مجلة الرسالة/العدد 323/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 323/التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
لم تكن مصر إذاً في حالة تدعو إلى القلق إلا إذا كان الخلاف بين الخديو ووزرائه مشكلة تستدعي حتما تدخل الدول الأوربية لحسمها، إذ لا يتسنى علاجها إلا على هذه الصورة
لم يكن هذا الخلاف الذي نشير إليه سوى الذريعة التي باتت إنجلترا تتحينها لتخطو الخطوة التي كانت سياستها في مصر طوال القرن التاسع عشر متجهة إليها، وكانت إنجلترا قد عولت أن تقطع العقدة إذا لم يتيسر لها حلها، فبقطع تلك العقدة أو حلها تصيب في الواقع غرضين: السيطرة على مصر وهذا قصارى آمالها في الشرق، والتخلص من مشاركة فرنسا لها فيما هي فيه من شؤون مصر وهذا ما كانت مصلحتها تفضي بوجوب الإسراع فيه
والإنجليز قوم نبغوا في أن يأخذوا كل شيء وألا يعطوا شيئاً، وأن يستبطنوا دخيلة كل عدو أو حليف دون أن يكشفوا له عن شيء تنطوي عليه نفوسهم، ولهم في ذلك أساليب يعد نجاحهم في إنفاذها أحد أسباب تفوقهم الكبرى
لذلك تقدم هؤلاء ليلعبوا إحدى لعباتهم السياسية وقد سهلت عليهم سياسة فرسنيه الأمر، فقد رأى هذا أن تبتعد إنجلترا وفرنسا عن التدخل المسلح في شؤون مصر، وفاته أنه إن استطاع أن يوجه سياسة بلاده نحو هذا الهدف فما له حيلة في إنجلترا إن استعصت عليه أو انسحبت منه
وتقدم فرسنيه يعرض على إنجلترا مقترحات لحل المشكلة، فطلب على لسان سفيره أن ترسل الدولتان سفناً من أسطوليهما إلى مياه الإسكندرية وأن تطلب الحكومتان إلى تركيا ألا تتدخل في شؤون مصر في ذلك الوقت، ولكن فرنسا لا تعارض إذا حضرت قوة عثمانية إلى مصر بدعوة من الدولتين على أن يكون عملهما محدوداً وأن تكون تحت مراقبتهم ورأى فرسنيه أن تحاط روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا بما تتخذه إنجلترا وفرنسا حيال المسألة المصرية على أن تكون تعليمات تلك الدول إلى سفرائها في الآستانة عين تعليمات الدولتين
أما عن مركز الخديو فقد رجعت فرنسا عن رأيها في خلعه ذلك الرأي الذي كانت تراه لو اتبع قبل ذلك يقضي على كثير من الصعاب
وكان فرسنيه يريد من المظاهرة البحرية أن يلقي الرعب في قلوب الوزراء ليقلعوا عن مقاومة الخديو فتنتهي الأزمة التي كانت قائمة بينه وبينهم، ولقد وافق جرانقل على مقترحات فرسنيه في جملتها ورأى أن يبلغ الباب العالي مع الاحتياط في القول أنه قد تعرض عليه في المستقبل مقترحات أخرى، ولكن فرسنيه لم ير هذا الرأي لأنه كان يرغب عن التقرب من تركيا ولذلك رفضه بادئ الأمر ولكنه عاد فقبله بعد إلحاف جرانفل عليه وكتب إلى سفيره بالآستانة أن يبلغ السلطان أنه (ليس من المستبعد أن تقدم اقتراحات أخرى إلى تركيا فيما بعد)
وأراد جرانفل أن يبعد عن نفسه وعن حكومته تهمة الرغبة في التدخل في شؤون مصر فاقترح أن تدعى الدول الأوربية إلى إرسال سفن إلى الإسكندرية تقف إلى جانب السفن الإنجليزية الفرنسية؛ وما كان جرانفل جاداً فيما يقول فإنه كان على يقين أنه سيقابل من فرنسا بالرفض ولو كانت لديه شبهة أن ستقبله فرنسا لما تقدم به، بل لو كان هذا الاقتراح من جانب فرنسا لعارضت فيه إنجلترا أشد المعرضة؛ ولو أن إنجلترا كنت جادة في مقترحها هذا لبذلت قصارى جهدها لتحمل فرنسا على قبوله ولكنها اكتفت أن تبلغ فرسنيه على لسان وزيرها أنها تأسف ألا تقرها فرنسا على وجهة نظرها وأنها تعد من الخطأ عدم دعوة الدول إلى الاشتراك في تلك المظاهرة، ولكن بما أن فرنسا قد ذهبت في الموافقة على السياسة البريطانية إلى مثل هذا الحد فإن إنجلترا لا يسعها إلا أن توافق فرنسا على ما ترى
