مجلة الرسالة/العدد 323/ابن حوقل
مجلة الرسالة/العدد 323/ابن حوقل
للأستاذ ميخائيل عواد
يجد المتوغل في تاريخ العرب حركة علمية واسعة النطاق، امتدت أحقاباً من الزمن، وهي كلها جديرة بالعناية والدرس، وحرية بأن تتناولها الأقلام في وقتنا لتجلو مختلف صفحاتها التي كانت إحداها السياحة في البلدان والضرب في مختلف الأصقاع
لقد امتهن بعض العرب هذا النوع من الحياة، فكان منهم من نسميه بالتاجر الرحالة. . . بل إن فريقاً آخر منهم اتخذها علماً، يعلو به ويكتب فيه، وينشر لواءه شرقاً وغرباً. . . ذاك هو الجغرافي المخطط للبلدان. وليس بين الفريقين من مدى واسع، فإن كليهما يستكشف مجاهل الأمكنة والبقاع، ويتولى البحث في أحوال الأمم التي يتردد إلى مواطنها، فيدرس طباعها ويتعرف خواصها ويتصل بأسباب ثروتها، فيصف تربتها وغلاتها وطرقها، إلى ما هنالك من مرافق عامة وخاصة.
هذه كلمة نمهد بها لكلامنا على الرحالة العربي الشهير: (ابن حوقل) الذي ذاع صيته في القرن الرابع للهجرة، والذي بالرغم من ذلك لم يخل مجال البحث عنه من مصاعب وغموض، نظراً إلى أن ما بين أيدينا اليوم من المصادر القديمة لم يورد بشأن منشأه وحياته ووفاته إلا النزر اليسير.
حياته
هو أبو القاسم محمد بن علي الموصلي، ولد ببغداد، ونشأ بها على اتفاق أغلب المؤرخين، وذلك في أواسط القرن الرابع للهجرة، وأقبل على التجول في البلاد الإسلامية، متعاطياً التجارة، لمكانتها الخاصة في الكسب، ولما تقتضيه من التنقل والتجول، وهي الناحية التي شغف بها فتملكته. وصادف عند ابتدائه في تجواله عام 331هـ (942م)، أن انقطع المسعودي الرحالة الشهير عن الارتحال ولزم داره، وعلى هذا فإن ابن حوقل قد خلف المسعودي في هذا المضمار. . . وانتهى رحالتنا من رحلته الواسعة سنة 359هـ (970م). فيكون بهذا قد أمضى ثمانية وعشرين عاماً في حل وارتحال، زار خلالها أقاصي البلدان، فساح في العالم الإسلامي شرقاً وغرباً من نهر السند إلى المحيط الأطلنطي، ووصف بلاد البربر وصفاً جميلاً، كما أنه جال في بلاد الأندلس متنقلاً بين كثير من مدنه المشهورة. دخل صقلية وأسهب في الكلام عليها، وجاب ربوع مصر وسورية والعراق وفارس. . . ودون أخبار رحلته سنة 367هـ (977م)، ضمن كتابه المسمى بـ (المسالك والممالك والمفاوز والمهالك).
قال فيه عن نفسه: (. . . بدأت سفري هذا من مدينة السلام - يوم الخميس - لسبع خلون من شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. . . وأنا من حداثة السن وغرته، وفي عنفوان الشباب وسكرته، قوي البضاعة، ظاهر الاستطاعة. . .)
إلى أن يقول: (. . . وقد ذكرت في آخر كتابي هذا كيف تعاورتني الأسفار، واقتطعتني في البر دون ركوب البحار، إلى أن سلكت وجه الأرض بأجمعه في طولها، وقطعت وتر الشمس على ظهرها. . .).
ثم يصف لنا خطته في تأليف كتابه فيقول: (وقد حررت ذكر المسافات، واستوفيت صور المدن وسائر ما وجب ذكره. . . وقد فصلت بلاد الإسلام إقليماً إقليماً وصقعاً صقعاً وكورة كورة لكل عمل. وبدأت بذكر ديار العرب، فجعلتها إقليماً واحداً، لأن الكعبة فيها ومكة أم القرى، وهي واسطة هذه الأقاليم عندي. . .).
