مجلة الرسالة/العدد 316/مشكلة البحر الأبيض المتوسط

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 316/مشكلة البحر الأبيض المتوسط

مجلة الرسالة - العدد 316
مشكلة البحر الأبيض المتوسط
ملاحظات: بتاريخ: 24 - 07 - 1939



مصالح بريطانيا وفرنسا فيه

تلخيص مقال للسر ارشيبالد سنسكلير

زعيم حزب الأحرار بمجلس العموم

نجتاز الآن مرحلة جديدة من مراحل النزاع الأبدي بين القانون والقوة، فهذه هي الدولة الدكتاتورية التي لا تعترف بغير حق الأقوى، وتسخر من إيماننا بنظام دولي قائم على احترام استقلال الشعوب، وترفض كل مفاوضة مخلصة حبية لتسوية المشاكل الدولية، مفضلة عليها فرض إرادتها بالتهديد، وهذه هي الدول الديمقراطية، دول الماجنا كارتا وإعلان حقوق الإنسان التي يسود فيها الاعتقاد بأن للدول - كالأفراد - حقوقاً متساوية في الحرية، بغض النظر عن درجة قوتها، وبأن السلام قائم على احترام القانون، وأن الوسيلة الوحيدة للعمل على احترامه هي مقاومة العدوان.

وتقوم منذ سنوات علاقات متوترة أقرب إلى الحرب منها إلى السلام بين هاتين المجموعتين من الدول، فنحن في حالة حرب من الوجهة العملية في شؤون الرأي والمال والاقتصاد والصناعة، والدعاية، وقد زادت أخيراً هذه الحالة سوءاً، فاستغلت الدول الدكتاتورية غفلة حكوماتنا وترددها، فلم تتوان عن اللجوء إلى العنف عندما أحست بالقدرة على استعماله، فاستطاعت بذلك أن تستولي في أوربا الوسطى وأسبانيا على مراكز ذات أهمية عظمى لها من الوجهة الحربية والاقتصادية.

ومن الضروري، لنتجنب اليوم الذي نخير فيه بين الخضوع للمعتدين وتعجيل النكبة العالمية، أن نكون جبهة عامة من الشعوب التي تفضل القانون على العدوان، ويجب أن نكونها قوية لتستطيع تحويل هتلر الذي يبقى بعد دكتاتور ألمانيا وحدها، بل إيطاليا كذلك، عن المنحدر الذي يجذب العالم نحو الحرب

مساهمة بريطانيا في الدفاع عن السلام

يعلم الناس مساهمة بريطانيا في تدعيم السلام، وهذه المساهمة ذات وجهين، العسكرية والسياسية، ويمكن أن تعتبر أسبق الدول في الحالتين فقد قمنا من الناحية العسكرية بما لم نفعله قط في تاريخنا من قبل: لقد أدخلنا نظام التجنيد وقت السلم، ويجدر بي أن أسوق كلمة موجزة في هذا الموضوع الذي كان محلاً لتعليقات عديدة في فرنسا، لست أقول إننا فعلنا هذا عن طيب خاطر، ولكن نفورنا لم ينشأ عن أنانية أو جهل قد يصل إلى مرتبة الغباء، فإن الرجال في إنجلترا كما يجب أن تعرفوا، قد جاءوا وما زالوا، ليجودوا بأنفسهم بكثرة، ولقد بلغ عدد من قيد اسمه في البحرية أو الطيران أو الجيش ستة آلاف إلى ثمانية آلاف في اليوم، والتفسير العميق لهذا أن التجنيد في وقت السلم ضد تقليد ذي وجهين، حربي وأدبي، دام منذ مئات السنين، وليس من الهين أن نتحرر بسهولة من هيمنة القرون النفسانية. أما التقليد الأدبي فهو مذهب التطوع الساري في جميع النواحي، فانظروا مثلاً إلى مستشفياتنا التي تعيش بفضل جود الأفراد. وأما التقليد الحربي، فلأننا من سكان الجزائر قد اعتدنا أن نعتبر أن حماة أرض الوطن هم بحارتنا لا جنودنا. وأرجو أن تقدروا فيما عدا الذين سيعملون في دفاع الطيران أن مجندينا سيحاربون في بلاد أجنبية وفي مناطق بعيدة في بعض الأحيان، وأن رجل الشارع لا يرى دائماً كيف ولماذا تكون هذه المناطق الأجنبية مرتبطة بطريق غير مباشر بسلامة ونجاح الجزر البريطانية. فإذا ثبت في الأذهان هذه الاعتبارات النفسانية فهمتم ووافقتم على أن اعتناق مبدأ التجنيد هو انقلاب حقيقي عند الإنجليز، وأن سبباً واحداً استطاع أن يخرجنا عن مقتنا التقليدي للتجنيد: هو الرغبة في ألا ندع أدنى شك يتسرب إلى أصغر بقعة في أوربا عن إرادتنا في تقديم أكبر ما يمكن في المساهمة التي نستطيعها.

