مجلة الرسالة/العدد 322/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 322/رسالة الفن
دراسات في الفن:
. . . والفن زعامة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
هؤلاء جماعة من أبناء الصعيد العمال في عمارة، وهذان زعيمان متقدمان عليهم. أحدهما هذا الذي استجلبهم من الصعيد ووصلهم بهذا العمل الذي خبره ووقف على سره فهو مرشدهم فيه وقائدهم، والآخر هذا الذي يغني لهم أثناء العمل ما اشتد بهم العمل وما هان عليهم؛ فهو أكثرهم شعوراً بوحشة الغربة، وهو أشدهم شعوراً بوجوب الكفاح في سبيل الرزق، وهو أشدهم تفاؤلاً ورضاً بقضاء الله، وهو أشدهم نزوعاً إلى التعبير عن هذا كله، وهو أقدرهم على هذا التعبير، وأحلاهم فيه
فإذا وازنا بين زعامة المقاول، وزعامة المنشد، رأينا أن زعامة العيش تتستر وراء زعامة الروح والفن استحياء وتخاذلاً ما شبعت البطون، وما جرت الأرزاق في نهجها الطبيعي، وما سار العمل على نمطه المرسوم. فهؤلاء الجماعة من العمال لا يذكرون أن لهم إماماً يتبعونه في الحياة غير منشدهم إلا عند ما يطلبون الأجر أو العمل، وهم فيما عدا ذلك هائمون وراء شاديهم الذي يغنيهم، والذي يستدرج إلى نفوسهم ذكريات الماضي، ويقرب منها آمال المستقبل.
وفي ساعة من الساعات يفيض الشادي بالسحر والحنان والبهجة، فيرشف منها شعبه وينهل، وإذا بجمهور آخر من أبناء الصعيد أيضاً كانوا يمرون في فراغهم بهذا الحشد السكران، فيتجمعون حول الشادين يشدون معهم، لأنهم حنوا إلى الصعيد مثلهم، واستوحشوا الغربة، وذكروا الأحبة وهاجت في نفوسهم الآمال، وطاب لهم هذا الترويح الذي وجدوه فأقبلوا عليه يستروحون. وإن منهم من يقف كالمسحور يهزه الطرب ولكنه يعجز عن ترديد ما يسمع.
وفي ساعة أخرى يمر بهؤلاء الشادين جماعة آخرون شادون ولهم هم أيضاً زعيم يغني على ليلاه وأتباعه يرددون؛ فإذا صادف الغناء الطارئ هوى عند الماكثين فهم أصدقاء وأحباء، فإذا رأوا في الغناء الطارئ تعريضاً بمفخرة من مفاخرهم فهي معركة حامية قد تذهب فيها الأرواح
هذه صورة بسيطة من صور الزعامة الفنية وهي من الصور القليلة التي لا تزال قريبة من الطبيعة في صدقها وانحصارها. وإن لها شبيهاً عند أبناء البلد من القاهريين، فهم لا يزالون يقيمون حفلات الغناء في مشاربهم العامة، يقيم الحفلة مها مغنيان لكل منهما شعب يتبعه أينما حل، فإما يجد ما يصبو إليه من احترام وتوقير، وإما يحمي زعامته وكرامته بالعصي. . .
