدربيلي!)

(ب) يقول معاوية: (المروءة احتمال الجريرة وإصلاح أمر العشيرة) فهذه الرواية رغم أنها تحمل في طياتها إشارة إلى سجايا السيد وإفادتها سياسة الملك، فقد أتى بها بشر فارس ليستدل على أن مدلول لفظة المروءة غير ناهض على التمييز. وهو في الوقت نفسه يذكر ص67 في الحاشية، في الهامش رقم 34 هذه الرواية، والمتن يحمل الإشارة إلى أن الرواية مفادها سياسة الملك!

(ج) يقول عمر بن الخطاب: (تعلموا العربية فإنها تزيد من المروءة). ويقول مسلمة بن عبد الملك: (مروءتان ظاهرتان: الرياسة والفصاحة). والدكتور بشر لا ينكر في الرواية الثانية أن لفظة المروءة تنزع إلى السيادة، مع أنها تجئ من الفصاحة وإذن فمفاد الرواية واضح في إشارتها إلى السيادة وسجايا السيد، من حيث أن العربي كان يرى معرفة العربية سبيل الفصاحة والفصاحة من أسباب الكمال والكمال من متطلبات سجايا السيد

(د) في عام 1932 أخرج الأستاذ بشر فارس كتاباً بالفرنسية اسمه (العرض عند عرب الجاهلية) وتقدم به لينال إجازة الدكتوراه من جامعة باريس. وموضوع هذه الأطروحة أن (أخلاق عرب الجاهلية تندرج تحت معنى العرض) (انظر ' ' باريس 1932 ص 32 وما بعدها). ولما كان جُولْد تسيهيرْ أحد شيوخ الاستشراق قد كتب في كتابه طبع سنة 1889 ج1 ص1 - 40 - فصلاً كاملاً عن المروءة ذهب فيه إلى أن (المروءة كانت تنزل منزلة الفضيلة عند عرب الجاهلية). وهو في هذا على نقيض من الرأي الذي ذهب إليه الدكتور بشر، فقد اضطر صاحبنا بشر أن يعود عام 1937 ليناقش رأي جولد تسيهير لأنه صاحب رأي خاص في الموضوع فكتب مادة (مروءة) في تكملة دائرة المعارف الإسلامية، ثم توسع بالمادة فكان منها موضوع مبحث المروءة من كتاب (مباحث عربية) وهو يشغل الصفحات من 57 - 74، وهو إلى هذا الحد لم يرتكب وزراً، ولكن موضوع المؤاخذة جاء من جهة محاولة إيهام القارئ أن بحثه في المروءة ليس عن فكرة سابقة وإنما هو نتيجة التدبر والتدرج من الواقعات للنظر (كما يقول ص73 من كتابه)، وهو لكي يصل للغرض يوهم القارئ - والإيهام ليس بالشيء القليل - ثم يعمد لطرق ملتوية لتعجيز القارئ حتى لا يكشف كيف يميل بالواقعات ويديرها منحرفة عن حقيقتها بعض الشيء حتى يتحصل له من انحرافاتها النتيجة المقصودة. وقد سبقت الإشارة إلى بعض طرق الالتواء في بحثه، وإليك طرقاً أخرى:

(1) لو كانت المروءة واضحة المعنى ما عثرنا على تعريفات لها لا يكاد يقع بعضها على بعض، ولا أصبنا أقوالاً فيها ربما تنافرت بل تدافعت. وبهذه الجملة يلج البحث الدكتور بشر فارس. والذي عندي أن اختلاف التعريف إن جاء من عبارات يقصد بها بيان كيفية المروءة، فذلك لا يقع على بعض مدلول لفظة المروءة. بيان ذلك أن لفظة الرجولة لعهدنا هذا واضحة المعنى، ومدلولها ناهض على التمييز، ولكن كل إنسان حسب طبيعته وأخلاقه وسجاياه ونظرته يعطي اللفظة لوناً يقع على كيفيتها من جهة الصفات لا على مدلولها الذي يدل على المعنى. ومن المهم في تدبر المعنى الحقيقي للفظ ملاحظة هذه الاعتبارات. والآن على ضوء هذا الكلام لننظر في مبحث الدكتور بشر فارس

