مجلة الرسالة/العدد 317/لجنة التقدير
مجلة الرسالة/العدد 317/لجنة التقدير
للأستاذ عباس محمود العقاد
ثم تقررت ضريبة الجمال
وجاء دور اللجان التي تقدر الجمال بالخبرة والنظرة الصادقة، وتقدر الضريبة عليه بالعدل والقسطاس المستقيم
فمن هم الخبيرون بالجمال؟ وممن تتألف اللجنة أو اللجان التي تفرض (مقداره) ثم تفرض مقدار الضريبة الواجبة عليه؟
زعموا أنهم ندبوا لذلك لجنة من فلاسفة (الاسطاطيقا) أو فلسفة الجمال كما عربها الأستاذ الأكبر أحمد لطفي السيد باشا
واعتقدوا أن هؤلاء الفلاسفة هم أحق الناس بعرفان المعاني الجميلة والصور الجميلة، كما أنهم أحق الناس باستخلاص كنه الجمال في جوهر الجواهر ولب اللباب
قالوا: فمضت برهة قبل أن يتفق هؤلاء الفلاسفة الأخيار على التعريف المختار
هل الجمال هو الحرية؟ وهل الجمال هو التنسيق والنظام؟ وهل الجمال هو غلبة الفكرة على المادة؟ وهل الجمال في تمثيل الغريزة الجنسية؟ وهل الجمال في تمثيل النزعة الكمالية؟ وهل الجمال عميق عمق البشرة، أو هو عميق عمق الروح وعمق أسرار الغيوب؟
وجيء إلى الحكومة بمحاضر الجلسات فإذا هي ألغاز ومعميات، وشعاب ومنعرجات، ومتاهة تلتقي فيها الخواتيم والبدايات، وتنقضي الأعوام قبل أن تسعف الخزانة ببضعة دريهمات
وزعموا أن الحكومة تركت هذه اللجنة توغل في متاهاتها وندبت للأمر لجنة أخرى من رجال المسارح والمراقص ومدربي اللاعبين واللاعبات والراقصين والراقصات
ثم جربتها في مدينة واحدة، وانتظرتها برهة أخرى فإذا هي تعود إليها بأسماء لا تتجاوز العشرات، وأرقام لا تتعدى المئات، لأنها قضت برهتها في قياس الوجوه والأجياد، وقياس الأنوف والآذان، وقياس الصدور والظهور، وقياس الجذوع والأطراف، فما استحسنته من هنا عابته من هناك، وما زادته من الساعد نقصته من الساق، وما أضافته عادت فحذفته، وما أوشك أن يؤول إلى ثروة تراجع فأوشك أن يؤول إلى إفلاس!
وبلغت الشكايات إلى مسامع الحكومة قبل أن يبلغ التقرير إلى مراجعها، ثم نظرت في التقرير بعد انتهائه إليها فإذا هو اضطراب في الأهواء، واضطراب في الآراء، واضطراب في الأرقام والأسماء، فقالت: عليه وعلى كاتبيه العفاء!
زعموا هذا وزعموا أن أديباً كيِّساً نصح إلى الحكومة جهد نصيحته فأشار عليها بالتعويل في أمر الضريبة على أناس غير الفلاسفة وغير خبراء الفنون
ماذا عليها مثلاً لو عمدت إلى طائفة من هواة السهر، وعشاق الحسان في باحات السمر، فناطت بهم تقدير الجمال، وتقدير جباية الأموال؟
هؤلاء أناس من أوساط الناس ليسوا بأصحاب إمعان في الحقائق والأسرار، ولا بأصحاب تصعيب في القياس والاختبار؛ وهم مع هذا يعرفون النساء، ويحبون الشمائل الحسناء، فلجنة منهم هي أصلح الأكفاء لتقويم الجمال كما يقومه عامة الرجال والنساء
وإن الحكومة لتهم بالموافقة والتصديق، إذا بصديق يأخذ عليها الطريق، وينهاها عن هذا الفريق، لأنه أعجز فريق عن التوفيق في هذا العمل الدقيق!
سألوه: لماذا؟
فأجابهم: لهذا. . .
