مجلة الرسالة/العدد 318/كتاب مستقبل الثقافة في مصر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 318/كتاب مستقبل الثقافة في مصر

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 08 - 1939



الثقافة العامة

وتعليم اللاتينية واليونانية

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

يثير الدكتور طه حسين (في كتابه مستقبل الثقافة في مصر) مسألة (اللاتينية واليونانية) بشكل يستلفت الأنظار ويستدعي الاهتمام:

يستهل كلامه الطويل عن هذه المسألة (ص285 - 302) بقوله: (إن وزارة المعارف لا تريد أن تقف عندها ولا أن تفكر فيها، لأنها غريبة بالقياس إليها، بل هي غريبة شاذة بالقياس إلى الكثرة العظمى من المثقفين المصريين، مع أنها في نفسها، من أوضح المسائل وأجلاها. . .).

ثم يستعرض الأدوار التي مرت على هذه المسألة في مصر، ويشرح بإيجاز كيف (أن صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا كان قد شعر بخطر هذه المسألة وهم بحلها) عندما كان وزيراً للمعارف. فقد بدأ بإدخال اللاتينية واليونانية في بعض المدارس الثانوية، وأقر تعليم هاتين اللغتين في الجامعة - بالقياس إلى كليتي الآداب والحقوق - غير أنه لم يمض زمن طويل على ذلك، حتى ألغيت اللاتينية واليونانية من المدارس الثانوية، وقام (صراع عنيف حول إقرار اللاتينية بالقياس إلى كلية الحقوق، وانتهى هذا الصراع بانتصار خصوم اللاتينية. . .).

يصف الدكتور طه حسين (الحالة الحاضرة) التي نجمت عن ذلك بأشد أوصاف اللوم وأعنفها، فيبذل في حديثه كلمات (المضحك، المخجل، المخزي. . .) ويوصل الأمر إلى درجة استعمال ألذع التعبيرات وأقرصها، من (الرضاء بالهوان) إلى (الاستخدام أمام الأوربيين) و (الاطمئنان إلى الخزي المبين). . .

وذلك لأنه يعتقد بضرورة اللاتينية واليونانية للثقافة العالمية، ويعبر عن اعتقاده هذا بكلمات باتة:

(أنا مؤمن اشد الإيمان وأعمقه وأقواه، بأن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن تفلح في تدبير مرافقها الثقافية الهامة، إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين، لا في الجامعة وحدها، بل في التعليم العام قبل كل شئ (ص 281).

لأن (اللاتينية واليونانية أساس من أسس العلم والتخصص) (ص 285) فيجب أن تفرضا على (كل من يريد العلم الخالص والتخصص فيه) (ص 276) و (لأن التعليم العالي الصحيح لا يستقيم في بلد من البلاد الراقية إلا إذا اعتمد على اللاتينية واليونانية على أنهما من الوسائل التي لا يمكن إهمالها والاستغناء عنها. . .) (ص 292).

ولهذا السبب، يوجه الدكتور إلى معارضيه السؤال التالي، ويجيب عليه بالملاحظات التي تليه:

(والسؤال الذي يجب أن نلقيه وان نجيب عنه في صراحة وإخلاص وفي وضوح وجلاء هو هذا السؤال: أنريد أن ننشئ في مصر بيئة للعلم الخالص تشبه أمثالها في البيئات العلمية في أي بلد من البلاد الأوربية الراقية أو المتوسطة أم لا نريد؟ فإن كانت الثانية فقد خسرت القضية، وليست مصر في حاجة إلى يونانية ولا إلى لاتينية، وليست مصر في حاجة إلى الجامعة وإلى كلياتها بل حسها أن تعود إلى عهدها أيام الاحتلال، وان تسير سيرة المستعمرات وتكتفي ببعض المدارس العالية لتخريج من تحتاج إليهم من الموظفين. وإن كانت الأولى فقد ربحت القضية، ولا بد من العناية بهاتين اللغتين لا في الجامعة وحدها، بل في المدارس العامة أيضا (288).

يظهر من هذه العبارات أن الدكتور يعتبر هاتين اللغتين من لوازم الجامعة الأساسية، ويدعي أن عدم العناية بهما لا يختلف كثيراً عن طلب إلغاء الجامعة نفسها، ويرى بأن ذلك لا يجوز إلا إذا طُلب من مصر أن تعود إلى عهدها أيام الاحتلال وأن تسير سيرة المستعمرات. . .