وآمن فرسنيه بنزاهة السياسة الإنجليزية، ولو كان غير فرسنيه في موضعه لآمن بها كما آمن هذا، فلم يكن يدور بخلد أحد يومئذ أن إنجلترا كانت تترقب الفرص لتنقض على الفريسة دون فرنسا ولا كان في عملها ما يستراب منه؛ ولكن الإنجليز في هذا العالم خير من انتصح بنصائح مكيافلي وخير من حذقها ولو قد تأخر الزمن بهذا الرجل لأخذ عنهم مبادئه ولوجد في أساليبهم وخططهم أبلغ أمثلة كتابه
الحق أن هذا المكر كان يدق على فرسنيه وغير فرسنيه من أولي الخبرة والدهاء من الرجال؛ وما كان ليفطن إلى هذا إلا من يسيء الظن بإنجلترا فيكون مبعث فطنته سوء الظن لا حسن الفهم وبعد النظر، ونحن إنما نفطن إلى هذه السياسة بعد أن تكشفت وتعاقبت عليها السنون، ولقد فطن إليها فرسنيه ورجال حكومته وشعبه لا ريب يوم وقعت الواقعة وانفردت إنجلترا بضرب الإسكندرية غير حاسبة لأي شيء من حولها حساباً
وكانت إنجلترا تبغي من سياستها هذه أن تصرف الدول عن مصر فإن دعوة تلك الدول إلى مشاركتها في المظاهرة البحرية يظهرها بمظهر من لا غرض له إلا الصالح العام في حين أن انفرادها هي وفرنسا بالأمر يغضب الدول ويجعلها تميل إلى التدخل لتنال حظاً من الغنيمة في مصر أو في غير مصر يوم يقوم الحساب وتوزع الأسلاب
وفضلاً عن ذلك فقد كانت إنجلترا تحذر أشد الحذر أن تغضب السلطان فينحاز إلى عرابي وحزبه ضد توفيق فيظهر هؤلاء بمظهر المحافظين على حقوق السلطان صاحب الحق الشرعي ضد الخديو ومشايعيه من الطامعين، وهنالك فكل تهمة بالعصيان ضد عرابي أمام الشعب المصري إنما تذهب أدراج الرياح
ولقد فطن ماليت إلى خطورة هذا الأمر وكتب إلى حكومته ينذرها أن إغفال تركيا من شأنه أن يضم النواب إلى العسكريين فيقفوا جميعاً صفاً واحداً ضد أوربا أو على الأقل إنه يقوي جانب عرابي وأشياعه
وودت إنجلترا لو طاوعتها فرنسا فيما أشارت به، ولما وجدت إصرارها على استبعاد تركيا والدول جميعاً لم تر بداً من أن ترسل إلى الدول قراراً ينفي أي نية في احتلال مصر ويؤكد أن إنجلترا لم ترد بالمظاهرة البحرية إلا إقرار السلام داخل مصر وأنها سوف تترك مصر وشأنها إذا قضي على ما فيها من القلاقل؛ وإذا لم تنجح تلك الوسائل السلمية فسوف تتفق إنجلترا والدول على ما تراه هي وفرنسا خير سياسة تتبع
وتحدث اللورد دوفرين سفير إنجلترا بالآستانة إلى وزير الخارجية العثماني في لهجة شديدة قائلاً: إنه إذا لم تعمل تركيا ما من شأنه أن يسهل على إنجلترا خطتها فسوف تزيد إنجلترا عدد القطع في الإسكندرية وتطيل أمد بقائها جميعاً هناك
ولكن السلطان آلمه وأغضبه أن توجد السفن الفرنسية الإنجليزية أمام الإسكندرية فلم يكف عن احتجاجه وإعلان سخطه مما زاد الموقف العام حرجاً وتعقيداً
وبينما كانت فرنسا وإنجلترا تتبادلان الرأي على النحو الذي نذكر، كان الحنق في مصر على الخديو يتزايد يوماً عن يوم، وما زال الناس في قلق وخوف من موقفه ومشايعته الإنجليز على هذه الصورة حتى وصلت السفن إلى الإسكندرية
ولقد أخذ بعض الناس على الوطنيين أنهم لم يخلعوا الخديو في ذلك الوقت ويتصلوا بتركيا طالبين تعيين غيره؛ والواقع أنها مسألة دقيقة، فمن الناحية الوطنية كان الوطنيون يرون ضرورة خلعه، وحجتهم أن السكوت معناه التفريط في جانب الوطن ولكنهم من الوجهة الأخرى كانوا يرون أن عملهم هذا ينقلب وبالاً عليهم في ظروف كتلك الظروف التي أذاعت فيها أوربا عنهم المزعجات من الشائعات
وفي هذه الآونة حدث في صفوف النواب ما نخجل أشد الخجل من ذكره، فقد انحاز كبيرهم سلطان إلى الإنجليز وشايعه عدد منهم ليس بالقليل ولم يكن للوطنيين من عاصم في تلك المحنة إلا الاتحاد والثبات فكأنما تأبى الأيام إلا أن تجعل من أبناء مصر بعضهم لبعض عدواً، وكأن ذلك لكثرة ما تكرر من طباعهم التي فطروا عليها؛ ولطالما نكب هذا الشرق المسكين بتخاذله وانقسام أبنائه بعضهم على بعض مع أنهم يرون الظالمين الطامعين فيهم من أهل الغرب بعضهم في الكيد لهم أولياء بعض!
