مجلة الرسالة/العدد 320/خليل مردم بك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 320/خليل مردم بك

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 08 - 1939



وكتابه في الشاعر الفرزدق

لأستاذ جليل

فخر الفرزدق

مدح الفرزدق (والفرزدق سمح بألقاب المدح وصفات التقريظ ولكنه حاذق يمدح الرجل بما يليق أن يمدح به، وينظر إلى خصائصه فيضفي عليها ثوباً من المبالغة)

(ومدح الفرزدق لخلفاء بني أمية فيه براعة ومقدرة يظهر عليها الطابع السياسي جلياً واضحاً أكثر من كل ما مدحهم به الشعراء حتى أخص أنصارهم كالأخطل وجرير وعديّ بن الرِّقاع فهو داعية لهم ولسياستهم، يجاهر بأنهم أجدر العرب بالملك، وأن الله اختارهم لخلافته)

وقد روى الأستاذ طائفة صالحة من أقواله المدحية منها قوله:

وجدنا بني مروان أوتاد ديننا ... كما الأرض أوتاد عليها جبالها

وقوله في يزيد بن عبد الملك:

وما وجد الإسلام بعد محمد ... وأصحابه للدين مثلك راعيا

ضربت بسيف كان لاقي محمد ... به أهل بدر عاقدين النواصيا

وقوله فيه، وقد عدا الفرزدق طوره في البيت الأول وكفر أو كاد:

لو لم يبشِّر به عيسى وبينَّه ... كنت النبي الذي يدعو إلى النور

فأنت إذ لم تكن إياه صاحب ... مع الشهيدين والصديق في السور

في غرف الجنة العليا التي جعلت ... لهم هناك بسعي كان مشكور

فلن تزال لكم والله أثبتها ... فيكم إلى نفخة الرحمن في الصور

أبا فراس! (لم يلبثوا إلا عشيَّةً أو ضحاها)

من يأمن الدهرَ مُمساه ومصبَحه ... في كل يوم له من معشر جزرُ

بعد ابن مروان أودي بعد مقدرة ... دانت لهيبتها الأمصار والكوَر

ثم الوليد فسل عنه منازله ... بالشام والشام معسول له خِض تجبى إليه بلاد الله قاطبة ... أخلافُها ثرَّة لأمره دِرَر

وفي سليمان آيات وموعظة ... وفي هشام لأهل العقل معتبر

واذكر أبا خالد ولى بمهجته ... ريب المنون وولى قبله عمر

وفي الوليد أبي العباس موعظة ... لكل من ينفع التجريب والفكر

دانت له الأرض طراً وهي داخرة ... لا يدفع الذل من أقطارها قطر

بينا له الملك ما في صفوة كدر ... إذ عاد رنقا وفيه الشوب والكدر

كانوا ملوكا يجرون الجيوش بما ... يقل في جانبيه الشوك والشجر

فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... قفراً سوى الذكر والآثار إن ذكروا

ويظن بعضهم أن لو استمر ملك القوم قرناً آخر لتعربت الدنيا، وأحال أهلها

يقول الأستاذ في باب البحث عن شعر الفرزدق: (وإذا أردت أن تقف على الأسلوب العربي الصريح بجزالته وفخامته فاسمع قوله:

أحلَّ هُزيم يوم بابل بالقنا ... نذور نساء من تميم فحلت

فأصبحن لا يشرين نفساً بنفسه ... من الناس إن عنه المنية زلت

يكون أمام الخيل أول طاعن ... ويضرب أخراها إذا هي ولت

عشية لا يدري يزيد أينتحي ... على السيف أم يعطي يداً حين شلَّت

وأصبح كالشقراء تنحر إن مضت ... وتضرب ساقاها إذا ما تولت

لعمري لقد جّلى هزيم بسيفه ... وجوها علتها غبرة فتجلت

وقائلة كيف القتال ولو رأت ... هزيماً لدارت عينها واسمدرت

وماكر إلا أول طاعن ... ولا عاينته الخيل إلا اشمأزت

ويزيد المذكور في هذا الشعر هو ابن المهلب، وكان خلع يزيد بن عبد الملك ورام الخلافة لنفسه، وقال له مشعبذون إنه سيلي الأمر ويهدم دمشق. . .

يخبرك الكهان أنك ناقض ... دمشق التي كانت إذا الحرب حرّت

ولما واقعه جيش مسلمة في العقر عقر بابل ضرب هريم ابن أبي طحمة المجاشعي يد يزيد فقطعها، وقتله القحل بن عياش وضرب يزيد القحل فماتا جميعاً. قال الطبري: (انفرج الفريقان عن يزيد قتيلاً، وعن القحل بآخر رمق، فأومأ إلى أصحابه يريهم مكان يزيد يقول لهم أنا قتلته ويومئ إلى نفسه أنه هو قتلني)

وفي هذه الوقعة يقول الفرزدق:

