مجلة الرسالة/العدد 315/حول الوحدة العربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 315/حول الوحدة العربية

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 07 - 1939



إلى الدكتور طه حسين

للأستاذ أبي خلدون ساطع الحصري بك

أيها الأستاذ:

لقد مضى نحو ستة أشهر على نشر الانتقادات التي وجهتها إليهم - في مجلة (الرسالة) - بمناسبة حديثكم المنشور في مجلة (المكشوف) البيروتية، حول (الوحدة العربية وموقف مصر منها)، وعلى نشر (الفصل الجوابي) الذي أرسلتموه إلى (الرسالة) رداً على تلك الانتقادات

لم أكتب إليكم شيئاً حول هذه القضية خلال هذه المدة لأسباب ستظهر لكم من الأسطر التالية، ومع هذا أشعر الآن بدافع قوي يدفعني إلى مخاطبتكم في هذه المسألة، بالرغم من مرور هذه الأشهر الطويلة، لمواصلة البحث فيها والمناقشة عليها

كنت غادرت بغداد إلى المغرب الأقصى قبل وصول عدد الرسالة الذي نشر فيه ردكم، فلم أطلع عليه إلا في بيروت قبل سفري منها بالطيارة. قرأت الرد هناك فوقعت في حيرة عميقة، لأنني انتهيت من قراءته دون أن أجد فيه كلمة واحدة يصح أن تعتبر رداً على ملاحظاتي الاعتراضية، أو جواباً على أسئلتي الانتقادية. . . لأن الآراء المسرودة في الفصل كانت تحوم حول قضية (وحدة الثقافة) و (واجب مصر في أمر هذه الوحدة) في حين أن هذه القضية لم تكن في القضايا التي اختلفت معكم فيها، بل كانت في القضايا التي شكرتكم عليها! فإنني ختمت مقالتي الانتقادية بالعبارات التالية:

(هذا، وأرى ألا أختم اعتراضاتي، دون أن أتوجه إليكم بكلمة شكر؛ فإني أشكركم من صميم فؤادي على مناداتكم بتوحيد الثقافة بين البلاد العربية، لأنني أعتقد أن توحيد الثقافة من أهم العوامل التي تهيئ سائر أنواع التوحيد. فأقول بلا تردد: اضمنوا لي وحدة الثقافة، وأنا أضمن لكم كل ما بقى من ضروب الوحدة. . .)

فكان من الطبيعي أن أقع في دهشة عميقة من قراءة الفصل الذي نشرتموه في الرسالة تحت عنوان (الرد)

وأخذت أفكر - وأنا أقطع الفضاء فوق أجواء البحر الأبيض المتوسط - في تعليل الخط التي انتهجتموها في هذا الباب: (كيف سوغ الدكتور طه حسين لنفسه أن يسمى هذا الفصل ردا؟)

قلت في بادئ الأمر: يظهر أن الأستاذ قد شعر بالخطأ الذي وقع فيه فلم يجد مجالاً للرد على الانتقادات التي وجهت إليه، ولم يرد مع هذا أن يعترف بذلك، فأراد أن يتظاهر بالرد بنشر فصل لا علاقة له بموضوع الانتقاد والاعتراض

غير أنني لم أرتح لهذا التفسير والتعليل، لأنني استبعدت منكم أن تسلكوا مثل هذا المسلك في مناقشة قضية هامة مثل قضية الوحدة العربية، فواصلت التفكير في الأمر إلى أن خطر على بالى تعليل آخر أقرب إلى العقل من التعليل الأول. يقول الدكتور طه حسين: إن الرد هو فصل من كتاب تحت الطبع؛ أفليس من الممكن أن يكون قد حدث سهو في نقل الفصل من الكتاب؟ قد يكون في الكتاب فصل يتضمن الرد؛ غير أن الدكتور قد سها في رقم الفصل؛ فالمطبعة أرسلت إلى (الرسالة) فصلاً آخر غير الفصل المقصود

عندما لمحت هذا الاحتمال، ركنت إليه كل الركون وقلت في نفسي: قد ينشر الدكتور في العدد التالي من الرسالة تصحيحاً لما حدث؛ غير أن سفراتي السريعة سوف لا تترك لي مجالاً للاطلاع على ذلك قبل عودتي إلى بغداد. . فلابد لي من الانتظار إلى ذلك الحين للوقوف على التصحيح، أو لقراء الكتاب