أولاً - يأخذ الدكتور بشر قول أبي الحاتم البستي: (اختلف الناس في كيفية المروءة) (روضة العقلاء ص207) دليلاً على تضارب التعريفات والأقوال حول لفظة المروءة. والرواية تقصر عما يريد صاحبنا بشر أن يحملها، لأن كلام أبي الحاتم البستي يقع على الصفات لا على المعنى، والمعنى اختلاف الناس في كيفية المروءة لا في مدلولها

ثانياً: يستدل الدكتور بشر من سؤال معاوية: (ما تعدون المروءة؟) على أن معنى المروءة (أو مدلولها) أشكل على المسلمين. والاستدلال خطأ، لأن السؤال يقع على ما كان يعدونه، وعد الشيء مربوط بكيفيته (أو صفاته)، فالصوفي يعد المروءة مثلاً: (ترك الهوى والزهد في الدنيا وطاعة المولى)، ورجل الدنيا يعدها (كثرة المال والولد). فهذه الدلالات للفظة المروءة تقع على الكيفية منها لا المدلول

ثالثاً: نفى الدكتور بشر أن المروءة تفيد معنى السيادة قائلاً ما ملخصه: (إن الاستناد إلى مشتقات مادة (م رء) ولا سيما أسم الفاعل منها في الآرامية لإثبات إفادة المروءة للسيادة خطأ، لأن لفظة مرء عربياً وهي اللفظة الناظرة إلى اللفظ الآرامي إنما مفادها الإنسان. وهذا يدفع أن تكون المروءة أفادت السيادة أول الأمر) هذا وهو يدفع القول، بأن باب المروءة وقع كتاب السؤدد من عيون الأخبار لابن قتيبة، بأن المصدر المذكور لم يثبت غير قول واحد تنزع فيه المروءة لمعنى السيادة

والرد عندنا أن الدكتور بشر ذكر في موضع آخر من كتابه أن المروءة تدرج مقرونة بالسؤدد من كتاب مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب. . . (رقم 409 مخطوط ليدن ص532 - 534 ع297 من الرسالة) والدكتور بشر يقول في تقدمة هذا المخطوط: (وفي المصدر الأول تعريفات وأقوال في المروءة على أنها لون من ألوان السيادة وشرط من أشراطها) الرسالة العدد 297 ص533. أما عن مجيء هذه الروايات من الجاهلية أو عدم مجيئها، فلا يؤثر على القضية في شيء، لأن جلها أتى من صدر الإسلام، والعربية لم تتغاير فلا معنى للاحتجاج بأنها ليست من الجاهلية. وإذن يبقى معنا لفظ المروءة نازعة منزع السيادة في الجاهلية وصدر الإسلام، بعكس ما حاول أن يوهم القارئ بطرق ملتوية الدكتور بشر في مباحثه العربية

رابعاً: ينكر الدكتور بشر فارس أن المروءة أفادت السيادة - وأكبر الظن عنده - أنها ضمت، أو ما ضمت محاسن خلق الإنسان، ثم - من طريق التجديد والمجاز - محاسن خلقه (وهو في رأيه هذا لا يذكر السبب الذي جعله يميل مع هذا الظن. فضلاً عن أنه لا يستند في ظنه هذا إلى أكثر من فصل مخطوط تحت رقم 2049 بأيا صوفيا، يشتق فيها المؤلف المجهول المروءة من مرء الطعام وامرأة، وإذا تخصص بالمريء لموافقته للطبع. فكأنها أسم الأخلاق والأفعال التي تقبلها النفوس السليمة، فعلى هذا يكون اسماً للأفعال المستحسنة كالإنسانية، وهذا الرأي من الكاتب أحد رأيين ثانيهما أنه يجعل المروءة من المرء فيجعلها اسماً للمحاسن التي يختص بها الرجل فيكون كالرجولية، ولست أدري ما الذي جعل الدكتور بشر يميل مع الرأي الأول؟! وليس في بحثه ما يرجع الرأي الذي أخذ به إلا قول بل أكبر الظن!)