ويتضح لنا من دراسة مصنفة إنه اقتصر على ذكر صفات الممالك الإسلامية، ولم يتعرض لغيرها متنصلاً من ذلك بقوله في كتابه المذكور: (. . . أما بلاد النصارى والحبشة، فلم أتكلم عليها إلا يسيراً، لأن تولعي بالحكمة والدين والعدل وانتظام الأحكام يأبى أن أثني عليهم بشيء من ذلك).
ابن حوقل يتعاطى التجسس
ذكر العلامة دوزي في كتابه (تاريخ إسلام أسبانيا) أن ابن حوقل كان عيناً للفاطميين يتعاطى التجسس لمصلحتهم. ولا شك أن يكون قد نال حظوتهم والتفاتهم أثناء نزوله بين ظهرانيهم، فسهلوا له شؤون رحلته وتجارته؛ وقد تمخضت هذه العلاقة عن تبادل الثقة، فوجدوا فيه خير مثال للدعاية، وهو ذاك الرحالة الشهير الذي يجوب بلدان الأرض فينشر دعوتهم على أحسن ما يرام!
كتاب (المسالك والممالك) جاء في مقدمة الطبعة الأولى (للمسالك والممالك) ما نصه: (هذا كتاب المسالك والممالك والمفاوز والمهالك، وذكر الأقاليم والبلدان، على مر الدهور والأزمان، وطبائع أهلها، وخواص البلاد في نفسها، وذكر جبايتها وخراجاتها ومستغلاتها، وذكر الأنهار الكبار، واتصالها بشطوط البحار، وما على سواحل البحار من المدن والأمصار، ومسافة ما بين البلدان للسفارة والتجار، مع ما ينضاف إلى ذلك من الحكايات والأخبار والنوادر والآثار، تأليف أبي القسم بن حوقل. . . معول فيما جمعه على كتاب الإمام العالم أبي القاسم محمد بن خرداذبة، وقدامة بن جعفر الكاتب. . .).
وقد قدم كتابه هذا إلى أبي السري الحسن بن الفضل بن أبي السري الأصبهاني. قال ابن حوقل: (. . . وقد عملت له كتابي هذا بصفة أشكال الأرض ومقدارها في الطول والعرض وأقاليم البلدان، ومحل الغامر منها والعمران، من جميع بلاد الإسلام بتفصيل مدنها. . . وكان مما حضني على تأليفه، وحثني على تصنيفه، وجذبني إلى رسمه، أني لم أزل في الصبوة شغفاً بقراءة كتب المسالك، متطلعاً إلى كيفية البين بين الممالك. . . وترعرعت فقرأت الكتب الجليلة المعروفة. . . فلم أقرأ في المسالك كتاباً مقنعاً، وما رأيت فيها رسماً متبعاً، فدعاني ذلك إلى تأليف هذا الكتاب. . . وأعانني عليه تواصل السفر وانزعاجي عن وطني مع ما سبق به القدر لاستيفاء الرزق والأثر والشهوة لبلوغ الوطر. . .)
شغف ابن حوقل أثناء تجواله بدرس مؤلفات المتقدمين كالجيهاني وابن خرداذبة وقدامة. وكان لدى إحدى عوداته إلى بغداد عام 340هـ (951م) قد لقي الإصطخري (صاحب كتاب المسالك والممالك , الذي صنفه نحو تلك السنة أيضاً). فاطلع ابن حوقل على كتاب الاصطخري، وانكشفت له مواطن الضعف فيه، وكان الإصطخري قد طلب إليه أن يراجع مصنفه ويهذب بعض خرائطه الجغرافية , لكن ابن حوقل أبى ذلك، واعتزم كتابة هذا المصنف (المسالك والممالك) من جديد، فأتمه على ما أراد، حيث ضمنه مشاهداته ودراساته الخاصة وجعله باسمه
وهذا ما حدا بالكثير من المؤرخين إلى أن يقولوا كلمتهم في مصنف ابن حوقل ويعتبروه صورة ثانية لكتاب الإصطخري مع زيادات آتيه من دراساته ومشاهداته الخاصة التي اكتسبها أثناء رحلته، فأضافها إليه حينما عدل عن تصحيح كتاب الإصطخري.
وقد أضاف أبو الفداء في جغرافيته المسماة تقويم البلدان أن (كتاب ابن حوقل مطول، ذكر فيه صفات البلاد مستوفياً، غير أنه لم يضبط الأسماء، وكذلك لم يذكر الأطوال ولا العروض وصار غالب ما ذكره مجهول الاسم والبقعة. . .)
