مجلة الرسالة/العدد 322/أوراق مبعثرة. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 322/أوراق مبعثرة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 04 - 09 - 1939



للأستاذ صلاح الدين المنجد

هاهي ذي نسيمات الصيف تهوي إلى هذا الوادي الضاحك. . . قافزة كالفتاة اللعوب؛ تلهو بين العشب وترف فوق الزهر، وتتيه وراء النهر. . . ثم تعانقني، فتهمس في أذني بحياء، وتدغدغ وجهي بدلال. . . فأغمض عيني نشوان. . . فإذا بأوراقي تتبعثر. . . وبذكرياتي تهيج!. . .

يا عجباً لهذه الأوراق!! إن فيها قصة الشباب المستحير والحب الطروب. . . ولكن ما أجدر بعضها بالقراءة. فإن فيها كثيراً من تهاويل الفن، وفرائد الشعر، ونوادر الفكر، وأهازيج الشعب، وأضاحيك الناس. . . أيضاً. . . فلتجمعها (الرسالة) فهي روضة الأدب الزاهر. . . وقيثارة الناغم. . . ومجلته الشرود. . .

- 1 -

قرأت اليوم كتاب (طاغور) عن الشاعر ودينه. إنه يجنح إلى الدقة حتى ليصعب عليك فهمه، ويميل أحايين إلى السهولة حتى ما تجد أحلى ولا أملى منه. إن له آراء طريفة. . . هو يرى أن دين الشاعر ليس كدين الناس (لأن دين الناس عقيدة تهون بها المعضلات. . . فينقلب فيها الشك إلى يقين، والتمرد إلى إذعان). أما دين الشاعر فرقيق رجراج لا يخضع لشيء ولا يقيده شيء. هو كالقضاء الذي يحيط بالأرض تتلاعب في جنباته الظلال والأنوار، ويبدو الهواء فيه كالراعي الجميل ينفخ في مزماره ويغني بين قطائع الغيوم. إنه لا يقودنا إلى هدف ولا يجري بنا إلى غاية، لأنه مطلق لا تحيط به الجدران فتقيده؛ ولا الحدود الضيقة فتحدده؛ ولأنه واسع تتراءى لك فيه عوالم بعيدة وقريبة، تسمع منها زفرات اليائسين، وأنين البائسين، وأغاريد العصافير؛ وتحس بها لغب العاملين، وحمى الضعفاء، واضطراب الوالهين؛ وتستنشق عطر الورد وأريج الياسمين، وترنو إلى دموع العذارى، وعبرات الثكالى، وحزن البنفسج، ورفيف الندى، وضحك الربيع. استمع معي إلى هذا النشيد:

(أبريل يا أبريل. . .! اضحك كالفتاة الخلوب. . . ثم اذرف الدمع مثلها!)

(أبريل يا أبريل. . .! يا من له أذناي، غن كالحبيب عندما تسمع أنيني وترى نحيبي، ثم اضحك ضحكة فيها الذهب. . . وازرف الدمع المذوب في الذهب!. . .)

فماذا وجدت؟ أليس هذا نوعاً من (الترف في الشعور؟) واستمع أيضاً إلى شاعر بنغالي قديم:

(استيقظت عند الصباح على خفق شراع القارب يا عروسي الجميلة، فتركت الشاطئ لأتبع الموج الصارخ. . . ثم سألتك: هل آن يا فتاتي حصاد الأحلام في تلك الجزيرة النائمة وراء الأفق الأزرق الجميل. . .؟ فسقط صمت ابتسامتك على سؤالي كما يتساقط صمت الأشعة على الأمواج. . . وانقضى النهار مملوءاً بالأعاصير، وهبت ريح عاتية دفعت بالقارب السكران إلى بعيد، فسألتك: أفي هذه الربوع، تحت رماد هذا النهار الميت. . . الذي ينطفئ على رود. . . شيدت برج أحلامك؟! فلم أسمع جواباً؛ ولكن ومضت عيناك كما تمض حفافي الغمام تحت شمس الطفل. وأقبل الليل. . . فغمرك الظلام، وداعب الهواء شعرك، وداعب شعرك خدي ففاح منك العطر، وهاج مني الأسى، وتاهت يداي تفتشان عن رفارف ثوبك، وسألتك: أوراء النجوم جعلت يا عروس رحلتي قبرك الذي ستدفنين فيه بين الورد والزهر؟. . . هناك. . . حيث ينقلب صمتك إلى نغمات، وحزنك إلى ضحكات. . .؟! فرف ثغرك. . . في الظلام كما ترف نجمة الليل. . . وراء الضباب!) فما هذه إلا نغمات حلوة تذهلنا عن الناس كلما طربنا لها وملأنا نفوسنا بها وهذا هو الشعر الجميل. . .

(دمشق)

صلاح الدين المنجد