مجلة الرسالة/العدد 317/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 317/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 07 - 1939



دراسات في الفن:

الفن علامة الإنسانية

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

قال جاجاديز بوز العالم الهندي إن النبات يتألم ويئن وأثبت ذلك. وأغلب الظن أن جاجاديز بوز لو لم يكن شرقياً لكثر عليه أن ينسب الألم والتعبير عنه بالأنين إلى النبات، ولاكتفى بقوله إنه تبدو فيه اهتزازات واضطرابات تشبه انفعالات الألم عند الإنسان. فهذا هو نهج الغربيين من العلماء الذين يتصدون لدراسة الحياة: يؤثرون أن ينكروها أولاً ثم أن يبحثوا عنها ثانياً على خلاف ما يفعل الشرقيون الذين يشعرون بها أولاً ثم يتعرفونها ثانياً بادئين بأنفسهم غير منتهين إلى شيء، لأنهم يؤمنون بالروح ويحبون بطبعهم أن ينسبوها إلى الأحياء جميعاً ولا يسمحون لأنفسهم أن يقولوا ما قاله بعض علماء الغرب من أن الحيوان نفسه مسلوب الروح وأن كل ما يبدو عليه من إمارات الوجدان والعاطفة ليس إلا ردود أفعال لاهتزازات عصبية مادية تعتري الحيوان في ظروف خاصة وتبعاً لمؤثرات خاصة. وهم يذهبون في نكرانهم هذا إلى ابعد الحدود حتى لينكرون هذا الفرح الذي يعتري الكلب في استقبال صاحبه الغائب، وهذا الحزن الذي يعتريه لوفاة صاحبه الوفي والذي يحمله على الإضراب عن الطعام والشراب حتى يموت موتاً. ينكرون العاطفة الروحية على الحيوان ويقولون إنه لا يفرح للقاء صاحبه وإنما هو يضطرب لأن مرأى صاحبه يثير في نفسه أو في أعصابه صور الطعام والنعم التي يغدقها عليه، ثم يقفون أمام الكلب المنتحر من الحزن والأسى، وقد طأطئوا رؤوسهم يفكرون في هذه القوة التي نقَّت الحيوان من أخص خصائص حيوانيته فأهمل الطعام والشراب والحياة نفسها. . . يخفضون الرؤوس أمام هذا الكلب طويلاً يبحثون في أذهانهم عن علة صيامه؛ فإذا قال لهم قائل إن الحزن والأسى هما السبب انتفضوا وقالوا: لا. نحن لا نعرف. ولكننا نأبى أن يكون في الحيوان روح وحياة. أما بقية الناس فمنهم من لا يرون في فرح الكلب وحزنه إلا اضطرابات واهتزازات وانفعالات وردود أفعال عصبية مادية لا روح فيها ولا حياة، وهؤلاء يقبلو أن يصدقوا هؤلاء العلماء لأنهم مثلهم، وأن يثبتوا معهم أمام الكلب ينكرون عليه فرحه وحزنه إلى أن يقول لهم بلغة من اللغات الأوربية: إني فرح وإني حزين. ومن الناس من يحسون ويشعرون ويبادلون الحياة الشهقات والزفرات وأولئك آمنوا من هدى أنفسهم أن في الحيوان روحاً وحياة، وهم يسارعون إلى جاجاديز بوز يصدقونه حين يقول: إن النبات يتألم وينفعل بوجدان، ويئن وينطلق بتعبير. ويخرجون من هذا بأن الحيوان أولى من النبات به.

ورضي الله عن جاجاديز بوز الذي استطاع أن يثبت رأيه إثباتاً علمياً استخدم فيه آلات المعامل وأحماضها وأملاحها فلم يعد هناك مجال لإنكار ما أثبت، بل لقد عد صنيعه هذا من كرامات البشرية الحديثة فمنحه الغرب جائزة نوبل التي يتعزز بها على الشرقيين

أثبت الشرق إذن أن النبات يتألم وأنه يئن من الألم، وقد يكون الألم علامة الروح الوحيدة في النبات وقد يكون معه غيرها ولكنه على أي حال يكفي للتدليل على الروح، فهو يستطيع أن يشملها وهو الذي ينزع بها إلى الخلاص! وهو - أخيراً - حسبنا من علامات الروح في النبات