وليست مساهمتنا في الميدان السياسي بأقل انقلاباً من المساهمة العسكرية. ففي إعطائنا الضمانات لدول مختلفة في شرق أوربا ارتبطت إنجلترا بالقارة كما لم تفعل من قبل هذه الضمانات التي تخص غبر بولونيا رومانيا واليونان وتركيا، وهذه تسوقني إلى الكلام على مشكلة البحر الأبيض:

شرق البحر الأبيض

من الجلي أن الضمانات التي أعطيناها دول البلقان تجبرنا على الاحتفاظ بالسيادة البحرية التي للتحالف الفرنسي الإنجليزي في البحر الأبيض، ومن العبث أن نبين تفوق أسطول هذا الحلف الساحق على أي عدو في كل ما يختص بالسفن؛ ولكن هناك وهذا صحيح، تهديد الطيارات والغواصات، وهو ما يجدر بنا أن نحسب حسابه، ولكني أظن أنه قد بولغ كثيراً في تقدير هذا الخطر. ولعلكم تذكرون ما حدث في شتاء العام الماضي عند ظهور غواصات قراصنة من جنسيات مجهولة في البحر الأبيض فإنها لم تلبث بعد إعطاء السلطات الفرنسية والإنجليزية أوامرها إلى وحداتها بمهاجمة وإغراق كل غواصة تقابلها على بعض طرق المواصلات البحرية حتى اختفت بفعل السحر، مما يدل على أنه توجد أميرالية في أوربا تشاركنا يقيننا في قوة وسائلنا الدفاعية الفعالة ضد غارة الغواصات

ومن المفهوم أن هذه الثقة المطلقة في تفوق الأسطول الفرنسي الإنجليزي في البحر تقوم على أمرين أساسيين: الأول هو التعاون الصادق التام بين القيادتين، والثاني هو الاستحواذ على قواعد عظيمة القوة. ومن هنا كانت هذه الأهمية ذات الدرجة الأولى للمسألة المعقدة في علاقتنا بمصر وتركيا واليونان في الشرق، وبفرنسا وإيطاليا في الوسط، ثم علاقتنا المشتركة في الغرب، والتعهدات التي التزمنا بها أخيراً في البلقان تنسجم مع تعهداتنا التي تربطنا بمصر ومع ضرورة تأمين حرية المواصلات الإمبراطورية في قناة السويس.

هذه الالتزامات والمصالح التي لا تحتاج إلى التنويه بأهميتها تفسر الاهتمام الذي يبديه الرأي العام الإنجليزي في مراقبة تزايد القوات الإيطالية في ليبيا، كما تفسر قرار الحكومة الخاص بتكوين احتياطي جديد في الشرق الأدنى والأوسط، والقواعد الفرنسية في تولون وأجاكيو وبيزرته وأوران والجزائر لا تقل شأناً في خدمة القضية المشتركة عن القواعد الإنجليزية في شرق البحر الأبيض، كما أنه لا يخفى أن تفوق الأسطول الفرنسي الذي لا يمكن إنكاره في أفريقيا الشمالية هو من أكبر الضمانات الأكيدة التي يمكن أن يرجوها الإنسان في تدعيم السلام في البحر الأبيض

غرب البحر الأبيض

ولنأت الآن إلى غرب البحر الأبيض، فبريطانيا العظمى تعلق أكبر أهمية على تحالفها التقليدي مع البرتغال. هذا التحالف المكين المؤسس على المصالح المشتركة والذي حافظت عليه الأمتان بإخلاص وصدق منذ ثلاثة قرون بغير أن يمس شيئاً من كبريائهما واستقلالهما الشرعي

وعلينا أن نكسب صداقة الأسبان وحيادها في حالة الحرب إذا أمكننا. ولقد كانت من جهتي أحد الدعاة المخلصين لعدم التدخل في شؤون أسبانيا الداخلية كما هو حالنا مع أية دولة أخرى. ويبدو لي من المحزن - لهذا السبب نفسه - أن ظنت الحكومتان الإنجليزية والفرنسية أنه من الواجب ترك الحكومتين الألمانية والإيطالية تؤثران في مستقبل الحرب الأهلية الاسبانية، ويكاد هذا الضعف الجنوبي يكلفنا غالياً

من العبث أن نضيع الوقت في الأسف على أخطاء الماضي، وفي عدم الاعتراف بأن الجنرال فرانكو هو سيد أسبانيا اليوم، ولكن هذا يجب ألا ينسينا أن ألمانيا قد ضمنت مراكز اقتصادية وحربية هامة، وأن بواخر الأسطولين الألماني والطلياني تغشى موانئ أسبانيا

ولا أراني في حاجة إلى القول بأنه لا يوجد في إنجلترا شخص واحد لا يريد العيش في صداقة وسلام مع إيطاليا، وإننا مستعدون للاعتراف لإيطاليا بمصلحتها بالاشتراك مع فرنسا وإنجلترا في نظام البحر الأبيض وحرية المرور لتجارتها فيه، ولكننا لا نستطيع مع ذلك ألا نلاحظ أن جميع مساعينا في تسكين إيطاليا لم تفد إلا في تحريض هذه الحكومة على ارتكاب أعمال شديدة الخطورة على السلام