ولهذا السبب، عندما عدت إلى بغداد بعد إتمام رحلتي في المغرب الأقصى والجزائر وتونس وصقلية - أسرعت إلى تصفح أعداد الرسالة التي صدرت في غيابي؛ ولما لم أجد فيها شيئاً يتعلق بالموضوع الذي نحن بصدده، طلبت نسخة من كتاب (مستقبل الثقافة في مصر)؛ وأخذت أقرأ بانتباه شديد باحثاً فيه عن (الرد). . . غير أنني وقعت في دهشة أشد من دهشتي الأولى عندما انتهيت من قراءة فصول الكتاب بأجمعها، دون أن أصادف فيها أيضاً ما يصح أن يعتبر جواباً على أحد أسئلتي الانتقادية. . . فقلت في نفسي: لم يبق مجال لتعليل الأمر بغير الملاحظة التي كانت وردت على ذهني عقب مطالعة الرد المنشور في مجلة الرسالة

مع هذا لم أشأ أن أكتب شيئاً حول هذا الموضوع، للملاحظتين التاليتين: أولاً، كان قد مضى على نشر ردكم مدة تناهز ثلاثة أشهر بسبب ظروف رحلتي. ثانياً، إن (تباعد الرد عن موضوع البحث والمناقشة) كان من الأمور الجلية التي لا تحتاج إلى التوضيح والتنبيه؛ كما ظهر لي ذلك من أقوال الشبان الذين حادثتهم خلال رحلتي في باريس، وتونس، وسورية

فقلت في نفسي: لا داعي إلى كتابة شئ في هذا الموضوع بعد انقضاء هذه المدة، ما دام رد الدكتور طه حسين لم يكن من النوع الذي يستطيع أن يخدع أحداً من القراء الأذكياء

ولذلك لم أعد إلى هذا البحث منذ ذلك الحين

غير أنني اطلعت أخيراً على مقالكم المنشور في العدد الممتاز من مجلة الهلال، عن (العقل العربي الحديث). ورأيت أنكم عرضتم في ذلك المقال لمسألة (الوحدة العربية) بطرق ملتوية: بعد أن سردتم بعض الآراء حول (تطور العقل البشري) بوجه عام، وتطور (العقل الأدبي الحديث) بوجه خاص، بحثتم عن وجوب (تجديد العقل العربي)، وذكرتم ما تعتقدونه في وسائل هذا التجديد. . . وفي الأخير، انتقلتم إلى مسألة (الوحدة العربية) بطريقة (ظريفة وطريفة) إذ قلتم ما يلي:

(وربما كان من الأمثلة الظريفة الطريفة التي تبين الفرق بين العقل العربي القديم، والعقل العربي الحديث في هذا العصر الذي نعيش فيه، مسألة الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية التي يكثر فيها الكلام وتشتد فيها الخصومة؛ فما أظن أن الناس يختلفون في أن هذه الوحدة نافعة للشعوب العربية وللشعوب الإسلامية أشد النفع، وفي أن مصالحهم تدعوهم إليها وتدفعهم إليها دفعاً، ولكنهم مع ذلك يختلفون ويختصمون لا لشيء إلا لأنهم يختلفون في تصور هذه الوحدة حسب ما يتاح لهم من العقل القديم أو العقل الحديث. فأما أصحاب القديم فيفهمون هذه الوحدة كما فهمها القدماء في ظل سلطان عام شامل يبسط عليها جناحيه ويحوطها بقوته وبأسه، وليسمَّ هذا السلطان خلافة، وليسمَّ ملكاً كما كان يسمى قديماً، ويجوز أن يسمى إمبراطورية ليكون له حظ من الطرافة، فقد عرف القدماء الإمبراطوريات واحتفظ بها المحدثون من الأوربيين. وكذلك يخدع العقل القديم نفسه فيظن أنه أصبح حديثاً. وأما أصحاب العقل الحديث فيفهمون هذه الوحدة على نحو ما تفهم عليه في البلاد المحتضرة بالحضارات الحديثة الأوربية. يفهمونها على أنها لا تنفع ولا تفيد إلا إذا احتفظت بالقوميات والشخصيات الوطنية والحريات الكاملة لأعضائها والسيادة العامة لهم في حياتهم الداخلية والخارجية وقامت على الحلف الذي لا يفنى أمة في أمة، ولا يخضع شعباً، وإنما يمكن الأمم من أن تتعاون على أساس ما يكون بين الأنداد من المساواة. فإذا قال صاحب العقل الحديث مقالته هذه ضاق به صاحب العقل القديم أشد الضيق، لأن عقله لم يتطور بعد، ولم يستطيع أن يكون من أهل العصر الذي يعيش فيه، وإنما هو محتفظ بكل مشخصات القرون الوسطى، وهيهات لمشخصات القرون الوسطى أن تسيغ ما يقع في القرن العشرين. . .)