وثمة صور أخرى لهذه الزعامة التي تفرضها الطبيعة فرضاً، والتي لم تستطع الحضارة معها إلا أن تعممها فكان ذلك من حسناتها القلائل التي نجت من الصاحبات السيئات. من ذلك تلك الزعامات الفنية التي تقوم المطبعة والسينما والمسرح بالترويج لها، وبالطواف بها في بيئات العالم المختلفة. فأدوات النشر هذه تذيع آثاراً فنية بين الناس، فتجد هذه الآثار الفنية من يطرب لها، ومن يرى فيها ترديداً لشيء كان يجول في نفسه ويريد أن ينفثه منها، أو من يرى فيها شبيهاً لشيء رآه وأحسه، ولكنه لم يستغرق في تأمله، أو من يرى فيها إمكان الحدوث على هذه الصورة من صور الجمال التي حققها له الفنان. . . وهؤلاء جميعاً عندما يرون هذا يشهدون للفنان الذي أسعدهم به أنه زعيم عليهم فيه، فمنهم من يتقرب إلى زعامته بفن فيه من روح فن الزعيم ويذهب مذهبه، ومن هؤلاء من يأبى إلا أن ينافس الزعيم حتى يتزعم هو، ومنهم من يرضى بالمتابعة، وأكثر الناس يرضون بالمتعة يصيبونها عند الزعيم الأصيل وعند المتزعمين وراءه، ومنهم من يهتم الاهتمام الكبير بالمناوشات التي تدور حول الزعامة. بل إن منهم من يثيرها ويشعل نيرانها رغبة منه في التلذذ بشهود الصراع الروحي الذي لا يكون من ثمرته إلا الرقي والذي لا ينبت على جوانبه الغل ولا الحقد إلا حيث يكون النقص والعجز
وتتسع الزعامة الفنية كغيرها من الزعامات كلما اتجهت إلى العموميات التي يشعر كل الناس بان لهم صلة بها. فالأديب الذي يذكر الرحمة يجد في الناس عدداً يطرب لذكرها أكثر من العدد الذي يجده أديب آخر يذكر منظراً خاصاً من مناظر الطبيعة لا يعرفه إلا القليلون من الناس هم الذي يعيشون عنده، وهم الذين يطربون لذكره إذا جرى على لسان الأديب. ذلك أن الرحمة عاطفة تدركها النفوس الإنسانية جميعاً، ولكن هذا المنظر الطبيعي الخاص لا يدركه إلا أهله فقط
وليس معنى هذا أن زعامة الفنان صاحب الجمهور الكبير افضل من زعامة الفنان صاحب الجمهور الصغير. فقد يحدث أن يستشعر فنان بمشكلات تزحف نحو الإنسانية من بعيد فيراها، ولا يراها معه من الناس أحد غيره، وعندما تمتلئ نفس هذا الفنان شعوراً بهذه البشائر أو النذر، وعندما يعبر عنها بفنه، فإنه قليلاً ما يجد الناس الذي يتذوقون تعبيره ويوافقون عليه ويطمئنون إليه، وإنما يغلب أن تثور عليه الجماهير، ويغلب أن يتصدى له من زعماء الفن في عصره من تقاعد بهم الحس فيزمونه بالعجز أو الخبل، أو الالتواء أو شتى هذه التهم التي يتقاذف بها المتقاطعون الذين لا يتفاهمون، والذين لا يريدون أن يتفاهموا. وكثيراً ما ينكمش الفنان السباق في حنايا فنه وتلافيفه فيقضي ما يقضي من العمر وهو غريب عن عصره، حتى إذا ولى عن الحياة، وولى معه جيله وجاء بعده أناس قربتهم الحياة مما كان يراه ويتحدث عنه آمن هؤلاء به، واستعادوا فنه واسترجعوه، وأقاموه من أنفسهم في مقامه الحق. . . وجعلوه هو الزعيم، فهم أحياء وزعيمهم ميت. . . وفي هذا ما فيه من عدل الثأر الذي له عند آبائهم الذي أنكروه، فهم كلما ذكروا زعيمهم وطلبوا له الرحمة لعنوا آباءهم لأنهم كانوا كافرين.
ويقابل هؤلاء الزعماء السباقين زعماء آخرون زعامتهم معكوسة فهم لا يقودون الجماهير، وإنما يجرون وراء الجماهير، وقد يد هؤلاء من وفرة التابعين ما لا يجده الواثبون الصاعدون. وهؤلاء الزعماء الأذناب لونان، منهم من تسوقه نفسه إلى استرضاء الجماعات لأنه يحب رضا الجماعات ولأنه بطبعه فرد من أفراد الجماعات لا يزيد عنهم حساً، ولا يزيد عنهم قدرة على التعبير، وإنما كل ما يميزه هو الجرأة على التعبير والانطلاق به. ومنهم من يتسقط هذا الرضا عند الجماعات ليتسقط معه الربح المادي والجاه والشهرة، وهذا أدنأ من صاحبه وأقرب إلى التجارة منه إلى غيرها. فالفنان في غير التجارة لا يعبأ (بالزبائن) ولا يحسب حساباً لأذواقهم. أما التاجر وحده فهو الذي يستقصي طبائع الأسواق مستعرفاً أي البضائع يروج فيها وأيها يبور