وكما أبان إيدن في خطبة استقالته في البرلمان، قد صحب اتفاق الجنتلمان في أول يناير سنة 1937 إرسال أول نجدة هامة من الجنود الإيطالية إلى أسبانيا، وأن إمضاء اتفاق 16 أبريل سنة 1939 تبعه ازدياد إلقاء القنابل المدمرة من الطيارات الإيطالية التي تعمل مع فرانكو، وأن التصديق على هذا الاتفاق قد تبعه تضاعف عدد الجنود العاملة في الجيش الإيطالي في ليبيا

وتدل جميع هذه الوقائع على أن سياسة التسكين لم يكن لها من أثر إلا إهاجة شهوة موسوليني وإضعاف مراكزنا في البحر الأبيض المتوسط

كما أن وجود القوات الإيطالية في ألبانيا قد يسبب تهديداً ضد أمن وسلام البحر الأبيض أكثر خطراً من هذه القوات في أسبانيا، فعددها مائة ألف على الأقل مزودة بالدبابات والطيارات ولا تبعد عن سالونيك إلا بمائة وخمسين كيلو متراً، وخطر هذا التهديد هو الذي ألجأنا إلى إضافة ضمان اليونان إلى ضمان رومانيا واتفاقيتنا مع تركيا

وهناك دولة كبيرة يهمها مباشرة استقرار الأمر في شرق أوربا وجنوبها الشرقي، وهي على استعداد لتضع تحت تصرفنا موارد لا نعرف في الواقع معلومات دقيقة عنها، ولكنها مع ذلك محل تقدير لا يمكن إنكاره، وموقعها يسمح بالتدخل عند الحاجة، سواء في الأرض أو في البحر، أسرع من فرنسا أو بريطانيا، وهذه الدولة هي روسيا.

وإنني أوافق من جهتي مستر تشمبرلين عندما قال إن النظام الداخلي في ألمانيا أو إيطاليا يجب ألا يؤثر على سياستنا الخارجية. فكذلك يجب تطبيق هذه القاعدة الحكيمة مع روسيا. فإذا أحبت إيطاليا أو ألمانيا أو روسيا نظامها الحالي، فليس لنا أن نحاول أن نفرض عليها نظاماً غيره، وإنما الأمر الوحيد الذي يعنينا هو سياسة هذه الدول الخارجية، وإذا كنت قد نهضت لمقاومة حركات ألمانيا أو إيطاليا فلأن هذه أو تلك تحاول فرض طغيانها على غيرها من البلاد، وهذه هي مساعدة روسيا تحت تصرفنا، وهي لابد منها إذا أردنا أن نضع حداً للاعتداء بدون أن نلجأ إلى الحرب.

وقد تساءلوا في باريس ولوندرة أخيراً عما إذا كان من اللازم أن نطلب إلى الفرنسيين أو الإنجليز أن يموتوا في سبيل دانزيج؟ يبدو أن الجواب الظاهر (كلا)! ولكن إذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن نظن أن البولونيين قبلوا أن يموتوا في سبيل باريس أو لوندرة، أو يقبل الفرنسيون أن يموتوا في سبيل جبل طارق، أو يموت الإنجليز في سبيل تونس؟ فالمهم تخطي ستار الجدل الخادع الذي يقف عند حد هذا الأمر الذي لا أهمية له في ذاته، أو عند معرفة لمن تكون هذه المدينة أو هذه الولاية لتقدير حقائق هذه الأمور الصحيحة. فإن الأمر أكبر اتساعاً وعمقاً من هذه الحدود.

ولقد سرني أن أعدت منذ أيام قراءة خطبة بريكليس في شعب أتينا في موضوع اقتراحات كان الإسبارطيون قد عرضوها عليه، وأحد هذه الاقتراحات خاص بقانون أتينا حظر على بواخر ميجارا دخول موانئ أتينا، ولابد أن أحداً سأل عما إذا كان يستأهل مثل هذا الأمر التافه الموت في سبيله، فكان جوابه:

(أكرر لكم أيها الأثينيون أن انزعوا هذا الوهم بأنكم قد تدخلون الحرب في سبيل أمر تافه، فإن تفاهة الأمر الذي نحن بصدده لا تقل عن امتحان يقينكم، فلو تخليتم عن هذه النقطة، فسيسألونكم فوراً أن تتخلوا عن غيرها، لأنكم قد خفتم.

وسواء أكان المطلوب جليلاً أم لا فإنه إذا سعى شخص إلى نيله من جاره بالقوة أو بالتهديد بالقوة لا بالاتفاق الودي، فإن الأمر في الواقع يكون هل سنصبح أحراراً أم عبيداً)

وأقول لكم بالمثل: (لنعمل على منوال يفهم منه مواطنونا والشعبان الإيطالي والألماني أننا لن ندخل الحرب مطلقاً من أجل أمر تافه ولكن يجب أن نكون مستعدين إلى أقصى درجة لقبول امتحان يقيننا، ولمقاومة التهديد والقوة وإنقاذ هذه القيم الأخلاقية التي تكوّن ثروة مدنيتنا والتي تعرف باسم التسامح والحرية والعدل)