فإذا ارتفعنا من النبات إلى الحيوان في سلسلة التطور والارتقاء الحيويين رأينا الحيوان يمتاز على النبات في الظاهر بالحركة. ورأينا الحيوان في حركته واحداً من أثنين: إما خسيسا يتحرك في حياته حركات متشابهة متكررة لا تعديل فيها ولا تجديد ولا محاولة تدل على قدرة التلاؤم مع الحياة. وإما رفيعا يتحرك في حياته حركات مختلفة يطرأ عليها التعديل كلما تغيرت الأحوال، ويطرأ عليها التجديد كلما استدعت الظروف التجديد، وتتحور ويتزايد وضوح المحاولة التي تدل بها على قدرة التلاؤم مع الحياة

أما خسيس الحيوان فقد يسهل تصوره محروماً من العقل إذا اعتبرنا أن العقل هو القوة التي تمكن الكائن الحي من الملاءمة بين نفسه وبين ظروف الحياة الطارئة المتجددة. ولكن هذا إذا سهل علينا تصوره، فإنه يتعذر علينا (بعد الذي أثبته جاجاديز بوز) أن نتصوره خالياً من القوة الروحية التي يثور بها في نفسه وجدان الألم على الأقل. فإذا كنا ممن يؤمنون بالتطور والارتقاء الروحيين إلى جانب التطور والارتقاء البدنيين، فإننا من غير شك نتوقع أن يكون في أدنى الحيوان من علامات الروح شيء إلى جانب الألم، لأنه قد ثبت أن النبات يتألم، والحيوان مهما كان دنيئاً فهو من أرقى حياة وروحاً من النبات، إذ أنه كلما ارتقى الكائن الحي ارتقت روحه وزاد إحساسها وزادت قدرتها على التعبير عن نفسها

أما الرفيع من الحيوان الذي تتضح مقدرته على التلاؤم مع ظروف الحياة الطارئة المتجددة، فهذا يصعب تصوره محروماً من العقل لأن فيه من مظاهر العقل.

صحيح أننا نرى في سلوك الحيوان ما يدل على الغباء أحياناً وما يدل على الغفلة وما يدل على الجهل، ولكننا إذا تدبرنا هذه المواقف التي يظهر فيها غباء الحيوان وغفلته وجهله رأينا أكثرها مما تصطنعه ظروف غير طبيعية في الحياة. ولما كان الحيوان حيواناً وليس أستاذاً من أساتذة العلم الحديث فإنه المسكين يحار ويختبل أمام هذه الظروف الطارئة التي لم يسبق لأجداده الوقوع في مثلها وتجربتها ومعالجتها سبقاً متكرراً كان يمكن أن يهيئه للتغلب عليها، وهو في هذا لا يزال يشبه أساتذة العلم الحديث حينما يقعون أمام المشكلات الحديثة المستغلقة. . . أليسوا هم أنفسهم يحارون ويختبلون؟ ألا يصدر عنهم من الأعمال ما يدل على الغباء والغفلة والجهل كما تصدر عن الحيوان أعمال تدل على هذى؟ إنهم هكذا من غير شك وإن في الحيوان عقلاً ولو تضاءل أمام عقل الإنسان وتواضع فإنه موجود لا يمكن إنكاره

فإذا اعترفنا للحيوان الراقي بوجود العقل، أو بوادر العقل فيه، فإننا لا نملك إذن إلا أن نعترف له إلى جانب هذا بوجود الإحساس والعواطف فيه أيضاً، وقد نستغني عند هذا الحيوان الراقي عن براهين جاجاديزبوز إذا كنا ممن يرون ويشعرون ويحسون ويدركون الأشياء من غير أجهزة ومقاييس وموازين فإذا لم نكن من هؤلاء فقد قال جاجاديزبوز العالم من الهند إن النبات يتألم ويئن، وأثبت هذا إثباتاً يقنع عقل الغرب كما يرضي عقل الشرق، وأصبح من المكابرة بعد هذا أن تنكر الأحاسيس والعواطف على الحيوان، خصوصاً الحيوان الراقي الذي يسلك في حياته سلوكاً يشبه سلوك الإنسان فيبحث عن طعامه بحثاً منطقياً، ويتقي عدوه اتقاء منطقياً، ويبني مسكنه بهندسة منظمة بل إنه يمكر أحياناً، ويتخابث ويحتال، مما يدل دلالة قاطعة على أنه حي يقظ يحاول أن يلائم بين نفسه وبين ظروف الحياة الطارئة فينجح أحياناً، ويفشل أحياناً، ولكنه لا يكف عن المحاولة ما دام حياً

