مجلة الرسالة/العدد 323/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 323/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 09 - 1939



لحظات الإلهام في تاريخ العلوم

تأليف مريون فلورنس لانسنغ

2 - عصر النار

منذ عصور طويلة أدرك الإنسان وجوده في هذه الدنيا. ومع أنها وطنه ووطن أبنائه وأحفاده إلى مدى أجيال لا عداد لها فإنه كان غريباً فيها، وكان عليه أن يتعرف على كل شيء بها.

وكل طفل يولد في هذه الدنيا يولد غريباً، حتى في داره. فالوليد يتعرف في بطئ على الحجرة التي يقيم فيها، ثم على الطريق الذي به مسكنه، وعلى أبيه، وأمه، واخوته، وأخواته؛ ويتبين فيما بعد أنه يستطيع المشي، وأنه يستطيع الكلام!

وفي يوم ما ينتقل من هذا العالم الصغير عالم الدار إلى المدرسة فيجد دنيا أوسع من التي عرفها من قبل. وربما سافر بعد ذلك فعرف عن دنياه أكثر وأكثر

ومهما يؤد المرء من عمل فإن غيره قد هيأ له سبيله فسهل عليه تناوله، فعندما يتقدم الصغير في السن ويريد أن يشيد لنفسه منزلاً فإنه لا يحتاج إلى تعلم صناعة ابتناء المنازل فإن تلك الصناعة معدة متهيئة لما يقع عليه اختياره، وليس على من يريد التخاطب بالمسرة أن يخترعها، بل يدعو الأخصائيين فيضعون الأسلاك في منزله. وتنقل إليه الصحف واللاسلكية والصور المتحركة أخبار العالم وتخبره الكتب عن جغرافيته وتاريخه ويتهيأ العالم بسائر الوسائل العلمية

ومن بواعث السرور لنا نحن الذين وجدنا حياتنا مريحة ميسرة ممتعة أن نتعرف على الرجال والنساء اللذين هيئوا لنا العالم هذه التهيئة

إنهم أناس عاشوا في هذه الدنيا قبل أن نوجد بها، وعاشوا فيها في عصور بعيدة مظلمة. وليس في وسعنا أن نعرف شيئاً عن فريق منهم إلا بواسطة ما تركوه لنا من الأشياء كالأسلحة الحجرية والنقوش المرسومة على الكهوف ومعابد الآلهة. ومن هؤلاء الرجال فريق آخر عاش في عصر الأقاصيص والسير حين كانت أعمال الإنسان تنقل أخبارها إلى بقاع الأرض بالحديث الشائع الذي لا يدرون كتابته

ومنهم فريق ثالث عاش في بداية العصر التاريخي، وفريق عاش في القرون الوسطى، وآخر عاش في بضع المائتين الأخيرة من السنين، ولا يزال فريق غير هؤلاء يعيش بين ظهرانينا إلى الآن

لم يصل إلى الناس أي جزء من المعرفة إلا بواسطة استكشافه على يد إنسان. وقد كانت الأرض التي وجد الإنسان الأسبق نفسه فوق ظهرها حافلة بالكنوز كما هي اليوم، ولكنه لم يستطع استكشاف كنوزها لنفسه فلم تفض إليه بأسرارها، وكان عليه أن يتعلم إيقاد النار وإذابة الحديد الواشج بالصخور، وكان عليه أن يعرف مقاييس الزمن وأن يستخدم البوصلة في تسيير السفن، وكان البخار والكهرباء ينتظران استكشافهما على يده، والفحم والنفط لا يزالان مدفونين في باطن الأرض قبل أن يستخدمهما في إدارة الآلات

وكان إنسان العصور السابقة يستطيع لكل هذه العناصر أن يأتي بالعجائب ولكن كان لابد له قبل ذلك أن يستكشفها، وأن يعرف مزاياها.

