مجلة الرسالة/العدد 318/رسالة الفن
مجلة الرسالة/العدد 318/رسالة الفن
دراسات في الفن
الحب والفن والله
معراج غاندي الفنان
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
يصف القرآن أهل الجنة فيقول: (دعواهم فيها سبحانك الهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين).
ويعرف الإنجيل الله فيقول: (الله محبة).
ويروي الأستاذ فتحي رضوان في كتابة عن غاندي أنه لما كان في جنوب أفريقيا يجاهد الإنجليز في سبيل الهنود وكرامة إنسانيتهم كان في اجتماع، وفيما هو يغادره مصطحبا سيدة إنجليزية ألفته السيدة يتسلل من جانبيها إلى ركن مضلم، ورأته في الركن يواجه شبحا ورأته يمد يده إلى يد الشبح يأخذ منها شيئا ذا نصل براق، ورأته يخفي ذا النصل، ثم يتأبط الشبح فيخرج به من الظلمة إلى النور يسايره ويحادثه ويبساطه ويوداعه، ثم يعاهده ويستوثقه أمراً جللاً ثم يحييه ويفارقه فينصرف الشاب الهندي مطمنا مؤمنا معتزاً بما فيه من كبرياء المستشهد بعد أن كان الشبح المتخفي المتلصص النازع إلى الجريمة. فراع السيدة هذا الذي رأته وسألت غاندي فقال لها: أحسست أن هنديا كامناً لي يريد القضاء عليّ لأنه حسب فيّ السوء والغدر وخيانة الهنود، فسعيت إليه، وأنا مملوء بحبه كما أحب كل الهنود. . . اتجهت إليه وأنا في هذا الحب، فما مس حبي الغل في نفسه حتى نوره فتألق حبا، فتعارفنا وتفاهمنا فتآلفنا، وتفارقنا ونحن أخوان في حب الهند والذود عن الهند.
معجزة من معجزات الحب أيد الله بها غاندي ونجاه بها من كيد كان فيه الردى والهلاك، ولم تكن معجزة كهذه لتقع بين سمع إنسان وبصره من غير أن تفعم نفسه وتشغلها باستدراكها متحسسة متفهمة تواقة إلى تحصيلها بعد ما أعلن صاحبها أنها تيسرت له بتدريب روض عليه نفسه فكان هذا الإعلان إغراء بالمعجزات تباح لمن يريده، فدار بين السيدة وغاندي حديث تقصت فيه السيدة الحب وتعلمته من أستاذه الجديد، فكان مما علمه إياها أنه قضى زمناً ينام في مسارح العقارب والثعابين، وإنه كان يأمن عدواتها، يؤمنه حب لها كان يطوي نفسه عليه، وكانت تحسه نفاثات السم فتسالمه وتتجاوزه.
معجزات أخر تناسب من روح غاندي في نومه. فأي رجل هو؟
إنه من أولئك الذين تحيتهم سلام. . . وإنه من أولئك الذين يحققون في الأرض وصية الإنجيل ودعوته إلى الحب الذي يقول إنه هو الله. فأي رجل هو؟
ليس في تاريخه ما يدل على أنه عبقري العقل كما يعرف الناس العباقرة. كان في صباه تلميذاً متأخراً متهيباً منقبضاً عن الدرس واللعب. وكان في شبابه طالباً مجداً مثابراً شغالاً يعوض بالدأب والجهد ما تفوته عليه قلة الذكاء، وكان بعد ذلك في بدء اصطناعه المحاماة حيران متواضع الأمل، راضياً كل الرضا بأيسر النجاح لو يؤاتيه من أشق العمل، فهو يستفتي المجربين عن طرق النجاح كاليائس منه، ثم يطرب ويسعد عندما يبشره أحدهم بأن له التوفيق ما كد وانكب على عمله بالعناية والإخلاص.