خامساً: يرى الدكتور بشر أن الأقوال والروايات التي ورد فيها لفظة المروءة، فيها جانبان متضادان كلاهما معقود على الآخر: الأول حسي والآخر معنوي، وهذا غلاب على ذاك؛ وهو يذهب إلى: (أن الجانب الحسي ينحدر من زمن الجاهلية وأما الجانب المعنوي فمصدره الإسلام) (ص63 من مباحث عربية) غير أنه لا يثبت على هذا الرأي سريعاً فلا يلبث أن ينقضه ويقول: (وكأن الحسي والمعنوي أخذا يتجاذبان المروءة أيام الجاهلية) (ص65 من مباحث عربية)، وهو بهذا يخلع الجانب المعنوي على الجاهلية. وفي هذا التضارب والتناقض ما فيه مما لا يحتاج إلى بيان. . .

سادساً: يعتمد الدكتور بشر على رواية الأغاني: (أن عينية ابن مرداس كان معوزاً فقصد إلى عبد الله بن عباس يسترفده ويرغب إليه أن يعينه على مروءة. فردَّه ابن عباس لاتهامه إياه في مروءته) ليصل إلى أن المروءة كانت تجيء معنوية من العصر الإسلامي وحسية من الجاهلية؛ وهو يعلق على هذه النتيجة بقوله: (إن ابن عباس نظر إلى المروءة بعين المسلم فنزهها عن المادة وأنزلها منزلة الخلق الحسن. وابن مرداس نظر إليها بعين الجاهلي فرأى فيها إعانة له حتى لا يشتهي طعام غيره)

والرد أن الرواية لا تسعف الدكتور بشر بالنتيجة التي أراد أن يحصلها، لأنه لا يتحصل منها أن ابن عباس نظر إلى المروءة بعيني المسلم، وإنما الصحيح أن يقال إنه نظر إليها من طبيعته، كذلك لم ينظر إليها ابن مرداس بعين الجاهلي، وإنما الصحيح أنه نظر إليها من طبيعته، والفرق بين النظرتين، كالفرق بين الطبيعتين، وهذا الاختلاف في النظر راجع إلى اختلاف النفوس لا إلى اختلاف الزمان، ومن أمثال الذين ينظرون نظرة ابن مرداس للمروءة كثيرون في كل زمان ومكان!

سابعاً - مضى الدكتور بشر في بحثه، وكأنه يتعقب روايات مختلفة من أزمان مختلفة، وأعطى المروءة مفادات مختلفة، كل مفاد خاص بعصر، وانتهى ببحثه إلى أنها لم تنزل منزلة الفضيلة على جهة المماثلة إلا في العصور المتأخرة. والرأي الصحيح في الموضوع أن الروايات التي أتى بها الدكتور بشر فارس متسقة وكل منها تقع على لون خاص من مدلول المروءة، وهذا اللون مرتبط بالناحية الكيفية (صور) للفظة. وهي من هنا لا تأخذ دليلاً على التطور التاريخي. والأصل في البحث اللغوي لتاريخ لفظه أن يكون الباحث صاحب نظرة فلسفية تتغلغل في صفحات الماضي وتستمد من طبيعة الحالات القائمة في العصر صورة تقيمها في ذهنها يمحص على أساسها الباحث الروايات التي تعرض له ويكشف، عن مقدار تأثرها بحالات العصر، وهل هي راجعة لاختلاف النفوس والطبائع، أم إلى اختلاف الزمان، ذلك لا يتأتى إلا عن طريق النفوذ من مادة الرواية وهو الجسم المنظور إلى روحها وهو ما وراء المنظور ظهرت عقلية الدكتور بشر الشكلية في أجلى مظاهرها وتبين لنا كيف أن هذه الشكلية مساقة إلى أخطاء في البحث لا يقع فيها من له دراية بسيطة بالبحث اللغوي المستقيم. والواقع أن بحث الدكتور بشر في المروءة ضعيف لا يثبت على نقد، ولا يمكنه أن يواجه مراجعة علمية صحيحة. هذا فضلاً عما فيه من تحريف وتعديل للعناصر الأولى والواقعات حتى لا ينفصم معه النطاق، وسيجيء في مقتطف نوفمبر ما في المراجع من اضطراب وما في البحث من تقطع، وما في حلقاته من انفصام.

إسماعيل أحمد أدهم