مجلة الرسالة/العدد 317/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 317/التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
ولندع الآن ما ليت يسعى سعيه الأثيم، ولندع كذلك الخديو في حيرته وارتباكه؛ ولنعد إلى أوربا لننظر ماذا آل إليه موقف الدولتين من المسألة المصرية.
وجدير بنا ألا ننسى ما أسلفنا الإشارة إليه أكثر من مرة، ألا وهو موقف الدولتين إحداهما من الأخرى، موقف المراوغة والمداراة، ذلك الذي كان طرفاه أول الأمر غمبتا وجرانفل.
ولقد تغير هذا الموقف تغيراً أساسياً من جهة فرنسا حينما حل دي فرسنيه في الحكم محل غمبتا؛ وذلك أن هذا الرجل قد انتهج في المسألة المصرية نهجاً جديداً ما لبث أن بينه لإنجلترة حين ولي الحكم.
وقد ألقيت إلى المسيو فرسنيه مقاليد الأحكام كما ذكرنا قبل أن يخلف البارودي شريفاً في مصر بنحو خمسة أيام. فكتب إلى الحكومة الإنجليزية أنه لا يميل إلى أي تدخل عسكري في مصر سواء أكان هذا التدخل من جانب إنجلترا وفرنسا مجتمعتين، أم من جانب كل منهما على حدة؛ وأنه كذلك يرفض كل الرفض أن يقر أي تدخل من جانب الباب العالي. . .
ولعل جرانفل قد رأى في سياسة فرسنيه ما يسهل عليه الوصول إلى غرضه مع ما قد يبدو لأول وهلة من أنها تؤدي إلى عكس ذلك؛ وذلك لأنه يستطيع الآن أن يلزم دي فرسنيه بسياسته بينما يتلمس هو الأسباب لتتدخل حكومته بمفردها، ولن يعدم أن يجد من الحوادث تافهة كانت أم كبيرة ما يتخذ منه مبرراً لتدخله. ولئن لم تواته الحوادث فما أيسر أن يخلقها خلقاً أعوانه في مصر، حتى إذا سنحت الفرصة أفلت من فرنسا وانقض على الفريسة وحده؛ وإذا بدا لتركيا أن تتدخل في تلك الأثناء فلتستتر إنجلترا خلف فرنسا لأنها هي التي تعلن أنها تمانع في تدخل الباب العالي. وإن إنجلترا لتمانع في الواقع أكثر مما تمانع فرن حتى لا تعود مصر إلى حوزة صاحبها الشرعي، فيضيع على إنجلترا كل آمالها، ولكنها تلقي ذلك على عاتق فرنسا فتزداد نياتها خفاء وتزداد في نفس الوقت قرباً من غايتها. . .
وكان غمبتا يشير كما بينا بالالتجاء إلى القوة أبداً ضد الوطنيين في مصر، ومن هنا جاءت المذكرة المشتركة؛ وكان من اقتراحاته أن تقوم الدولتان معاً بالتدخل العسكري في مصر؛ ولكن جرانفل لم يشايعه في هذا الاقتراح مبيناً له ما ينطوي عليه تنفيذه من أخطار، ولقد جاء كلام جرانفل هذا إلى غمبتا في رسالة وصلته قبل سقوط وزارته بيوم واحد. وجاء في خاتمة هذه الرسالة قوله: (إن حكومة جلالة الملكة توافق على أن للدولتين مركزاً خاصاً في مصر وذلك بناء على الظروف القائمة والاتفاقات الدولية؛ وإنها كذلك تعتقد أنه قد تنجم بعض المتاعب من دعوة عدة دول في مسألة حكومية ولكن حكومة جلالة الملكة تكل إلى الحكومة الفرنسية أن تنظر ما إذا لم يكن الأمر في حاجة إلى الاتصال بالدول الأخرى كخير وسيلة لتناول حالة من الحالات يظهر أنها ذات مساس بالفرمانات السلطانية وعلاقات مصر الدولية). . .