وقد يخطر على بال القارئ أن يسأل مستغرباً: إذا كانت المسألة بهذه الدرجة من الوضوح والجلاء فكيف وجدت هذه المقاومة وهذا الازورار في دوائر المعارف ومحافل المثقفين؟ إن الدكتور يبدي هذا الاستغراب فيقول: (ومن اغرب الأشياء في نفسي وأبعدها عن فهمي ألا يفطن لها ولا يهتدي إليها الذين ينهضون بشئون مصر ويقومون على تدبير الأمور فيها، والذين يشرفون على التعليم فيها بنوع خاص. . .) (ص 281).

يبحث الدكتور - مع هذا - عن أسباب هذه المقاومة عدة مرات، فيعزوها مرة إلى عوامل عرضية مثل استياء الإنكليز من انتخاب معلمي هاتين اللغتين من الفرنسيين والبلجيكيين (ص 275)، أو كيد أستاذ من أساتذة كلية الحقوق للعميد الأول لكلية الآداب الحكومية (ص279)، غير انه يعزوها في المرة الثانية إلى عوامل أساسية تتلخص - من حيث الأساس - في نقص (ثقافة القائمين بشئون التعليم في مصر) (ص281).

يقول المؤلف في هذا الصدد: (وأكبر الظن أن مصدر هذا إنما هو أن الجيل الحاكم والمرتقي إلى الحكم لا يتقن العلم بالشئون الثقافية في أوربا ولا يكاد يعرف منها إلا ظواهرها، وظواهرها الغريبة اليسيرة التي لا يحتاج فهمها ولا العلم بها إلى جهد ولا عناء) (ص 281).

إذ أن (منهم من تعلم في المدارس المصرية وانتهى إلى غاية التعليم العالي المصري أيام الاحتلال، ثم وقف عند ذلك ولم يتجاوزه فلم يعرف من حقيقة التعليم شيئاً أو لم يكد يعرف منه شيئاً. .) (ص 281) ومنهم (من اتصل بالجامعات الأوربية قبل أن يتم التعليم العالي في مصر أو بعد أن أتمه فدرس فيها وظفر ببعض إجازاتها، ولكنه درس فيها عجلاً وظفر بأيسر إجازاتها وأهونها وانتفع في هذا كله بنظام المبادلات التي تقره الجامعات الأوربية لتيسر على الأجانب الاختلاف إليها وترغبهم في الاتصال بها. . .) (ص 282)، ولذلك عاد من أوربا دون أن يعرف (من الحياة العقلية الأوربية إلا ظواهرها وأشكالها. . .) (ص283).

وإن (بين الذين ذهبوا إلى أوربا وعادوا منها وبين الذين أقاموا في مصر واتصلوا بأوربا بعض الاتصال، من ألمّ إلماماً يسيرا بل إلماماً ناقصا مشوها بهذه الخصومة التي قامت في أوربا منذ أواخر القرن الماضي بين الديمقراطيين والمتطرفين من جهة، وبين المعتدلين والمحافظين من جهة أخرى حول تعليم اللاتينية واليونانية. . .) (284) (إنهم فهموا هذه الخصومة على غير وجهها الصحيح، وظنوا أن التجديد يقتضي بغض هذه الأشياء القديمة). . . (ولم يخطر لهم أن يتعمقوا هذه الخصومة ولا أن يتبينوا موضوعها وغاياتها. . .) (ص 285).

إن المقاومة التي تلقاها اللاتينية واليونانية في مصر نشأت من هذا النقص الأساسي. فلو خطر لهؤلاء أن يتعمقوا هذه الخصومة لعرفوا أن موضوعها (لم يكن ضرورة هاتين اللغتين للثقافة والحضارة، وإنما كان ضرورة فرضهما على جميع التلاميذ الذين يختلفون إلى المدارس الثانوية ويتصلون بالتعليم العالي على اختلاف فروعه وألوانه لا سيما بعد أن انتشر التعليم وطمعت فيه الطبقات كلها طبقات الأغنياء والفقراء وأوساط الناس. .) (ص 285).

يحاول الدكتور أن يصحح مزاعم هؤلاء فيؤكد أن (موضوع الخصومة كان في حقيقة الأمر هذه المسألة: أيجب أن يتهيأ الناس جميعا للعلم والتخصص ليصبحوا جميعاً قادة للرأي ومديرين للأمور العامة، أم يجب أن يتهيأ بعضهم لحياة العلم والتخصص، وأن يتهيأ أكثرهم للحياة العاملة التي تيسر لهم الاضطراب في طلب الرزق وكسب القوت؟ فإن تكن الأولى فلا بد من اللاتينية واليونانية لأنهما أساس من أسس العلم والتخصص؛ وإن تكن الثانية فكثرة الناس محتاجة إلى التعليم الفني من جهة، وإلى التعليم العام الحديث الذي يعرض عن اللاتينية واليونانية إلى اللغات الحية والعلوم التجريبية، بشرط أن تظل اللاتينية واليونانية مفروضتين على كل من يريد العلم الخالص والتخصص فيه. . .) (ص285 - 286).