وجاراه في هذا القول الحاج خليفة صاحب كشف الظنون
ومهما يكن من أمر فأن هذا السفر الجليل عظيم الفائدة جدير بالدرس والاستقصاء، لاختصاصه في الجغرافية دون سواها فهو يحوي وصفاً دقيقاً لأغلب الأقطار. ولقد أفادنا بصورة خاصة عن مصر وسورية والعراق، وتعد بحوثه في المغرب وأسبانية وصقلية من المصادر الرئيسية، ناهيك بالمعلومات القيمة عن بقية الأصقاع والبلدان والمسافات، كما أنه لم ينس أن يعطينا فكرة عن ثروة البلاد وتجارة أهاليها، وجباية الضرائب إلى غير ذلك.
طبعات الكتاب
نال هذا المصنف اهتماماً حسناً، فظهرت له عدة طبعات قام بها طائفة من المستشرقين، والفضل الأوفر في ذلك يعود إلى المستشرق الكبير دي غويه، وسنأتي على ذكر هذه الطبعات فيما يلي:
أولاً: الطبعات الكاملة
1 - الطبعة الأولى: نشرها المستشرق دي غويه الهولندي سنة 1873 في لندن، معتمداً في ذلك إلى نسختي خزانتي ليدن وأكسفورد، كما أنه اعتمد على النسخة العربية المرقومة 2214 في خزانة كتب باريس الأهلية، تلك التي أطلق عليها في طبعته اسم الموجز الباريسي وهو نص النسخة الاستنبولية. وتعتبر هذه الطبعة الحلقة الثانية من مجموعة (المكتبة الجغرافية العربية) أن هذه الطبعة قد نفذت منذ سنين عديدة وأصبحت نسخها من نوادر الكتب
2 - الطبعة الثانية: اعتنى بنشرها المستشرق كريمرز بمطبعة بريل في ليدن سنة 1938، وقد اعتمد بصورة خاصة على نص النسخة المرقومة 3346، المحفوظة في خزانة السراي العتيق في استنبول، وعلى صورها، كما أنه قابل نص الطبعة الأولى المذكورة آنفاً، وبعض المصادر الأخرى، فجاءت بنتيجة هذه التدقيقات والمقابلات طبعة متقنة فيها وافر التحقيق، وتحتوي على كل ما هو موجود الآن من مادة كتاب ابن حوقل فأصبحت متكافئة مع الطبعة الأولى، كما أنها زينت بالخرائط ذات الشروح والتعاليق. وقد ظهر من هذه الطبعة حتى الآن: القسم الأول الذي يتقوم من 247 صفحة، وسيليه الثاني والثالث وعنونها الناشر بـ (كتاب صورة الأرض) تأليف أبي القسم حوقل النصيبي
3 - وكان هذا الكتاب قد ترجم إلى اللغة الفارسية، وعن هذه اللغة ترجمه إلى الإنجليزية السير ويلم أوزيلي وطبعه سنة 1800 في لندن بعنوان (الجغرافية الشرقية لابن حوقل)
وهي تقع في 36 + 327ص، وخريطة
ثانياً: الطبعات الجزئية
1 - القسم المختص بالعراق العجمي، اعتنى بنشره المستشرق هماكر في ليدن سنة 1822، ويقع هذا القسم في ست صفحات وترجمته اللاتينية في ثمان، وعنونت بـ (خلاصة أخبار المسافر والعجم في معرفة بلاد عراق العجم)
2 - القسم المختص ببلاد السند، طبع في بون سنة 1838 مع ترجمة لاتينية
3 - القسم المختص بإفريقية، طبع في باريس سنة 1842
4 - القسم المختص بمدينة بلرم (عاصمة جزيرة صقلية)، طبع في باريس سنة 1845، مع ترجمة فرنسية، بعناية المستشرق الإيطالي أماري
5 - القسم المختص بسجستان نشره المستشرق بلاشر في مجموعه المسمى (منتخبات من آثار الجغرافيين العرب في القرون الوسطى) المطبوع بالعربية مع حواش وملاحظات بالفرنسية، سنة 1932 في بيروت (136 - 148)
6 - ولعل هنالك بعض الترجمات أو الطبعات الجزئية مما لم نتوفق إلى الوقوف عليها لندورتها، فضربنا عنها صفحاً.
(بغداد)
ميخائيل عواد