وليس هذا من طبع الزعامة في شيء، وإنما هو من ملق العبيد الذي تضيق عنه أخلاق الفن. وإنما أمانة الزعامة تقتضي الإرشاد والإصلاح والتحسين. فإذا كان الجمهور متردياً في رذيلة من الرذائل فليس زعيماً ولا هادياً من لم ينقذه منه. وكما أن الجماهير تتردى في رذائل خلقية، وفي رذائل عقلية، وفي رذائل اجتماعية، فإنها تتردى كلك في رذائل حسية يجب على من يحمل لواء الزعامة الفنية فيها أن ينقذهم منها أو أن يحاول إنقاذهم على أقل تقدير مادامت هذه الزعامة سبقاً في الحس، وسبقاً في التعبير. . . وإلا فهي لا شيء. . . أو هي تلك الأنانية الفنية الضيقة التي ليس لها شأن إلا بصاحبها فقط
أما الرذائل الخلقية والاجتماعية والعقلية فهي الأغلاط الإنسانية التي يعالجها أصحاب الفضيلة الإصلاح الاجتماعي والناهضون بالعقل المؤدي إلى العلم النافع. . . وأما الرذائل الحسية فهي التي ينفضها الفنانون عن أنفسهم بالسليقة أو بالتدريب الحسي فيزيحونها كذلك عن نفوس الذين يتابعونهم في إحساسهم ويتتلمذون عليهم فيه، والذين يشابهونهم في طريق التعبير عنه. ومن أمثلة هذه الرذائل الحسية ما تعانيه البشرية اليوم من استعار التعصب للقومية المادية، فهو وإن كان مما تلزم إثارته عند الشعوب الضعيفة حفظاً لكيانها بين الشعوب القوية المتعصبة؛ فإنه مما يجب أن يكافح وأن يقاوم بكل وسائل الكفاح والمقاومة عند الشعوب القوية، لأنه لا معنى له إلا الانحطاط بالمثل البشرية العليا، إلى حيث تكون أدنأ المثل وأضيقها رحاباً وأقذرها أهدافاً.
والفنانون الذي ينتظرهم العالم اليوم لينقذوه من هذه الرذيلة هم الفنانون الذين يحسون القبح في هذا الإحساس ويشمئزون منه ويدعون إلى فض هذا النزاع المادي المتستر تحت قناع القومية ولابد أن تبدأ دعوتهم بأن يشعروا شعوراً صادقاً بأن الإنسانية حين تقدمت بعقلها وعلمها في طريق الحضارة الماثلة الآن تلكأت أو انتكست في سعيها الحسي، فلم توازن بين هذا التقدم في الحضارة وبين ما كان يجب أن يصاحبه من الإحساس الذي يشمل البشرية كلها كما استطاعت الحضارة أن تربط أطراف العالم بعضها ببعض وأن تخلط الشعوب بعضها ببعض، وأن تصل العقول بعضها ببعض، بحيث أصبح الياباني يعرف كل ما يعرفه الإنجليزي من المعلومات، وبحيث أصبح الأمريكي يقرأ ما يقرأه الأسترالي من الكتب وبحيث أصبح التركي يدرك ما يدركه النرويجي من الحقائق العلمية. . .
ولكن إحساس اليوناني لا يزال بعيداً كل البعد عن إحساس الإنجليزي، وشعور الأمريكي لا يزال بعيداً كل البعد عن شعور الأسترالي، والمثل العليا التي يجري التركي وراء تحقيقها لا تزال مختلفة كل الاختلاف عن تلك المثل العليا التي يسعى النرويجي اليها؛ وليس ذلك إلا لأن الفنون قصرت حيث نشطت العلوم، ولأن إحساس البشرية تبلد حيث التهب عقلها. وما كان عقل البشرية ليهديها إلى الخير وحده، فلابد له من إحساس وأخلاق يسير في مصاحبتها إلى هدف الهدى
على أن هذا لا يصح أن يدفع اليأس إلى نفوسنا من صلاح الناس، فإن بذرة النجاة موجودة، وطريق السعادة ممهد قد رسمه الإسلام. وليس ينقص الإنسانية اليوم إلا فنانون مسلمون يضربون بإلحاح على ذلك الوتر المشجي الذي عزف عليه القرآن أول مرة فرتل قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. فمتى شاع هذا الإحساس في الناس شاعت فيهم السعادة. وقد كاد هذا الإحساس يشيع لولا أن انقسم العرب على أنفسهم فأصبحوا مشارقة ومغاربة، ولولا أن استعصمت أوربا بتعصبها، فألحت في محاربة المسلمين الذي نزلوا الأندلس ومضت في الحرب إلى أوائل هذا القرن حتى احتل اللورد اللعين فلسطين فقال: اليوم فقط وضعت الحرب الصليبية أوزارها.