وبسبب الحذق الذي أبداه الإنسان في أعماله أصبح اليوم غير غريب عن دنياه، وليس ذلك فقط، ولكنه أصبح السيد المنتصر في الدنيا

لقد اجتاب على مدى قرون طريقاً طويلاً جبلياً فأصبح هذا الطريق مهيعه إلى النصر

وكما أنه لابد أن يوجد دائماً رجل مشغوف بالمخاطر منتج من شأنه أن يضيف جزءاً من المعرفة إلى كنوز المعرفة وإلى الذهن الإنساني، فكذلك توجد دائماً لحظة في حياة كل رجل من هؤلاء الرجال هي التي يتبين فيها حقيقة جديدة تدفع إلى عمل شيء يجعله ويجعل جيرته أحكم أو أرغد أو أغنى أو أسعد. هذه هي اللحظات التي تدور حولها قصصنا هذه

إن العلم معرفة من المعارف الإنسانية وقد نمت المعرفة الإنسانية بما في الأنفس من نزعات وثابة جوالة جوابة، ومثل اللحظات العظيمة في حياة العلم على مدى العصور كمثل لحظات الإلهام والنصر في حياة الفرد، وفي هذه اللحظات يظهر الإنسان وهو المخلوق الذي ميزته الروح والعقل بمظهر الانتصار على دنيا المادة

سر صنع النار

كما يرويه أهل الجزر في المحيط الهادي منذ أجيال طويلة، كان أبناء الفناء لا يزالون حديثي العهد بسكنى الأرض، ولم يكن أحد منهم ليعرف سر صناعة النار، ولم يكن يعرف ذلك السر إلا آلهة العالم السفلي.

وكانوا يتولون حراستها دائبين خشية أن يعلم الإنسان ذلك السر، فيصبح من الحكمة في مستواهم. وقد كان موطن النار في العالم السفلي كما يعرف ذلك كل من رأى دخانها المتصاعد من فوهات البراكين. ولكن كان من الصعب تعرف الطريق إلى ذلك العالم، لأن الرقباء كان كثيراً عددهم على أبوابها.

وحدث مرة أن أقام بين الفانين في العالم العلوي شاب اسمه ماوي؛ ومع أنه فان كسائر من على ظهر الأرض، فإن أبويه كانا يعيشان في العالم السفلي بين آلهته، وكانوا يترددون إلى الأرض للقيام بمهام الآلهة.

وكانت أم ماوي واسمها (بوراتاتنجا) إذا أتت لزيارته أبت أن تؤاكله، وكانت في ذهابها ومجيئها تحمل سلة أتت بها من العالم السفلي، وهي تتناول الطعام على انفراد مما في تلك السلة. وفي أثناء نومها يوماً نظر ماوي إلى ما في السلة، وأخذ منها طعاماً، فذاقه، فوجده أفضل من كل ما ذاقه إلى الآن. ومع أنه كان من نوع سائر الطعام، فإن به شيئاً يجعله أفضل منه.

وعلم ماوي شيئاً عن النار وعرف أن الآلهة يطبخون الطعام على النار التي يصنعونها، فأصر على أن يملك النار ما دامت تجعل الطعام من الجودة كما رآه. وأصر على مراقبة أمه سراً عند عودتها، وعلى أن يخاطر بالذهاب إلى العالم السفلي ليحظى بهذه الهبة الغالية

واقتفى ماوي أثر أمه وأفلت من الحراس عند الأبواب الأولى؛ أما عند بعض الأبواب الداخلية فقد كان عليه أن ينتظر طويلاً حتى يتبدل الحراس ليتمكن من الدخول أثناء اشتغالهم بالكلام

لكنه وصل بعد مخاطرات كثيرة إلى منزل أمه وقال لها: إنه غير راغب في العودة إلى العالم الأرضي حتى يعلم سر صناعة النار

قالت الأم: (ولكنني لا أعلم هذا السر ولا يعلمه أحد غير إله النار وهو لا يفشيه. ومتى احتجت إلى نار جديدة فإني أذهب إلى أبيك (بو) وهو يذهب إلى إله النار ويطلب إليه منحه جزءاً من الخشب المحترق قال ماوي: (إذن فسأذهب إلى إله النار وأطلب إليه تعليمي سرها)

فبذلت بوراتاتنجا كل ما في وسعها لتبعد ابنها عن إله النار لخشيتها أن يصاب ابنها الفاني في العالم السفلي. ولكن ماوي أصر على الذهاب وسأل عن موطن إله النار فدلته أمه على الطريق وكان اسم مسكنه (بيت شجر الموز)

وقالت له حين هم بالذهاب: (احترس يا ماوي فإن إله النار قوي جداً وقد يشتد به الغضب)

وذهب ماوي إلى بيت إله النار وعرفه للحال عندما رآه لكثرة الدخان المتصاعد فوق سطحه

وكان إله النار مشغولاً بطبخ طعامه، ولكنه وقف وسأل ماوي عما يريد

قال ماوي: (أريد جذوة من النار). فكان جواب إله النار - وهو يعود إلى الطبخ -: (لن ينال أحد الفانين جذوة من النار)

قال ماوي: (إن الفانين في حاجة إلى النار، وإنه قطع كل هذه المسافة أملاً في الحصول عليها) فقال الإله وقد ولاه ظهره: (لقد علم الفانون ما فيه الكفاية، ولو عرفوا النار أيضاً لصاروا آلهة). . .

