مجلة الرسالة/العدد 324/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 324/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 09 - 1939



دراسات في الفن:

(ضيعت مستقبل حياتي!)

وفي 15 سبتمبر سنة 1923 مات

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

مات ولم يمكث في الأرض إلا واحداً وثلاثين عاماً. ولكنه قضاها كلها حياً، بل لقد كان يستعير مما له في الخلد ليالي وأياماً فأنهكته الحياة: أضنت منه الروح والبدن فانطفأ وهو في أشد اشتعاله وسطوعه

1 - بين الربوة والبحر

طفل، والطفولة صفاء. وفقير، والفقر نقاء. وعزيز، والعزة وقاء

كان هكذا منذ عرفته الحياة، وظل هكذا إلى أن غادر الحياة: طفلاً، فقيراً، عزيزاً لم يذل إلا الله في الحب والغناء

ويا طول ما ذل! فقد غنى منذ أحب، وقد أحب منذ أحس، وقد أحس منذ أمنت أمه أن تطلقه في ربوة (كوم الدكة) يرتع ويلعب مع الصبيان والبنات. فكان يجمعهم ويقوم بينهم على حجر يقرأ القرآن ويرتل الألحان، فإذا أخلصوا له الإصغاء أخلص لهم الإنشاد. . . ولم يكن أحد من هذا الجمع الحالم يدري لمن كان يغني هذا النشوان الضاحك إلا هو وتلك الصغيرة الطاهرة التي كانت تهفو إليه بروحها متلمسة فيه ما لم تكن تجده عند غيره من آيات الصدق ومن آيات الذكاء

وكان إذا افتقدها استوحش ربوته وأهلها، وفر إلى شاطئ البحر يكمن عند صخرة من صخور (السلسلة) يأخذ عن اليم معنى اللين إذا هدأ، ومعنى الثورة إذا اهتاج، ومعنى الكفاح إذا تصارعت فيه الأمواج، ويسرح بالطرف في آفاقه التي من بعدها آفاق، كأنه يستدرج الغيب من ورائها أن يستشفه لعله يرى في إطار منه الصورتين اللتين كان يحب أن ترتبطا. . . فكان يرى ما يشاء، أو لم يكن يرى شيئاً. . . ولكنه كان يسمع، وكان إذ عاد إلى ربوته تغنى بما سمع. . .

وكان يكره أن يعود من حجته إلى البحر خال اليد، فكان يجمل (إليها) من البحر محارة أو صدفة يرفعها إليها في صمت كأنما يؤكد لها أنه ما نسيها ولا غفل عنها إذ نأت وغابت. وكانت هي تقبل منه هديته الفقيرة الرخيصة والله وحده يعلم أكانت تقبلها حباً، أم كانت تقبلها إغراء

2 - الطعنة الأولى

وفي يوم طار إليها بمحارة عجب، فإذا هي تصده، بل وتحمله إليه ما جمعته من محاره وصدفه وتمد إليه به يدها وهي تقول: (منعتني أمي من قبول هدايا الصبيان!. . .)

ولو لم يكن يرى أمها تستميل إليها من أبناء الجيران صبياً مات أبوه عن ثروة، ما أحزنه هذا الصد وما أشقاه. . . ولكن الذي أدمى قلبه هو أن أدرك للمرة الأولى أن هناك فرقاً بين الأغنياء والفقراء. وأن هذا الفرق ملحوظ مرئي دون غيره من الفروق.

فحمل محاره وصدفه، وغسل بدمعه آيات غروره وجهله، ودفن المحار والصدف تحت عتبة مسجد سيدي (حذيفة). . . ثم دخل المسجد وتوضأ وصلى صلاة الجنازة على أمله

3 - الشيخ

وحسبوه من كثرة لزومه للمسجد ولياً من أولياء الله. وقد كان ولياً من أولياء الله. فوهبوه لكتاب الله. وألبسوه عمامة وجبة وقفطاناً، وأرسلوه إلى معهد الإسكندرية وعرفته (كوم الدكة) منذ ذلك الحين باسم الشيخ السيسي. . . لأنه كان صغيراً، وكان عجيباً في عمامته وجبته وقفطانه. . .

ولم يتأب هو على هذه (الشيخوخة) التي عاجلته، وإنما كان يجد فيها متعة ولهواً محببين، فقد يسرت له الحفظ والتجويد، والقراءة والغناء. . . وظل في (شيخوخته) هذه طفلاً كما كان يجمع حوله الفتيان والفتيات ويقوم بينهم على حجر أو كرسي. عريض من خشب يمدح النبي، ويرثي الحسين!