مع هذا، يلاحظ الدكتور طه حسين - في محل آخر من كلامه - أن المقاومة التي تلقاها اللاتينية واليونانية في مصر، لا تنحصر في دوائر المعارف، بل تشمل معاشر المثقفين بأجمعها. . إنه يلاحظ ذلك أيضا، ويعلله (بالعادة لا أكثر ولا أقل) إذ يقول: (انهم لم يتعلموا اللاتينية واليونانية، ولم يسمعوا بهما أثناء اختلافهم إلى المدارس العامة؛ وقد رأوا مصر تعيش عيشتها الحديثة من غير هاتين اللغتين، فلم يترددوا فيما انتهوا إليه من الاقتناع بأن تعليم هاتين اللغتين تزيُّد لا حاجة إليه ولغو لا خير فيه. . .) (ص291).

وبعد ذلك، يكرر المؤلف دعوته إلى العناية بهاتين اللغتين اعتبارا من الدراسة الثانوية؛ فيقترح تنويع التعليم الثانوي إلى ثلاثة أنواع، على أن يستند النوع الواحد منها إلى تعليم اللغات القديمة. يفرض فيه (على الطالب درس اللاتينية ولغة أجنبية حية، ويترك له الخيار بين اللغة اليونانية ولغة أوربية أخرى) ويحتم الانتساب إلى هذا الفرع على (كل من أراد أن يهيئ نفسه بعد الثقافة العامة للدراسات الأدبية المختلفة) بما فيها الفلسفة والتاريخ والجغرافيا. . . (ص301).

لا يجهل المؤلف المقاومة التي ستلقاها فكرته هذه من مختلف المحافل والبيئات فيقول: (أنا أسمع في أثناء إملائي هذه الكلمات صياح الصائحين وأحس هياج الهائجين، وأشعر بما سيثور من سخط، ولكني مع ذلك مقتنع بما أقول، مذعن بصواب ما أدعو إليه، ملح في هذه الدعوة، غير حافل بالرضا ولا بالسخط، ولا مُعنى إلا بما أعتقد أنه يحقق المنفعة الثقافية للمصريين. . .) (ص300).

إن هذه الاقتباسات التفصيلية، التي لخصت فيها آراء الدكتور طه حسين - دون أن أبدي شيئا من موافقتي لها أو اعتراضي عليها - تبين بكل وضوح وجلاء أن مسألة (اللاتينية واليونانية في مصر) تطورات تطورا غريبا ووصلت إلى طور حاد يحتاج إلى قرار حاسم.

هذه المسألة لم توضع على بساط البحث في محافل المعارف والتربية في سائر الأقطار العربية؛ غير أن إثارتها ومناقشتها في مصر بهذه الصورة مما يجب أن يحمل المحافل المذكورة أيضا على التفكير في أمرها، لتكوين رأي صريح فيها، واتخاذ قرار معقول في شأنها. . .

ولهذا السبب، رأيت من واجبي أن أتدخل في هذا البحث الذي يثيره الدكتور في كتابه، وأبدى ما لديّ من الملاحظات حول هذه المسألة. . .

إنني أعتقد أن الطريقة المثلى لحل أمثال هذه المسائل هي:

أولا: درسها من وجوهها الأوربية البحتة درسا صحيحا مجردا عن كل فكرة قبلية مع ملاحظة العوامل التاريخية التي أثرت عليها في الماضي والمذاهب الفكرية التي تحوم حولها في الحاضر. . وبعد ذلك الإقدام على التفكير في المسألة من وجهة أحوال بلادنا وحاجات أمتنا، مع الاستنارة بالاختبارات التي تكونت والآراء التي تبلورت حولها في أوربا.

وإني عملاً بما تقتضيه هذه الطريقة أبدأ بحثي بإلقاء نظرة إجمالية على تاريخ مسألة تعليم اللاتينية واليونانية في البلاد الغربية فأقول:

من المعلوم أن اللغة اللاتينية كانت لغة روما في القرون الأولى غير أنها صارت بعد ذلك لغة الطبقة المديرة والمستنيرة في جميع أنحاء أوربا الغربية عند ما دخلت تحت حكم روما، كما أصبحت لغة الدين والصلاة في تلك البلاد عندما اعتنقت الديانة المسيحية؛ وأخيرا صارت من دعائم الكنيسة الكاثوليكية عندما تكونت الكنيسة المذكورة وأخذت تبسط سلطتها على جميع الدول والدويلات التي تدين بها. فقد تبنَّت الكنيسة اللغة اللاتينية واتخذتها واسطة لضمان وحدتها، ولذلك عملت على نشرها في جميع البلاد التي دخلت تحت حوزتها، حتى بعد تضاؤل سلطة الإمبراطورية الرومانية وزوالها بصورة نهائية. . .