كيف ترى بطشة الله التي بطشت ... بابن المهلب إن الله ذو نقم

كم فرج الله عنا كرب مظلمة ... بسيف مسلمة الضراب للبُهَم

ولما ثار يزيد كان الحسن البصري يثبط الناس عنه، قال يوماً في مجلسه: يا عجبا لفاسق من الفاسقين، ومارق من المارقين غبر برهة من دهره ينتهك لله في هؤلاء القوم كل حرمة، ويركب لهم كل معصية، ويأكل ما أكلوا، ويقتل من قتلوا حتى إذا منعوه لماظة كان يتلمظها قال: أنا لله غضبان فاغضبوا، ونصب قصباً عليها خرق وتبعه رِجرجة رعاع هباء ما لهم أفئدة، وقال أدعوكم إلى سنة عمر بن عبد العزيز. فبلغ ذلك يزيد، فأتى الحسن هو وبعض بني عمه إلى حلقته في المسجد متنكرين فسلموا عليه ثم خلوا به، وصار الناس ينظرون إليهم فلاحاه يزيد، فدخل في ملاحاتهما ابن عم يزيد فقال له الحسن: فما أنت وذاك يا ابن اللخناء، فاخترط سيفه ليضربه به فقال يزيد: ما تصنع؟ قال: أقتله، فقال له يزيد: أغمد سيفك فوالله لو فعلت لانقلب من معنا علينا

يقول الأستاذ: (ومدح الفرزدق في جملته من أبواب شعره الجيدة، ومن أحسنه قوله:

إني أرى يزيد عند شبابه ... لبس التقى ومهابة الجبارِ

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم ... خضع الرقاب نواكس الأبصارِ

وروى له من هذا الجيد غير ذلك

رثي الفرزدق و (رثاء الفرزدق قليل، وهو إذا قيس ببقية أبواب شعره يقع مقصراً، وما قاله عن اضطرار أو عن خوف ينم على قوة ومقدرة كرثائه للحجاج وأخيه وابنه)

يقول في الحجاج:

ليبك على الحجاج من كان باكياً ... على الدين أو شارٍ على الثغر واقفِ

وأيتامُ سوداء الذراعين لم يدع ... له الدهر مالاً بالسنين الجوالف!

ومهمِلة لما أتاها نعيه ... أراحت عليها مهمَلات التنائف

فقالت لعبديها: أريحا فعقّلا ... فقد مات راعي ذودنا بالطرائف!

ومات الذي على الناس دينهم ... ويضرب بالهنديَّ رأس المخالف! يقولون لما أن أتاهم نعيه ... وهم من وراء النهر جيشُ الروادف

شقينا وماتت قوة الجيش والذي ... به تربط الأحشاء عند المخاوف!

له أشرقت أرض العراق لنوره ... وأومن إلا ذنبه كل خائف

ومقصدات الفرزدق ومقطعاته في هذا الباب تخبر بأنه يجيد حين يريد. ومن صالح رثائه أبياته في بشر بن مروان، وختامها:

وكنا ببشر قد أمنّا عدونا ... من الخوف واستغنى الفقير عن الفقرِ

وقد ذكر فيها أنه عقر فرسه على قبره، وقال غير أبي عبيدة: ادعى أنه عقر فرسه ولم يعقره. . .

يقول الأستاذ: (يدل على تخلفه في هذا الباب أنه لما ماتت النوار لم يفتح عليه بما يصح أن يناح به عليها. . .) وقال بشار: (كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق، ولقد ماتت النوار فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير)

وقول الأستاذ المردمي فيه شيء من الحق، وقول بشار معه البُطل. وإذا كان الفرزدق لم يمل عليه شيطانه شيئاً حين هلكت مطلقته النوار التي أشقى صلاحُها طلاحَه الدهر الأطول. . . فهل يدل ذلك على أن لجرير ضروبا من الشعر لا يحسنها الفرزدق؟ وهل الشعر رثاء وبكاء؟ على أنا إذا جمعنا مراثي الخبيثين - ولجرير اثنتان وعشرون قصيدة ومقطعة، وللفرزدق خمسة وعشرون قصيدة ومقطعة - ووازنا بينها موازنة المقسطين، لم نر جريراً شأى صاحبه إلا برقته في مراثيه لا ببراعة معانيه، والأمر يؤول إلى لين العريكة وقساوة الخليقة. ثم إنه من قلة الإنصاف ألا ترى الرثاء إلا في أن يذكر الشاعر وجوهاً خمشت، وخدوداً لطمت، وشعوراً نفشت، وجيوباً شقت، ودموعاً همرت، والتياعاً وارتماصّاً وأنيناً. . .

إن للشعراء في الرثاء والهجاء والثناء لمجالاً في المقال، وإن البارعين هم المجتهدون المتفننون لا المقلدون المبقبقون. . .

يقول الأستاذ: (على أن له في الرثاء بعض بنيه شعراً يدل على أن الشجي خالط نفسه، والآن عاطفته فنفث حرقة صادقة تشجي السامع كقوله:

بني أصابهم قدر المنايا ... فهل منهن من أحد مجيري! ولو كانوا بني جبل فماتوا ... لأصبح وهو مختشع الصخورِ!

إذا حنت نوار تهيج مني ... حرارة مثل ملتهْب السعيرِ!

حنين الوالهين إذا ذكرنا ... فؤادينا اللذين مع القبورِ!

وروى الأستاذ للفرزدق في وكيع بن أبي سود العداني:

فلو أن ميتاً لا يموت لعزه ... على قومه ما مات صاحب ذا القبرِ

ودفن ابناً له فالتفت إلى الناس فقال:

ما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا

(يتبع - الإسكندرية)

  • * *