4 - مبيض الجدران

وقد كان أهل الحي أن يطلبوه في أفراحهم ومآتمهم، ولكنهم كانوا يطلبون غيره كلما اعتزموا أن يدفعوا أجراً؛ أما هو فكانوا يتزاحمون حوله كلما قرأ أو غنى في الطريق، أو في المقهى، أو في المسجد أو على الربوة. . . يسمعونه ويحيونه، ويتحدون به القراء والمغنين، ولكنهم لم يكونوا يملكون أن يستأجروه، لأنه لم يكن ينطلق إلا بإرادته، وبوحي من مزاجه، فإذا أكره على الشدو ثقل الشدو على نفسه وعلى نفوس مستمعيه. . .

ولهذا كان إذا أراد أن يرتزق بيَّض الجدران مع النقاشين والبناءين. . . وأعجب ما كان منه أنه كان ينطلق عندئذ بالغناء أنيناً وشكاية، أو بهجة واستبشاراً، وكان من زملائه من يحمل عنه عمله راضياً مسروراً

5 - في الأوحال

ترعرع وترعرعت. وكانا يلتقيان. وقد كان يغنيها وكانت تستمع إليه. ولكنه كان قد طوى نفسه على عزمة ملكته: ألا يدنس الحب، وأن يسلم أمره لله. . .

وتزوجت هي. . . وانهار هو. . .

فهجر (كوم الدكة) إلى حي الرجس. وأدمن النساء، وانكب على الخمر والمخدرات يتعجل الموت فلم يعد له في الدنيا رجاء

وقيل إنه أحب، وما أحب وإنما كان يبحث عن حب، ولم يكن المحروق القلب ليحب ما أكلت قلبه النار

ومن أعماق هذه الأقذار كان يتعالى صوت السيسي بألحان من وحي الطهر والعفة. كان يرسلها مع الدمع ونفحات الجحيم المتأجج بين جنبيه فكان فيها تطهير نفسه ونفوس هؤلاء الذين كانوا يتردون الخطيئة حوله، ويترددون عليه كأنه التوبة أو الصلاة.

6 - وهج الروح

وإلى جانب هذا الحب، وإلى جانب هذا اليأس، كانت حرب وكانت ثورة، واندلعت في هذا الأتون المستعر روح الشيخ السيسي

وكان قد عاد من الشام بعد رحلة بائسة اصطحب فيها ممثلاً سوريَّاً أراد أن يتحف به أهل وطنه ولكنهما أخفقا معاً.

وكان السيسي قد جرب نفسه مرة في القاهرة في مسرح الشيخ سلامة حجازي فثار عليه الجمهور وأرغمه على أن يتوارى خلف الستار قبل أن يتم غناءه فواساه الشيخ سلامة بأن خرج للناس وقال لهم: أحسنوا الاستماع إليه فهو الذي سيخلفني

ولكن الناس لم يحسنوا الاستماع إليه لأن غناءه لم يكن يشبه ما أعتادوه، وإنما كانت روح طلقة هبت من الشمال

وكان كل فشل مما لاقاه يزيده أيمانا بنفسه ومقدرته حتى واتاه الفشل الأخير، إذ لحن (فيروز شاه) لجورج أبيض فاندك جورج أبيض وبرز سيد درويش

وعرفه عندئذ نجيب الريحاني، فأفسح له مسرحه منبراَ يلقى من فوقه ما شاء من آيات

فنه

وأخذ بعدئذ نجمة يصعد، ويصعد، ويصعد. . . حتى جاء

وقت لم يتغن فيه مصر بلحن إلا كان من غناء سيد درويش

كان ربحه يصل أحياناً إلى ألف جنيه في الشهر، وفي هذه الأحيان كان يقترض القروش والملاليم

قل إنه مجنون! قل إنه سخيف! قل ما شئت؛ أما هو فكان محروماً من شئ لا يمكن أن يشترى بالمال وكان هو يحاول أن يستعيض عنه بما يشترى ويباع.

7 - شاعر

ولم يكن سيد مغنياً فقط، وإنما كان شاعراً أيضاً. . . وما كان في وسعه إلا أن يكون كذلك. فإن الذي بعثه على الغناء إحساس كان يخالجه ولم يكن يستطيع أن يعبر عنه إلا بالغناء، ولم يكن يستطيع أن ينتظر معه أن يبحث عن شاعر من الشعراء أو نظام من النظامين ليقول له إني أحسست الحب على وجه من الوجوه، أو أحسست اللوعة على نحو من الأنحاء، فصور لي هذا الإحساس بالكلام لأغنية. . . لم يكن يملك أن ينتظر كل هذا الانتظار وإنما كان يغني ما يريد عند ما يحس أية عاطفة أو أية نزعة

هو سكران مترنح. . . وقد حددت له صاحبته موعداً، وذهب إليها فتصدى له من يمنعه عنها، وهي معركة بينه وبين عذاله، فإذا حال بينه وبينهم أصدقاء له وأبعدوه عن الموقعة، ثم بدءوا يلومونه على سكره وعربدته غناهم:

وأنا مالي هي اللي قالت لي ... روح اسكر وتعال ع البهلي وهو جالس عند صديق له صائغ وتهبط عليهما غانيته مسرفة في التزين والتبرج، وتراه ممسكاً - بعوده فتعابثه وتطلب منه (غنوة) فما أسرعه إلى إنشاده. . .