ولم يكن جرانفل بالضرورة متعففاً عن التدخل العسكري في مصر، وإنما كان يود التخلص من مشاركة فرنسا لإنجلترا في هذا، وقد كانت السياسة الإنجليزية تدور منذ حملة بونابرت على مقاومة نفوذ فرنسا في وادي النيل. ثم الاستيلاء عليها متى أمكن ذلك دون مراعاة شيء في سبيل الوصول إلى هذا الغرض
واستفهم المسيو فرسنيه الحكومة الإنجليزية ماذا أرادته لذلك الاحتياط الذي أبلغته المسيو غمبتا بعد موافقتها على المذكرة المشتركة، فكان الجواب أن الحكومة البريطانية تحتفظ لنفسها بتعيين نوع العمل إذا لم يكن من العمل بد وفي تقرير وجوب العمل أو عدم وجوبه على وجه العموم
ثم أراد جرنفل أن يخفف من وقع هذا الكلام في نفس فرسنيه فذكر أنه ليس في مصر ما يدعو إلى القلق فإن الوزارة الجديدة تجهز برغبتها في المحافظة على تعهدات مصر الدولية؛ وإذا وقع ما يقتضي التدخل فإن الحكومة الإنجليزية تجعل أساس ذلك تضامن أوربا مع وجوب اشتراك السلطان في كل خطوة وفي مفاوضة يؤدي إليها هذا التدخل
وفي تلك الأثناء كان كلفن ومالت يحكمان دسائسهما في البلاد ويباعدان بين الخديو ووزرائه، لا يتوانيان عن خلق (الضرورة) التي تقضي بالعمل
وكانت الحكومة الإنجليزية التي تقف من فرنسا ذلك الموقف الذي أشرنا إليه تفكر في ذلك الوقت في إعداد حملة على مصر، ففي الخامس عشر من شهر مارس أي بعد استلام البارودي أزمة الحكم بأربعين يوماً زار مستر بلنت السير جارنيت ولسلي الذي سوف يكون قائد الحملة على مصر عما قريب، فدار بينهما الكلام على هذا المشروع. يقول مستر بلنت: (فبعد أن تكلمنا عن قبرص انتقلنا إلى موضوع مصر وإمكان مقاومة الوطنيين في حالة التدخل، وسألني رأيي في ذلك فقلت له: إنهم بالطبع سيقاتلون والقتال لن يقتصر على الجنود لأن الأمة ستنضم إليهم وربما استعملوا طرقاً أخرى بعد ذلك. وقد أبى أن يصدقني في قولي بأن الجنود ستقاتل، ولكني ثبت على رأيي وقلت له: إنه إذا كلف بأن يذهب لغزو مصر فعليه أن يأخذ معه على أقل تقدير ستين ألف جندي. وقد بالغت بلا شك في هذا التقدير لأني كنت أرمي إلى جعل هذه المهمة شاقة في نظرهم حتى لا تقدم عليها الحكومة إلا بعد تردد ومراجعة. وقد تطوع بإخباري بأنه قد استشير مرتين أو ثلاثاً مدة الشتاء بصدد الغارة على مصر والاحتلال. وقد أكد لي أن ليس هنا من يريد التدخل وأن احتلال مصر سيكون مكروهاً عند الجنود، وأنه هو نفسه يكون آسفاً جداً إذا اضطر إلى الذهاب إلى مصر. ومن رأيه أنه يجب على المصريين أن يسرحوا جيشهم ويثقوا بحماية أوربا. ولكني أخبرته بأنه ليس من المستطاع لي أن أنصح لهم بذلك وأن الأمة التي تنوي القتال بنية صادقة قل أن يهاجمها عدو. فقال لي: إنه ليس هناك شيء يدعى الشرف في الحروب، وإذا كانت المسألة مسألة حرب فلا يجب عليهم أن يثقوا بنا ولا بأي دولة أخرى