فإذا تركنا حياة النبات والحيوان وقد تراءت لنا الروح فيها وعرجنا على حياة الإنسان رأيناها أنضج من حياتيهما في نواحيها الثلاث: النبات يحس ويعبر عن إحساسه، والحيوان يحس ويعقل ويعبر عن إحساسه وعقله، والإنسان يحس ويعقل ويعبر عن إحساسه وعقله

فهل يزيد الإنسان على الحيوان في شيء. . .؟

لا جاجاديزبوز ولا حتى أنا نرضى بهذا! ولا يرضى به شرقي

قد كان من الممكن أن يقال هذا لو لم نقل إن الإنسان حلقة جديدة هي أرقى الحلقات في سلسلة التطور والارتقاء في الخلائق. وما دمنا قد قلنا هذا، وما دمنا رأينا التطور والارتقاء الماديين يلزمهما تطور وارتقاء روحيان، فلا بد أن يكون في الإنسان ميزة روحية ترقى به على الحيوان إلى جانب رقيه البدني المادي.

فما هي هذه الميزة الروحية؟

لنعد مرة أخرى إلى النبات والحيوان نتتبع فيهما منطق التطور والارتقاء لنهتدي به فيما نريد أن نعرفه من علامة الإنسانية التي لو فقدها الإنسان لم يكون غير حيوان، وإن نطق! فليس النطق على أشرف صورتيه إلا محاولة عقلية. . . أما الصورة الأخرى فهي التي نعرفها من الببغاء التي أنطقها الله لأمر ما، والتي لعله سبحانه أراد حين أنطقها أن يدرك المبتصرون شيئاً من تشابه الخلائق، وبريقاً من التوحد يسطع منها جميعاً، وإن تفاعلت وتبدلت وتطورت وارتقت. . .

النبات يرتقي حتى ليشابه الحيوان في حلقة الإسفنج، والحيوان يرتقي حتى ليشابه الإنسان في القرد أو ما هو أرقى خلقاً من القرد وهو الحلقة المفقودة التي ذكرها العلماء. وقد رأينا الإحساس يبدأ في الحياة أولاً ومعه تعبير صامت عنه، ثم نرى العقل ينشأ في الحيوانات المحتالة ومعه تعبير غامض عنه لم يثبت بعد للعلم، ولكننا قبل أن نترك حلقة الحيوان إلى حلقة الإنسان نرى الحيوان يعبر عن إحساسه تعبيراً فيه تدليل على ذاته، وهو أشبه التعبير بالغناء البشري. فإذا تركنا حلقة الحيوان ومضينا إلى ما بعدها في سلسلة التطور والارتقاء وهي حلقة الإنسان رأينا هذا التعبير الذي يحاوله الحيوان في انحصار يتضح عند الإنسان وينفرج حتى ليسخر له الإنسان الأرقى حواسه جميعاً يجمع أصوله بها ويطلقه فيها، ثم يصدره معبراً عن ذاته كما يفعل البلبل والكروان ولكن في صور أكثر من صورهما، ثم معبراً بعد ذلك عن غيره، وهو مالا يفعله أحد من الحيوان، لا البلبل ولا الكروان.

ونحن إذا حاولنا أن نجد شيئاً ظاهراً يميز الإنسان مما عداه من المخلوقات في هذه الظاهرة لم نجد شيئاً. ذلك أنه إذا حسبنا النطق يميز الإنسان فالببغاء ناطقة، وإذا حسبنا الحياة الاجتماعية تميز الإنسان فالذئب والقرد والوعل حيوانات اجتماعية، وإذا حسبنا الإحساس يميز الإنسان فقد رأينا الحيوان بل والنبات يحسان، وإذا حسبنا العقل فالحيوان يعقل وإن أنكر العلماء، وهكذا فإننا نعجز في التفريق بين الحيوان والإنسان إلا باثنتين! هذه الظاهرة التي سجلناها، وظاهرة أخرى هي الدين. . . على انه يمكن بسهولة تامة أن نتصور النبات والحيوان والجماد معهما متدينين جميعاً إذا اعتبرنا أن الدين هو الإسلام وهو نهج النظم الطبيعية التي تؤدي إلى السلامة، وإذا لحظنا أن الأديان لم تلزم الإنسان إلا بعد أن انحرف عن نهج النظم الطبيعية التي كان يجب عليه أن ينهجها لتسلم حياته من الأضرار وأمراض البدن والروح، لم يبق أمامنا من شيء يميز الإنسان على سائر الكائنات غير هذه الظاهرة التي ذكرناها