يظهر لي من كلماتكم هذه أنكم بعد أن تهربتم من مناقشة مسألة الوحدة العربية مناقشة مباشرة - حين دُعيتم إليها - أردتم أن تعودوا إليها عن طريق التعريض والتلويح، كما وددتم أن تستهووا أذهان قرائكم عن طريق اتهام معارضيكم بالتمسك بـ (مشخصات القرون الوسطى)، وإلباس رأيكم حلة قشيبة من (مقتضيات العقل العربي الحديث).

فاسمحوا لي إذن أن أتبعكم في هذه الطرق الملتوية، وأن أزن ملاحظاتكم بميزان (العقل العربي الحديث) الذي تشيرون إليه.

لا أدري إذا كان الانصراف عن مناقشة المسائل مناقشة مباشرة، والالتجاء إلى طرق (التعريض والتشويش) في أمرها مما يفيد - في عرفكم - في مقتضيات العقل الحديث. غير أنني أعتقد أنكم تسلمون معي - على كل حال - بأن العقل العربي الحديث يجب أن يكون على غرار العقل الأوربي الحديث، ولا تنكرون - بالطبع - أن (العقل الأوربي الحديث) يتطلب السير على مناحي الأبحاث العلمية، على أساس استنطاق الوقائع والحادثات واستقرائها متجرداً عن تأثيرات الميول النفسانية والآراء القبلانية. . .

فلننعم النظر في الملاحظات التي نقلتها آنفاً عن مقالكم لنرى مبلغ ملاءمتها لمقتضيات (العقل العربي الحديث) الذي تدعون إليه:

أولاً، إنكم تبحثون في كلامكم هذا عن الوحدة العربية والوحدة الإسلامية كأنهما مسألة واحدة، في حين أن إحداهما تختلف عن الأخرى اختلافاً كلياً. فإن فكرة (الوحدة العربية) ترمي إلى توحيد الشعوب التي تتكلم بلغة واحدة، في حين أن فكرة (الوحدة الإسلامية) ترمى إلى توحيد الأمم التي تتكلم بلغات مختلفة، بالرغم من تدينها بدين واحد؛ فالبون بينهما شاسع جداً، فإن الدعوة إلى (الوحدة العربية) لا تتضمن الدعوة إلى الوحدة الإسلامية الشاملة؛ كما أن عدم الإيمان بإمكان تحقيق (الوحدة الإسلامية) لا يستلزم إنكار إمكان تحقيق (الوحدة العربية). ولذلك أقول بلا تردد إن خلط هاتين المسألتين، والنظر إليهما بنظرة واحدة، يخالف أبسط حقائق علم الاجتماع، وأبرز وقائع تاريخ السياسة، ولا يتفق مع الحقائق الراهنة بوجه من الوجوه

ومن الغريب أنكم لا تكتفون بالخلط بين هاتين المسألتين، بل تحشرون بينهما مسألة الخلافة أيضاً بصورة غريبة، وتنظرون إلى هذه المسائل كلها بنظرة واحدة. لقد تعودنا أن نرى آثار مثل هذا الخلط، في كتابات بعض الساسة من الأوربيين المستعمرين، لأنهم ينظرون - عادة - إلى هذه المسألة كلها من وجهة نظر أطماعهم الاستعمارية، ويسعون إلى وصم جميع الحركات القومية والوطنية بوصمة (التعصب الديني) ليثيروا الرأي العام الأوربي عليها. . . غير أننا ما كنا ننتظر منكم أن تقتفوا أثر هؤلاء الساسة من حيث لا تشعرون، وأن تخلطوا بين هذه المسائل بهذا الشكل الغريب.