وهذا عنده هو دعواه أن رواد المراقص والملاعب لا يحبون الحسناء لأنها حسناء، ولكنهم يحبونها لأنهم يحبون المغالبة والرهان، والمفاخرة والشنآن. . . فشأن المرأة عندهم كشأن كل علامة يتحقق بها الغلب والظهور، وما يبذلون من مال في هذا المجال فإنما يبذلونه بذل المراهن أو بذل المقامر أو بذل المتحدي في أمر من أمور العناد والإصرار، ولا يبذلونه تقويماً للحسن ولا للمتعة ولا لإرضاء الذوق السليم والفن الجميل
ويتفق كثيراً أن تغلب خلاعة المرأة جمالها في هذا القمار أو هذا السباق
ويتفق كثيراً أن يغلب الكيد الخلاعة، وأن تبقى بعد الخلاعة والكيد وشهوة الفوز والغلبة حصة صغيرة للجمال الصحيح
حيرك الله يا جمال كما أنت حيرة الناظرين والباحثين والمشترعين والمحصلين!
إذن لا ينفع الفلاسفة ولا ينفع خبراء الفنون، ولا ينفع عشاق الحسان أو غير الحسان. . .
فمن الذين ينفعون؟ ومن الذين يقدرون؟ وكيف يقدرون ويحصلون؟
رأي أخير، فلعله ليس بفطير
قالوا: نعهد في أمر التقدير والتحصيل إلى لجان من عامة خلق الله، لا هم بأصحاب فلسفة ولا هم بأصحاب فن ولا هم بأصحاب سهر ومجون
بل زيد وعمر وبكر وخالد وفلان من جملة بني الإنسان
وجمعوا اللجان من عامة السكان
فعادوا قليلاً وهم بين مكسور ومجبور وولهان وغضبان
عند البيت الأول قال شيخ من ذوي الوقار بين الأعضاء: مائة دينار لا تنقص درهماً واحداً على هذه الحسناء
قال فتى أنيق: وأين هي تلك الحسناء؟
قال الشيخ: تلك التي تراها
قال الفتى: أتلك السمينة البدينة التي تشبه الغرارة؟
فما أتمها حتى سقط تحت أربعة أو خمسة من الضاربين: أحدهم الشيخ والآخرون أو الآخرات، ما شئت من سامعين وسامعات
وفي لجنة أخرى تغير الاقتراح فكانت الضريبة الراجحة من نصيب النحيفة العجفاء، فلم تتفق اللجنتان في غير الضرب والتجبيه والإيذاء
وكانت اللجنة من اللجان تشتمل على الحضري والقروي والشيخ والشاب والجاهل والمتعلم والزوج والأعزب ومن يعرف نساء الحي ومن ليست له معرفة بهن ولا قرابة. فإذا أُخذت الآراء، فهناك ابتداء ولا انتهاء، ومتهمون ولا أبرياء، ومغرضون ولا نزهاء، في عرف جميع الرجال وجميع النساء
وكثرت الرشوة، وعمت الوشاية، واستفاضت الأقاويل، وتبدلت اللجان، فما كان من أهل قرية فلينقل إلى غيرها لدفع المظنة ومنع الشبهة، وهي لا تمتنع ولا تندفع بحال
قال كاتب هذه السطور: فلما علمت بهذه الورطة وعلمت أنني جنيتها وأوقعت من أوقعت فيها علمت كذلك أنني مطالب (بالتخليص) كما قد تبرعت بالتوريط، وأنني فتحت باباً ولا مناص له من إغلاق، وبدأت أمراً ولا بد له من ختام قلت لمن سمع ما قلت: إياكم واللجان، وإياكم والتقدير، واجعلوها كما هي في الحقيقة ضريبة فذة بين ضرائب العصور، فلا يقدرها مقدر ولا يجبيها جاب ولا يسأل عنها سائل، وإنما يترك الرأي فيها لمن يبذل بذله ويسوّم تسويمه، وما على الحكومة إلا أن تعلن بالمذياع وبالصحف وبالنداء في أرجاء البلاد أسماء كل مائة راجحات في كل يوم من الأيام، ولا عليها من نشر الصور والأوصاف إلا أن يشاء ذلك من يشاء
وسنرى كيف تمتلئ الخزانة، وينقلب معنى الخيانة إلى إفراط في الأمانة، فيؤديها الناس أضعافاً مضاعفات، ويبذلونها مرات بعد مرات، كلما فاتهم الإعلان مرة فاستدركوا ما فات!
عباس محمود العقاد