وأما اليونانية فقد حافظت على كيانها في معظم البلاد التي انتشرت فيها بالرغم من استيلاء الرومان عليها، كما أنها أصبحت لغة الدولة بعد انفصال الشرق عن الغرب، وتكوّن الإمبراطورية الشرقية مستقلة عن إمبراطورية روما الغربية، كما أصبحت لغة الدين والصلاة في العالم الأرثوذكسي عندما اعتنقت الإمبراطورية المذكورة الديانة المسيحية. . .

بهذه الصورة تقاسمت اللغتان اللاتينية واليونانية السيطرة على الحياة الدينية في أوربا المسيحية، فأصبحت الطقوس والصلوات المسيحية تحت احتكار اللاتينية في أوربا الغربية في جميع البلاد التي اعتنقت المذهب الكاثوليكي، وتحت احتكار اليونانية في أوربا الشرقية - في جميع البلاد التي اعتنقت المذهب الأرثوذكسي - واستمر الحال على هذا المنوال طوال القرون الوسطى حتى حلول عصر النهضة وظهور البروتستانتية. . .

وأما الحياة الأدبية العلمية، في القرون الوسطى، فمن المعلوم أنها لم تجد من يزاولها ويهتم بها إلا من بين رجال الدين؛ فعاشت وترعرعت تحت ظلال الكنائس وفي أروقة الأديرة وارتبطت لذلك - هي أيضا - باللغة اللاتينية. فأصبحت هذه اللغة لغة العلم والأدب في جميع بلاد الغرب علاوة على كونها لغة الدين والصلاة. . .

من المعلوم أن اللاتينية تغلغلت في بعض البلاد الغربية بين جميع طبقات الناس، فأصبحت لغة العوام، وأخذت تتطور من جراء ذلك بصورة تدريجية إلى أن ولدت اللغات التي عرفت فيما بعد بالإيطالية، والفرنسية، والإسبانية، والرومانية. مع هذا ظلت اللاتينية الأصلية لغة الدين والصلاة، ولغة العلم والأدب، حتى في تلك البلاد، وحتى بعد تكون اللغات المذكورة واستقلالها عن دوحتها الأصلية.

إن الجامعات الأوربية والمعاهد التعليمية التابعة لها، أخذت تتأسس - في القرون الوسطى - في دور سيطرة اللاتينية على الحياة الفكرية والدينية سيطرة تامة، ولذلك اعتمدت على اللاتينية كلغة تعليم في جميع فروعها.

في الواقع كانت الجامعات المذكورة أدخلت في مناهجها مدة من الزمن تعليم اللغات العربية والعبرية واليونانية أيضاً. . . العربية لكونها مصدر العلوم في تلك القرون، والعبرية لكونها لغة الكتاب المقدس القديم، واليونانية لكونها لغة الأناجيل الأصلية. . . غير أن العربية والعبرية خرجتا بعد مدة من ميدان مشاركة اللاتينية في التعليم؛ وظلت اليونانية اللغة الوحيدة التي تساعد اللاتينية في مهمتها العلمية والتعليمية؛ وقد رسخت قدماها في هذا الميدان - بمرور الزمن، ولا سيما بعد أن بدأ الاهتمام بخزائنها العلمية والأدبية.

إن معاهد التعليم الثانوي التي تأسست لتهيئة الطلاب للجامعات تأثرت بهذه الحالة العامة، فاعتبرت اللاتينية أساس كل شئ، ولم تشرك بها لغة غير اليونانية في بادئ الأمر.

إن تاريخ التعليم في فرنسا يقدم تفاصيل وافية عن أحوال تلك المدارس ومناهجها الدراسية وتعليماتها الإدارية. ونفهم من تلك التفاصيل أن المدارس الثانوية في القرن السادس عشر كانت بمثابة مدارس لاتينية بكل معنى الكلمة: لا يدرس في سنتيها الأوليين شئ غير اللاتينية؛ ثم يضاف إليها في السنة الثالثة مبادئ اللغة اليونانية، وفي السنة الأخيرة بعض المسائل الرياضية. وأما اللغة الفرنسية أو العلوم الأخرى، فلم تشغل أي حيز كان في مناهج الدراسة، حتى إن التكلم باللغة المذكورة كان يعتبر من الأمور الممنوعة على المعلمين والطلاب في خلال الدرس أو بعد الدرس، في داخل الصف أو في خارج الصف. . . وهذا المنع كان مؤيداً بعقوبات عديدة وشديدة. . .

(يتبع)

أبو خلدون