ثم أخذ في الكلام عن الطرق الحربية المؤدية إلى القاهرة فذكر بونابرت وطريقه على الشط الأيسر بين فرع النيل وطريق الصحراء بين قناة السويس والدلتا حتى شعر بأنه إذا ذهبت الجيوش فستتخذ هذه الطريق، ولكني احترست من أن أعطيه أي معلومات تفيده أقل فائدة، واكتفيت بالضحك عندما سألني عما إذا كنت أرافقه لأدله على الطريق عندما ترسل الحملة
وبينما كانت الدسائس تدبر لمصر في الداخل والخارج على هذا النحو لم يكن للوزارة المصرية من وسائل الدعاية شيء ما، فكان أعداؤها يتقولون عليها ما شاءوا وما شاءت لهم أطماعهم حتى لقد صور عرابي زعيم الحركة الوطنية صوراً بلغت أقصى حدود الغرابة، فهو تارة رئيس عصابة من المتمردين الخوارج على القانون والنظام، وهو طوراً داعية إسماعيل اشتراه بالمال ليعمل على إعادته إلى مصر، وهو بالإضافة عند بعض الإنجليز فرنسي أو أسباني في زي مصري، إلى غير ذلك من الأقاويل التي لا ندري أنقابلها بالألم أم بالسخرية
وانطلقت الصحف تذيع في الناس الأكاذيب في غير حياء أو فتور وليس لمصر لسان يدافع عنها إلا لسان مستر بلنت فلقد سافر هذا الرجل الحر ليقابل كل من لهم صلة بالمسألة المصرية ليريهم وجه الحق في هذه القضية وليصحح ما جاز على عقول الساسة من خدع
ولقد قابل مستر بلنت جماعة من النواب ومن رجال المال وما زال يسعى حتى ظفر بمقابلة جرانفل فتحدث إليه بما لديه من المعلومات ودافع عن قضية الأحرار في مصر بكل ما وسعه من وسائل الدفاع. ولكن شد ما كانت دهشته عندما انطلق جرانفل نفسه يخبره أن لديه من المعلومات الأكيدة ما يؤيد أن عرابياً ما هو إلا صنيعة إسماعيل وأن المسألة من أولها إلى آخرها ما هي إلا سلسلة من الدسائس لإرجاع الخديو السابق إلى عرشه!
وعول بلنت بعد ذلك على مقابلة غلادستون وقد كانت شهرته قائمة على أساس ميله إلى الحرية، والأخذ بيد الشرقيين جميعاً لينهضوا من سباتهم، فلما مثل بلنت بين يديه اندفع يتحدث عن الحركة الوطنية في مصر في طلاقة وحماسة، وظل غلادستون صامتاً ينصت إليه كأنه مقبل عليه مؤمن بما يقول مقدره حق قدره يقول مستر بلنت: (ثم سألني عن موقف الجيش والسبب في ظهوره في المسائل الوطنية؛ فإنه توجس من هذا الظهور فأوضحت له تاريخ الحركة وأكدت له أن ما قيل عن تدخل الجنود قد بولغ فيه، وأن تلك الرواية القائلة بأن الجنود كانوا يتوعدون النواب ويرهبونهم من الروايات المختلفة وقلت له إن الاستعدادات الحربية الحاضرة ليس لها من غرض سوى الخوف من الاعتداء والتدخل).