وكان انحياز سلطان والمستضعفين من النواب معه إلى الخديو أولى ثمرات المظاهرة البحرية؛ فإن سلطاناً حينما علم بها من الخديو فكر وتدبر ورأى أن المستقبل للخديو؛ فلما حضرت السفن اطمأن إلى الخديو وآثر أن يبادر بالانضمام إليه لتكون له الحظوة والمكانة عنده وعند الإنجليز أولي الجاه والبأس؛ وأمثال سلطان هذا إنما يعملون لأشخاصهم فحسب، وعلى ذلك فهم عبيد القوة وإن تعاظموا، وهم أضعف الناس وإن تطاولوا، وهم أحرص الناس على المادة وإن تظاهروا بالنبل والعفة، وهم إنما يدلون بجاه من يستكينون إليهم إدلال الخادم بسيف سيده
ونشط ماليت وأعوانه من جديد يذيعون أسوأ الأنباء عن مصر وعن عرابي وحزبه على وجه الخصوص، حتى لقد وقف جرانفل في مجلس اللوردات في يوم 15 مايو يتوعد مصر ويتهدد ويصرح في غير تردد ولا استحياء أن النواب والأمة جميعاً في صف الخديو
وكان مستر بلنت لا يزال يسعى سعيه في إنجلترا لصالح الوطنيين وكانت بينه وبين عرابي مراسلات برقية قبل تصريح جرنفل يؤكد فيها عرابي الهدوء والسلام في مصر، فلما أعلن جرنفل تصريحه أرسل بلنت إلى عرابي رسالة برقية بتاريخ 16 مايو يقول فيها: (قال لورد جرانفل في البرلمان أن سلطان باشا والنواب قد انضموا إلى الخديو ضدك، فإن كان هذا القول غير صحيح فاطلب إلى سلطان باشا أن يرسل إلي تكذيباً، وإذا اتحدتم فلا تخشوا شيئاً. . . ألا يمكنكم أن تؤلفوا وزارة يكون سلطان رئيساً لها؟ وعلى كل حال عليكم بالثبات)
وأرسل هذا الرجل الحر إلى سلطان باشا في نفس الوقت برقية هذا نصها: (أعتقد أن جميع أولئك الذين يحبون مصر يجب أن يتحدوا فلا تتشاجر مع عرابي. إن الخطر عظيم) كما أرسل إلى كل من بطرس باشا وأبو يوسف ومحمد باشا الفلكي هذه البرقية (هل الحزب الوطني مع عرابي الآن؟ الحكومة الإنجليزية تدعي أنه ليس كذلك. إذا ذهب اتحادكم ضمتكم أوربا إلى أملاكها) ووصلت هذه البرقية أيضاً إلى الشيخ محمد عبده والشيخ الهجرسي وعبد الله أفندي نديم
وجاء بلنت رد سلطان فإذا به يقول: (لقد زال الخلاف الذي كان بين الخديو وبين الوزارة ولم يبق له أثر. وكلنا متفق على المحافظة على الأمن والسلام وعلى مناصرة الوزارة الحاضرة)
وتلقى كذلك مسير بلنت برقية من الشيخ الأمبابي شيخ الجامع الأزهر نصها: (من الشيخ الأنبابي شيخ الإسلام. سوى الخلاف بين الوزارة والخديو، والحزب الوطني راض بعرابي، والأمة والجيش متحدان)
وكتب الشيخ محمد عبده إليه أيضاً مثل هذا المعنى.
(يتبع)
الخفيف