الأستيك على صدركْ بِضوي ... ون قلبي مِتْعلَّ ساعة

ويصطدم بذات المحار والصدف فيتقارآن السلام ويتعاتبان وأعصابه ترتج وأنفاسه تضطرب فما تبرحه وما تنقضي ليلة أو ليلتان حتى تسمع البلد كلها تغني من لحن سيد:

زروني كل سنة مرَّة - حرام تنسوني بالمرة

ويغاضب إحدى صويحباته فيكيدها بغنائه:

يومْ تركت الحب كانْ لي ... في مجال الأنس جانب

والتقيت المجد عادْ لي ... بعد ما كانْ عني غايب

ولم يكن سيد يعبأ بأن يكون كلامه موزوناً أو مستوفياً لشروط الشعر وشروط صحته، فما كان يعرف إلا أنه يغني، وكان غناؤه سليماً!

8 - تلميذ

وعلى الرغم من المجد العظيم الذي أتيح له، فقد كان يرى نفسه جاهلاً بالفن وأصوله. ولعل ذلك راجع إلى أنه لم يتعلم الموسيقى على أحد، فقد خرج إلى الحياة ألفى نفسه يغني، ثم عرف أن للغناء قواعد وأصولاً، فراح يحصل منها ما يتاح له، ولكنه لم يتح له أن يروي غليله من علومها وفنونها، فكانت أمنيته الكبرى أن يتيسر له السفر إلى إيطاليا ليتعلم الموسيقى. . .

ولست أدري ما الذي كان يريد أن يتعلم سيد؟

ربما كان يريد أن يدرس أسلوب الغرب في صناعة الموسيقى. أما الفن، فأنا مؤمن بأن سيداً لم ينكب برزء أسود من نسبته إلى مصر، فلو قد كان إيطالياً، أو من شعب متقدم، لكنا نسمع اليوم ألحانه عن طريق السينما، وعلى اعتبار أنها معجزات من الغرب!

وهنا في مصر يحال بين ألحانه وبين المعهد الملكي للموسيقى الشرقية. . . لأن هذا المعهد لا يعترف بموسيقى المسرح، أو لأن حضرة صاحب العزة مصطفى بك رضا الموظف في وزارة الأوقاف ومدير معهد الموسيقى والمنصوب له تمثال على حياة عينيه في حوش المعهد، والذي لم يسمع له إنسان لحناً أو أغنية - قال له الأستاذ عزيز عثمان: إن ألحان سيد درويش (هلس). . .

والحق أنه صراع بين ذوقين فنيين: ذوق القاهرة القديمة، وذوق الإسكندرية الحديثة. أما ذوق القاهرة فيمثله مصطفى بك رضا وأبناء محمد عثمان. وألحان القاهرة كما يعرف الجمهور هي هذه الألحان الصابرة الناعسة النائمة الخانعة، التي كان يقصد بها قصداً أن تغني في الأفراح والليالي الملاح التي يقيمها البيكوات والباشوات، وقد كان محمد عثمان أبرز المغنين في هذا النوع، وكانت موسيقاه المخمورة هي الرائجة في عصر النوم والسهر. . .

أما ذوق الإسكندرية فغير هذا. . . ذوقها هو الظاهر في موسيقى سيد، هو هذه الحياة المنغمة، وهذه العواطف الملحنة التي نفثها سيد درويش في مصر، والتي أخذها عنه من بعده زكريا أحمد فوفق، ومحمد عبد الوهاب فأنحرف بها إلى تقليد الموسيقى الغربية لأنه حسبها تقليداً واقتباساً كما قرأ في المجلات، وهي بعد ذلك أساس المذهب الحديث الذي يقلده ملحنو اليوم!

واليوم ووزير المعارف هو معالي النقراشي باشا الإسكندراني ووكيلها هو صاحب العزة السنهوري بك الإسكندراني. . .

ألا نستطيع أن نأمل في إحياء موسيقى سيد درويش على أيد يهما؟ إننا نز جو هذا ما دام لها ذوق فني ناضج حي، وإن لها هذا الذوق

عزيز أحمد فهمي