ولكن ماذا كان ينتظره بلنت من جرانفل وغلادستون، ولم تكن المسألة مسألة إقناع وحجة؟ ماذا كان يأمل بلنت ولم تكن المسألة ماذا يجب أن يعمل، وإنما كانت متى ينفذ ما انعقدت النية عليه؟ وإني لأحس من قراءة ما كتبه بلنت عن مقابلته لجرانفل وغلادستون أنهما كانا ينظران إليه نظرتهما إلى غر لا يفهم ما يجب أن يسير عليه الإنجليزي في معاملة الشعوب الشرقية أو إلى ناشئ في السياسة لا يدري أن الكلام شيء والخطط المرسومة شيء آخر. ولقد علق كرومر في كتابه على مساعي مستر بلنت فقال: (ومن هؤلاء الذين عطفوا على القضية نرى أبرزهم هو مستر ولفرد بلنت ولقد عاش مستر بلنت زمناً بين المسلمين وكانت له لذة شديدة في كل شيء يتصل بهم وبدينهم؛ ويظهر أنه كان يعتقد في إمكان إحياء الإسلام على قواعده الأصلية وقد تصادف أن كان في مصر في شتاء عام 1881 - 82؛ فألقى بنفسه بكل ما تبعثه الطبيعة الشاعرية من حماسة في جانب القضية العرابية وأصبح مرشدها وفيلسوفها كما أصبح الصديق لعرابي وأتباعه؛ ورأى مستر بلنت أنه كان يعني بحركة هي إلى حد معين حركة قومية بلا نزاع؛ وفشل في أن يفهم فهماً كافياً تلك الحقيقة وهي أن سيادة الحزب العسكري كان فيها القضاء على العنصر القومي في الحركة! وكان في وقت ما يعمل وسيطاً بين السير ادوارد مالت والقوميين
ولكن هذا الاختيار لم يكن موفقاً؛ لأنه يتبين بأجلى وضوح مما ذكره بلنت في كتابه عن مساعيه أنه فيما عدا بعض المعرفة باللغة العربية لم يكن على شيء من الصفات اللازمة لتحقيق النجاح في مسألة لها ما لهذه المسألة من صعوبة ودقة. ولقد نصح القوميين أن يعنوا بالجيش وإلا غالتهم أوربا، وكان يعني النصيحة بلا ريب ولكنها كانت في غير وقتها كما كانت خبيثة، فلئن كان ثمة من خطر من جهة الغزو الأوربي فإن موطن هذا الخطر كان في انضمام الحزبين الوطني والعسكري أكثر مما كان في انفصالهما؛ ولقد كان من السهل على السياسي المجرب أن يدرك هذا، ولم يكن للمستر بلنت تجربة سياسية ذات قيمة ما وإنما كان رجلاً متحمساً يحلم أحلاماً عن يوتوبيا عربية)
هذا هو ما يراه كرومر في بلنت. وليس عجيباً أن يكون هذا رأي كرومر وهو من أساطين الاستعمار في رجل كمستر بلنت كان بلا ريب من كبار الأحرار؛ وإنما أوردنا رأي كرومر هذا لأنه يكشف عن جانب من أساليب المستعمرين الإنجليز في محاولة طمس الحقائق في سبيل الوصول إلى ما يطمعون فيه من أغراض؛ وهو من ناحية أخرى يشف عما كان يمكن أن يقابل به مسعى رجل مثل مستر بلنت في دوننج ستريت إبان تلك الأزمة التي نحن بصددها: أزمة مقاومة الوزارة الوطنية في مصر
ولم يكن ينتظر أن يصيب بلنت غير الفشل، وقد رغبت وزارة جلادستون في تعجل الحوادث، لتفلت من فرنسا وتنفرد في وضع يدها على مصر حتى تخلص من الموقف الحرج الذي وضعها فيه مسلك فريسنيه. فإن هذا الوزير قد ذهب في تجنب العدوان على مصر إلى حد أنه كتب إلى قنصل فرنسا في القاهرة يأمره أن (يلتزم خطة التحفظ والحذر، وإن كان ذلك لا يمنعه من أن يحسن صلته بكل حكومة في مصر تحترم الاتفاقات الدولية وتحافظ على النظام).
ولقد زاد فريسنيه على هذا أن استدعى المسيو بلنير العضو الفرنسي في المراقبة لما كان يعلم من مسلكه نحو الحركة الوطنية في مصر، وباستدعاء بلنير خلا الجو لكلفن ومالت فراحا ينفثان سمومهما ويتعجلان الحوادث في غير وناء ولا استحياء. . .
وبعد شهرين من هذا وقع في القاهرة حادث المؤامرة الجركسية؛ وللقارئ أن يصور لنفسه أية فرصة كانت تلك الفرصة التي أتيحت للسياسة الإنجليزية وعلى أي صورة راحا يستغلانها لصالح دولتهما دون أي وازع من ضمير أو قانون أو عرف. ولننظر بعد ذلك ماذا كان من أمرهما وأمر الخديو في هذا الحادث العادي الذي لولا أطماع السياسة وتربص القوي بالضعيف جرياً على سنة تنازع البقاء في هذا الوجود ما كان ليعتبر شيئاً مما أثاره من قلاقل خطيرة، أو ليلد ما ولد من أحداث جسيمة
(يتبع)
الخفيف