على أن الإنسانية قد بدأت تحس هذا الإحساس النبيل، وإن كان يداخل نفسها في هدوء وفي بطئ، وإن كان عقلها ولسانها لا يزالان ينكرانه. ولولا هذا الإحساس لاشتبكت الدول في الحرب منذ عام أو منذ عامين، ولكن هذا الإحساس هو الذي يكتف القادة من غير أهل الفن، ويمنعهم من توريط أنفسهم بإعلان الحرب لأنهم يكادون يكونون مؤمنين بأن الشعوب أصبحت لا تتغاضب ولا تتقاتل جرياً وراء فكرة القومية المكذوبة؛ ولأنهم أصبحوا يرون أن الأفراد اليوم يعتزون بحياتهم، وبمتعة الدعة أكثر مما يعتزون بالرغيف.
وليست الشهادة الحرفية بتوحيد الله، والاعتراف الحرفي برسالة محمد هي كل ما نطلبه، وإنما نطلب لسعادة البشرية الإيمان بوحدانية الله إيماناً يتطرق إلى كل عمل وكل قول مما يعمل المؤمنون ويقولون، والإيمان برسالة محمد إيماناً ينفي كل ما يراد به تفضيل طائفة من طوائف البشر ورفعها على الطوائف الأخرى؛ فإن محمداً لم يكن يرى فضلاً لعربي على عجمي إلا بالتقوى
هذا هو الفن الجديد الذي تريد الإنسانية اليوم. وقد يجود به عليها مسلم، وقد يجود به نصراني، وقد يجود به يهودي ممن تتسع أذهانهم وتصفو نفوسهم فتحب إلى جانب المادة ما هو خير من المادة، بل قد يجود به وثني مثل غاندي
وقد كان طبيعياً أن ينعقد اللواء للزعامات القومية فيما مضى وأن تصطبغ حتى الزعامات الفنية بألوانها في أقتم درجاتها لأن البشرية لم تكن قد التحمت هذا الالتحام الذي تشابكت به اليوم؛ فلم يكن عجباً أن يكون زعيم القبيلة هو فارسها وهو شاعرها كما كانت عنترة العبسي في قومه مفخرة لهم، له اليد الطولى في مجدهم الحربي ومجدهم الفني أيضاً. . . ولكن منذ بدأت الآفاق تتفتح أمام المجموعات البشرية حق عليها أن ينفتح إحساسها حتى يحيط بكل ما تضرب فيه الحياة وحتى يلم بكل ما يضطرب فيها
ولا ريب أن الإنسانية قد انتبهت إلى هذا الآن، فقد قضت وقتاً طويلاً وهي تجرب هذه الدعوات التي تهتف بالقوميات والعصبيات المادية فتبين لها أنها دعوات ضعيفة عاجزة منافقة
أما ضيقها فتابع لضيق البيئات التي تصلح لانتشار كل منها، وأما عجزها فتابع لما تستدعيه من التنفير الذي ينفث الكراهية في نفوس الناس فيرجم بعضهم بها بعضاً، وأما نفاقها فظاهر في أتباعها كما أنه ظاهر في ميوعتها وحيرتها وتناقضها مع نفسها، فقد كانت للإنجليز قومية يدعون إليها ويفخرون بها، وكان منهم من أسرع إلى أمريكا فاستوطنها ثم أبى أن يخضع لسلطان وطنه الأول فانقلب على قوميته وأنشأ مكانها قومية أخرى يحبها ويناضل في سبيلها لأنها تتصل بالأرض التي يعيش عليها ويأكل منها، ولا أكثر. وهذا ما حدث للأسبان الذين نزلوا أمريكا الجنوبية فقد انقلبوا على إسبانيا أمهم الأولى؛ ثم انقلبوا على أنفسهم واستأثر كل جماعة منهم بقطعة من الأرض. . . وهذا يثبت أن فكرة القومية والوطنية المادية ليست من الشرف في مكان يعلو على المادة ويتسامى عليها، وما من شك في أن (قومية الفكر) أو (قومية الفن) خير منها. ويتضح فضل الروحانية بمراقبة هذه القوميات المادية عندما يحتك بعضها ببعض فإننا نرى أن المادة والشغف بها يزيدان الصراع بين الناس استعاراً بينما المذاهب الروحية كلما توغلت في نفوس الناس على أساس من الصحة والسلامة ومجاراة الطبيعة والبعد عن التكلف كان ذلك أدعى إلى تقارب البشر، وزيادة تفاهمهم وتعاونهم فالفن إذن ليس زعامة فقط، وإنما هو أرقى الزعامات
ليت الداعين إليه يزيدون في الناس، وليت دعوتهم تذيع!
عزيز أحمد فهمي