فهل كان غاندي على هذا غبياً متراجع العقل حين كان في صباه التلميذ المتأخر المتهيب المنقبض عن الدرس واللعب، وهل كان في الحق قليل الذكاء حين كان في شبابه طالباً شغالاً لا يعرف فيه أساتذته ولا زملاؤه العقل المتألق الخطاف ويعرفون عنه الدأب والجد، وهل كان بعد ذلك المحامي الخائر الضعيف الجبان حين كان يسائل المجربين عن طريق النجاح في المحاماة وحين رضيت آماله أن تتواضع فتقعد عند تحصيل الرزق الهين والعيش التافه؟ هل كان غاندي هذا الإنسان الرخيص؟
الأدلة والدلائل من حياته تنفى عنه هذا. بل إنها تثبت له عكسه ونقيضه، فغاندي اليوم هو الرجل الأول بين رجال الإنسانية الروحية، وليس هو الرجل الخير بين رجال الإنسانية المادية. فلو كأنه ما حسبت له إنجلترا حساباً وما رهبت جانبه، فهي لا تخشى القسيسين ولا الرهبان بل إنها لو أمكنها أن تصرف الناس اللذين تنزل بلادهم عن الاشتغال بأمور دنياهم ما ترددت في ذلك وما تأخرت عنه، وما امتنعت عن الإنفاق على الأديرة والمعابد تحشر فيها الناس زاهدين حالمين، لتفرغ لها الأرض ترتع فيها تأكل وتشرب وتلعب وتعيث فيها تحضيراً وتمديناً. . . أما وهي تخشاه، وتتقيه، وتتملقه حيناً وتقسو عليه حيناً، فلا بد أنها تعرف فيه خطراً خطيراً تخاف أن يكتفها وأن يخنقها بهذه الخيوط الدقيقة التي يغزلها من القطن والصوف بمغزله الصغير الذي لا يزيد ثقلاً ولا حجماً على لعب الأطفال. . .
لا يمكن أن يكون غاندي هذا قريباً من الغباء ولا الغفلة؛ وإنما هو ذكي يتسامى ذكاؤه على ذكاء الناس، وعاقل يتعالى عقله على عقولهم. وليس في هذا عجب ولا فيه خرق لنظم الطبيعة. فنحن إذا تأملنا نفس غاندي، رأينا الرفعة والسمو متحققين فيها مؤكدين في الناحيتين اللتين تكملان النفس الإنسانية إذا أضيفتا إلى العقل، وهاتان الناحيتان هما الخلق والحس. فسيرة غاندي تثبت أنه من أرفع الناس خلقاً، ومن أشدهم استساغة لمعاني الشرف والنبل والوفاء والبر والصدق والعطف والتضحية، وغير هذه من الفضائل. . . فقد كان في الهند وفي إنجلترا وفي إفريقيا الجنوبية، مثلاً سامياً للإنسان الفضيل الذي يأسر بالفضل أهله وذويه، والذي يعجز خصومه عن أن يتهموه بنقيصة خلقية، وعن أن يصفوه برذيلة. هذا على الرغم مما يرويه هو من عيوب نفسه وزلاتها. فقد اعترف على نفسه بأنه كان يسرق من أبيه ما يشتري به الدخان، كما سجل على نفسه أنه اقترف الزنا بإيحاء من صديق شقي كان يغريه بالفساد في أوائل أيام الشباب. . . فهذه الخطيئات العابرة لم تكن في الحق أكثر من محاولات صبيانية أراد غاندي أن يتذوق بعض الطعوم من لذائذ البدن عن طريقها فما تذوقها حتى عافها سريعاً، لأنه رأى فيها تعبداً لغير الطلاقة والانطلاق. فعاد وصلح؛ ومنذ أن صلح وهو - فيما يعلم الله وفيما تقول حياته المكشوفة الصريحة - لا يقترف من الذنوب إلا هفوات الأولياء الصالحين.
هذه هي أخلاق غاندي! فهو بها أقرب من نعرف من الأحياء إلى الكمال، وهو إلى ذلك بإحساسه أقرب من نعرف من الأحياء إلى الكمال أيضاً. فقد مكنه الله من أن يصفي نفسه، وأن ينقيها حتى ليبلغ من صفائها ونقائها أن تعكس على النفوس أنوار إحساسها فتغيرها وتملأها بأمان النور وبهجته. وهذه مرحلة من الإضاءة الروحية يبلغها الإنسان بعد أن تتم له استضاءة نفسه هو بالإحساس الصادق والاستجابة لصدق الإحساس، وليس أدل على ما نقوله من هذا الحادث الذي طعن فيه غاندي بالحب ذلك الذي أراد أن يطعنه بذي النصل، فقتل فيه النزوع إلى الشر واعزم على الجريمة بعد أن جمع لها إحساسه وإرادته وإيمانه، وبعد أن دبر لها وقفته وخفيته وأعد لها سلاحه، وبعد أن هانت عليه فيها حياته وفرط لها في شبابه!