فما هي هذه الظاهرة؟

إنها الفن!

وهذه الظاهرة تسلك حين تسري في الإنسانية مسلك كل ظاهرة من ظواهر التطور والارتقاء. وقد رأينا ظواهر التطور والارتقاء تبدأ في الدنيء من الخلائق على صورة يسيرة غامضة، ثم تزدهر وتتضح وتتضح حتى تتميز تميزاً تاماً واضحاً ملموساً فيكون هذا التميز طابعاً لهذا الفريق من الخلائق ويكون هذا الفريق أنضجها وأرقاها في هذه الناحية

وكذلك الفن. نواته موجودة في البشر جميعاً لأنهم الحلقة الحيوية التي اختصتها الطبيعة به وهيأتها له. والدليل على ذلك أن الناس جميعاً يستجيبون للفن أو هم على الأقل يطربون للموسيقى. وما كانوا يملكون إلا هذا ما دام في الحيوان ما يغني كالكروان والبلبل، وما دام فيه ما يستجيب للصفير (وهو ضرب من الموسيقى) كالثعبان. وليس غناء الكروان والبلبل واستجابة الثعبان وطربه للصفير إلا بشيراً بالفن أو بأنغامه على الأقل بشرت به الحياة الخلائق في الحيوان، وحققته تحقيقاً تاماً في الإنسان؛ غير أن الناس ليسوا سواء في تكوينهم الفني، وليس في هذا عجب لأن الناس ليسوا سواء في شيء من الأشياء، ولأن طبيعة الحياة أن تتشابه في العموميات، وأن تختلف في التفصيلات ليثبت لذوي الأبصار أن هذه الخلائق لا تصنع في مصنع فيه آلات وفيه قوالب وإنما تخرجها إرادة فنان يأبى أن يتكرر حين يتوحد سبحانه من فنان!

فإذا راق لنا أن نؤمن بهذا وأن نعتبر الفن علامة الإنسانية التي تسمو بها على الحيوانية والتي لا يمكن الإنسان أن يكون إنساناً إلا إذا اتصف بها. . . إذا آمنا بهذا لزم أن يكون أقرب الناس من الفن أنضجهم إنسانية. ولزم أيضاً أن نتوقع لهذه العلامة الإنسانية أن يتزايد وضوحها وتمكنها حتى تشمل البشر جميعاً، وعندئذ تبتدئ بشائر الميزة الجديدة التي يريد الله أن يطبع بها الحلقة المقبلة من حلقات التطور في الخلائق. . ومن يدري أي شيء سيكون هذا الطابع، وأي ميزة ستكون هذه الميزة؟! لعلها ميزة العقل الذي يطالبنا به الله لا عقل العلم الحديث

فإذا كان الأمر كذلك كان ما يسعد الفن هو ما يسعد البشرية، وكانت كل محاولة يراد بها التقليل من شأن الفن محاولة مجرمة تعرقل التطوّر البشري

فهل تنهج الإنسانية في حياتها الحالية نهجاً فنياً يسعدها ويرقى بها؟ أو هي قد انحرفت عن طريق الفن إلى طريق آخر لا يمكن أن يقيد بها مهما كان صالحاً ومهما كان فيه خير لنواح بشرية غير ناحية الحس الروحي؟

إن الإنسانية قد انحرفت إلى هذه الطريق منذ أمنت بالحضارة والعلم اللذين يحتضنان المادة

وإنه من الخير لها أن تفيق وأن تعود إلى حياة الحس الروحي فينتعش فيها الفن وتنتعش فيها الروح وترقى، وهذه سنة الله لو أردنا أن نتبع سنته

عزيز أحمد فهمي