وعاد ماوي حزيناً لأنه رأى إله النار لن يعلمه هذا السر. ولكنه عزم على البقاء مختبئاً بالقرب من منزل إله النار ليرى هل سيكون في وسعه أن يعرف بنفسه سرها. ومع أنه طلب جذوة من النار - كما أخبرته أمه أن أباه يفعل - فإنه أدرك أثناء نظره إليها أن جذوة لن تكفيه لأنه لا يستطيع أن يستبقيها مشتعلة أثناء رحلته إلى الدنيا

واختبأ ماوي بين أشجار الموز وراقب إله النار وهو يغذيها فلما تعب وجاع أسعده الحظ وهو يكاد ييأس ويعود إلى بيت أمه، فمن خلال الفوهة الجبلية التي كان إله النار يرسل منها دخان ناره إلى العالم (حيث لا يزال الناس يرونه إلى هذا اليوم) - من خلال هذه الفوهة انصب وابل من المطر، وكانت نار هذا الإله تحت هذه الفوهة مباشرة. وكان اندفاع الماء شديداً فلم يجد الإله فرصة حتى ولا لأخذ جذوة منها فانطفأت النار قبل أن يجد متسعاً من الوقت للالتفات.

وكان إله النار في البداية حاد الغضب فلم يستطع أن يفعل شيئاً سوى أنه لعن المطر الذي أطفأ ناره قبل أن ينضج طعامه أو يكاد. ثم التفت ليستوثق من أن أحداً ليس قيد النظر.

ولكنه لم ير ماوي الذي كان على شجرة مشرفة على المنزل، ثم دخل حجرة أخرى وأغلق الباب، وأخذ من بعض أركانها قدراً من ألياف مجففة من الكاكاو وأخذ قدراً من ركن آخر نحو خمسة أو ستة من فروع الموز. وكان في وسط الغرفة كتلة صغيرة من خشب صلب بوسطها تجويف

وكان ماوي يراقب باهتمام ما يفعله إله النار فوجده ينتقي فرعاً خفيفا من فروع الموز ويفتله فتلاً محكماً ويمسك بقوة أطرافه المفتولة ويحكها بقاع الفجوة التي بالكتلة الخشبية

وكان في أثناء فتله ينشد:

شجر الموز يا شجر ... أعطني منك ما استتر

جذوة منك تختفي ... خلف غض من الثمر

أعطني منك جذوة ... حية تبعث الشرر

وفي هذه الأثناء رأى ماوي الدخان وقد بدأ يتصاعد من الفرع المفتول في الفجوة، ثم زاد تصاعد الدخان، فلما رأى الإله تصاعد الدخان ألقى في النار بألياف الكاكاو. ودهش ماوي إذ رأى ناراً محرقة ساطعة

لم يضيع ماوي وقته سدىً بل أسرع بالعودة إلى العالم وأخذ ألياف الكاكاو وفروع الموز وكتلة من الخشب الصلب وبدأ يجرب العمل بذلك ليعرف هل يستطيع الحصول على النار

وقد استغرقت منه التجربة وقتاً طويلاً لأن صنع النار ليس بالعمل السهل. وستدرك ذلك إذا حاولته. ولكنه استفاد من تجاريبه علمه كيف يمسك بورقة الموز الجافة وكيف يفتلها وكيف يشتد في حكاكها بالخشب

ولما وثق ماوي من أن النار تعيش في شجر الموز وأن في وسع أي إنسان أن يحصل على جذواتها - ذهب إلى رؤساء القبيلة فأخبرهم بذلك فجاءوا إليه خلسة وراقبوا صنعه النار

ومع أن بعضهم خافوا أن يحل بهم غضب الآلهة لأنهم تعلموا هذا السر غير المباح للفانين فإن أجرأ هؤلاء الزعماء طربوا لحصولهم على هذه القوة

بعد ذلك علم الناس أن النار تكمن في الخشب، وأنها تخرج منه طوع الإرادة، وأن أحدهم يستطيع أن يصنع النار كلما أراد فينضج طعامه ويدفئ نفسه وكان يوماً عظيماً في عمر الإنسان ذلك اليوم الذي عرف فيه كيف يصنع النار

(يتبع)

ع. ا