غاندي إذن هو اكمل من نعرف من الأحياء خلقاً وأنضجهم حساً. فإذا صدق أنه قليل الذكاء ضعيف العقل لأنه احتسبه في التلاميذ من المتأخرين، ولأنه كان من الشبان الشغالين، ولأنه كان من المحامين الحيارى التائهين، فإن أكبر ما كان يمكن أن نتصوره يصل إليه من مراتب الرقي البشري هو أن يكون شيخاً لطريقة من طرق التعبد والتدين اللذين يتطلبان في الصالح من أشكالهما هذا الصفاء في الحس، وهذا الكمال في الأخلاق، وقد مهدت الحياة لغاندي أن يكون هذا الشيخ، ولكنه أباه، وإن أنكر عليه شعبه هذا الإباء، وإن قدسه أهل ملته ورفعوه إلى ما يطاول مرتبة الأنبياء. ذلك بأن شعبه إذا لم يكن مفطوراً على تقديس المصلحين الأتقياء، فهو على الأقل مأخوذ بهذا التقديس متدرب عليه، فلو أن غاندي شاء أن يكون زعيماً من زعماء الدين لكان هذا الزعيم، ولما أنكر عليه الزعامة أحد، ولكنه عدل عن هذا إلى ناحية أخرى من نواحي الحياة تستلزم الكفاح العقلي والانتصار فيه، كما يسعدها التفوق الحسي والسلطان الخلقي. ولقد تم لغاندي النصر في هذه الناحية بشهادة بعض الكبار من رجال الإنجليز الذين قارعوه في الهند والذين وصفوه فقالوا: إنه رجل يمتاز في تكوينه على غيره من الرجال. . . وليست مغالبة الإنجليز الكبار بالأمر الهين، ولا الانتصار عليهم بالأمر المتاح لكل إنسان، والإنجليز حين يغالبهم الناس وحين يكافحون هم هؤلاء الغالبون لا يكافحونهم بالإحساس ولا بالأخلاق وإنما لهم في المكافحة سلاح آخر هو العقل، ويكاد العقل الإنجليزي يكون في أرقى مراتب العقل البشري، فإذا غلبهم غالب بسلاح العقل فلا يمكن أن يقال إنه قليل الذكاء أو إنه متقهقر العقل، ولقد غلبهم غاندي في مواقع كثيرة فلا بد من أن يكون أقوى منهم عقلاً وأشد ذكاء.
وإنه كذلك! وعلى هذا يتم له الانسجام النفسي القائم على أساس من النسب النفسية الرفيعة المتألفة من الحس الأنضج، والخلق الأكمل، والعقل الأوفر.
وهذا النوع من العقل هو الذي أردت أن ألفت إليه نظر القارئ في حديث اليوم. فقد رآني القارئ في أحاديث سابقة نافراً من الزي الأوربي الذي يتزيى به العقل الحديث، والذي ينزع إلى العلم المادي والحضارة المادية نزوعاً يكبت في الإنسان إحساسه ويخمد أخلاقه. وقد رآني القارئ في حديث الأسبوع الماضي أرجو للإنسانية أن ترقى فيتحقق لها العقل الذي يطالبنا به الله فتحله محل هذا العقل الأوربي الذي لا يصدق فيه أسمه إلا من حيث إنه غلل الحس البشري وكتف الأخلاق كتفاً لا يسمح لها بالسمو إن لم يهبط بها إلى الحضيض.
عقل غاندي هو بشارة من بشائر الرقي الإنساني التي تسارع إلى الظهور في بعض مراحل التطور البشري، ولو لم تتأهب الإنسانية لإحسان استقبالها وإحسان استنباتها.
فما هي ميزة هذا العقل وما هو طابعه؟
إنه العقل النافذ الهادئ المنطلق إلى هدف يناديه من السماء والذي يدرك حقائق الأشياء وما بين الأشياء من علاقات منذ أن تعرض له هذه الأشياء، والذي يلهمه الإحساس الصادق فلا يخطئ في تقديره ولا تكييفه إياها، والذي تقوده الفضيلة إلى إحسان الموزانة بين الحقائق وبين الأشياء فيعرف أيها يأخذ لنفسه وأيها يدع، وأيها جدير بالاهتمام وأيها حقيق بالإهمال، وأيها لازم لتقويم كيان الفرد، وأيها لازم لصلاح المجتمع، وأيها بعد ذلك حشو للعقل يتخمه ولا يغذيه.