فأرى من واجبي أن أصرح لكم في هذا المقام، بأنني مع عدد كبير من المفكرين القوميين الذين أعرفهم وأتصل بهم على الدوام أنظر إلى قضية (الوحدة العربية) كقضية مستقلة عن قضايا (الوحدة الإسلامية) و (الخلافة الإسلامية) كل الاستقلال. وأؤكد لكم أنني - بقدر ما أومن بفكرة العروبة، وبقدر ما أعتقد بإمكان الوحدة العربية، وبقدر ما أقول بوجوب السعي وراء تحقيقها - أعتقد باستحالة (الوحدة الإسلامية)؛ وأقول إن (إثارة فكرة الخلافة) مضرة بـ (قضية الوحدة العربية) و (فكرة التضامن الإسلامي) في وقت واحد

هذا ومن جهة أخرى ألاحظ أنكم تسلمون - في مقالكم هذا - بأن (الوحدة) نافعة لـ (الشعوب العربية والإسلامية) أشد النفع؛ وتقولون بأن الناس لا يختلفون في منافع هذه الوحدة، إنما يختلفون في (تصورها حسب ما يتاح لهم من العقل القديم والعقل الحديث). . . كما تصفون لنا نوعي هذا التصور وصفاً بارعاً: بالنوع الذي يقول به (صاحب العقل القديم)، وهو الذي (يتصور الوحدة تحت ظل سلطان شامل)؛ والنوع الذي يقول به (صاحب العقل الحديث)، وهو الذي يتصور الوحدة على أساس ما يكون بين الأنداد من المساواة. . .)

أنا لا أود أن أبحث عن مبلغ مطابقة وصفكم هذا للحقائق الراهنة؛ غير أني أرى من الضروري أن أقول لكم في هذا المقام إنني قد اطلعت - قبل مدة - على رأى في (الوحدة العربية) يختلف عن هذين الرأيين في وقت واحد: فإن صاحب ذلك الرأي، كان لا يقبل (الوحدة)، (ولو كانت على أساس المساواة)، ولا يرضي بالوحدة، (ولو كانت على نمط اتحاد يشابه الاتحاد الأمريكي أو السويسري). . . فهل تسمحون لي أن أسألكم: أتعتبرون موقع هذا الرأي في العقل القديم أم العقل الحديث؟

لا أشك في أنكم لن تطلبوا مني أن أذكر لكم اسم صاحب هذا الرأي؛ غير أني أظنكم سوف تعذرونني إذا ذكرت ذلك تنويراً للقراء:

إن صاحب هذا الرأي - الذي يخالف مقال صاحب العقل القديم ومقال صاحب العقل الحديث في وقت واحد - هو صاحب (الحديث) المنشور في مجلة (المكشوف)!. . . ذلك الحديث الذي كان مبدأ ومنشأ لجميع هذه المناقشات!

فقد قرأت في ذلك الحديث، العبارة التالية، بحروفها:

(مصر لن تدخل في وحدة عربية، حتى ولا اتحاد عربي، سواء أكانت مساوية فيه للأمم العربية الأخرى أو مسيطرة عليها. . .) (المكشوف - العدد: 175 - الدكتور طه حسين يتحدث عن العروبة. .)

كما قرأت في مكان آخر من ذلك الحديث العبارة التالية، بنصها:

(الوحدة العربية، كما يفهمها ذووها يجب أن تتحقق بشكل إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري)

(المكشوف - العدد: 175 - الدكتور طه حسين يتحدث عن العروبة. . .)

ترون من كل ذلك أيها الأستاذ أن مسألة الوحدة العربية ليست من القضايا التي يمكن أن تناقش وتعالج بالصناعة الكلامية والاندفاعات الارتجالية. . . كما ترون أن الخطة التي سلكتموها في معالجة هذه القضية تجركم دائماُ ً إلى مواقف تخالفون فيها الحقائق الراهنة مخالفة صريحة، كما جرّتكم في بعض الأحيان إلى مواقف تناقضون فيها أحاديثكم الذاتية أيضاً. . .

إنكم تدعون المفكرين إلى بذل الجهود في سبيل (تجديد العقل العربي). . . وكم كنت أود أن أراكم تعملون بهذه الدعوة في المناقشات التي تخوضون فيها، ولا سيما إذا كان موضوع المناقشة من الموضوعات الهامة مثل (فكر العروبة) و (الوحدة العربية). . .

(برمانا)

أبو خلدون