هذا هو العقل الذي زان الله به غاندي، وهو عقل ممتاز سام يدل على غاندي كما يدل عليه إحساسه وكما تدل عليه أخلاقه فهو عقل خاص نادر لأن غاندي رجل نادر، وهو بطبعه غريب على هذه الحياة وهذه الحضارة، غريب على علومها وعلى الأجواء التي يجول فيها عقلها، ولذلك فإنه يكاد يصعب عليه أن يصاحب العقل العادي وأن يماشيه، وإنما هو ينفر من ذلك العقل العادي بطبيعة تكوينه، والناس الذين يعتبرون الحساب، وعلوم الرياضة (المتسحلفة) مقياساً للذكاء يرون هذا الاختلاف بين عقل غاندي وبين عقلهم ويأبون أن يتلمسوا الضعف في أنفسهم، وينسبون الضعف والتأخر للعقل الخارق العجيب الذي يحيرهم والذي يرونه كالعاجز عن مجاراتهم، وهو في الحق مستقيم يتجه إلى هدف خاص ينزع إليه صاحبه بإحساسه وأخلاقه، فلا يلتوي على نفسه ولا يتعقد ولا يتعثر مثلما تتعثر العقول المتحضرة حينما تجمع علمها من المتناثرات من الحقائق لا يحدوها في هذا الجمع غرض ولا تريد من سبيله أن تصل إلى هدف ولا أن تؤدي به رسالة، ولا يهمها إذا كان هذا الذي تعلمه شيء يستحق أن يعلم أو أنه لا يستحق ذلك.
وهذا هو أشرف ما يدعيه العلماء لأنفسهم فهم يقولون إنهم يطلبون العلم للعلم، وهم حين يدعون هذا يحسبون أنهم يردون به على أولئك الذين ينتقصون قيمة علمهم ويتهمونه بأنه سعى إلى خدمة المادة في الحياة، أو أنه سعى إلى خدمة الشر. فإذا صح هذا الذي يدعونه ولم نقس عليهم قسوة من يتهمونهم بمختلف التهم لم يكن علمهم إذن إلا ضرباً من الفضول أو التجسس على قوى الطبيعة. والفضول سخف، والتجسس رذيلة.
أما العلم الذي يصل إليه العقل الفضيل الحساس فليس فيه من الفضول شيء ولا من سخف الفضول، وليس فيه من التجسس شيء ولا من رذيلة التجسس، وإنما هو علم يطلبه صاحبه لأنه يحبه، ويرفض ما عداه لأنه لا يريد شيئاً غيره، وهو يسعى إليه لأنه يشعر أن فيه كماله، وأن في الوصول إليه راحته وأنه قبل هذا وذاك يرضي إحساسه وأخلاقه وينسجم معهما.
وهذا هو العلم الذي يبدو حين يطالع الناس وفيه من نفس صاحبه إحساس صاحبه وأخلاق صاحبه، كما يكون فيه من عقل صاحبه. فأي شيء يشبه هذا العلم؟ إنه يشبه الفن. وهو يشبه الفن من حيث أنه تعبير عن نفس صاحبه، ومن حيث إنه يحقق حاجة من حاجات صاحبه الروحية، وقد تشمل هذه الحاجة مطالب مجموعة خاصة من المجموعات البشرية وقد تشمل مطالب البشرية بأسرها.
هي إذن رسالة علمية عقلية، وهي قائمة على أساسين من الحس والخلق إلى جانب ما تقوم عليه من أساس العقل. وليس كل العلم هكذا، ولا كل العقول التي تجري وراء العلم هكذا. وإنما هي نفوس الفنانين التي تنحرف لضرورة من ضرورات الحياة عن إنتاج ما اصطلح الناس على اعتباره من الفنون الجميلة إلى أداء رسالات هي في ظاهرها غير هذه الفنون، وهي في حقيقتها فنون جميلة بل إنها أجمل الفنون. ذلك أنه إذا كان جميلاً أن ينشئ إنسان لحناً أو قصيدة أو تمثالاً أو صورة فأجمل من ذلك أن ينشئ إنسان نفس إنسان آخر، والأجمل الأجمل أن ينشئ إنسان جيلاً من النفوس في جيل من الناس على صور من خياله. وليس أجمل من أن تقوم رسالة فنية على أساس من الحب يطوى المؤمنون بها نفوسهم عليه ويهبونه لأعدائهم كما يهبونه لأصدقائهم: فتحيتهم سلام وغايتهم محبة، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.
عزيز أحمد فهمي