مجلة الرسالة/العدد 315/القصص
مجلة الرسالة/العدد 315/القصص
من الأدب الرمزي
ورقة من السماء
للقصصي الدانمركي أندرسن
بقلم السيد عارف قياسة
في أوج السماء الرفيع، في الهواء النقي الندي، طار ملاك بزهرة من رياض الفردوس. ولما لثمها أسقط ورقة منها على الثرى وسط الغابة، فما لبثت أن اتخذت جذوراً، ونمت وترعرعت بين الحشائش الأخرى. ولكن أنواع النبات لم تشأ أن تعترف بأنها واحدة منها. . . فكانت تقول: (ما أغرب هذا الغرس. .!) وكان الحَسَك والقُرَّاص أول من رقص على ثغره الهزء، ولمع في عينيه السخر. كان الحسك يقول باحتقار: (من أين أتى هذا. . .؟ هذه بذرة ضئيلة من البقول لم نر أسرع منها نمواً. . . أمن اللائق ذلك. .؟ وهل يدور في خلدها أنا نسندها حين تلويها كف الهواء. . .؟)
وجاء الشتاء، وغمر الثلج محيا البسيطة، ونفض الغرس السماوي على الثلج بهاء رائعاً، ورواء ناصعاً، كأن شعاعاً زاهياً من الشمس رقص تحت حواشيه، فأنارها بفيض من لألائه. . .
وأتى الربيع الضحوك، وحمل الغرس زهرة ما رأت العين أنصع منها بهجة، ولا أبرع فتوناً. . .
وسمع عنها أستاذ علم النبات الذائع الصيت في البلاد، فخف إليها وشهادته الرفيعة تشهد بعلمه الجم واطلاعه الرحيب ومعرفته الغزيرة. وتأمل الغرس بإعجاب، وحلله وذاق من أوراقه
لم يكن ليشبه ما أبصرته عيناه من أعاشيب؛ وما كان في مقدوره أن يرده إلى فصيلته أو نوعه. فلم يتمالك أخيراً أن قال: (هو غرس هجين. . . هو نبات فذ غريب؛ ذلك لا يطَّرد على قاعدة، ولا يجري على قياس). وردد الحَسَك والقُرَّاص: (ذلك لا يطَّرد على قاعدة، ولا يجري على قياس). ورأت الأشجار الفارعة الغليظة وسمعت ما كان، فلم تفه بخير و شر، وذلك عين الحكمة حين ترين الغباوة على الأذهان
. . . ودلفت إلى الغابة فتاة فقيرة، عفة الضمير، طاهرة الأذيال، نقية الفؤاد، عامرة القلب بالإيمان، لا تملك من دنياها غير إنجيل عتيق يخيل إليها أن الله يحدثها من خلاله. علمت منه شرور الناس، وخبثهم السافل، ولكنها عرفت أيضاً أن علينا - حين نتلقى جورهم وعذابهم، ونقاسي سخطهم وسخريتهم - أن نذكر يسوع الطاهر، وأن يكون لنا فيه أسوة حسنة، وأن نردد معه قوله: (اللهم اغفر لهم، فإنهم لا يعلمون ما يصنعون)
ووقفت الفتاة أمام الغرس العجيب، وقد كانت زهرته تضمخ الهواء بأريج عذب لذيذ يترقرق في الأرواح، وتمض في الشمس كطاقة من النيران الصناعية
وعندما دغدغ النسيم أوراقها رنت في أذنها ألحان علوية، وأنغام سماوية
وظلت الفتاة في نشوة من اللذة، وغمرة من الذهول البهيج أمام هذه الأعجوبة. ومالت برأسها نحو الغرس. . . لتتأمله عن كثب. . . وتنشق أنفاسه الندية العطرة. . .
وشعرت بقلبها ينتعش ويتفتح. . . وبذهنها يستضيء بنور الحكمة الإلهية. ومدت يدها، وقطفت الزهرة، وفؤادها خافق بالسرور. ولكنها فكرت في أن في ذلك بعض السوء، وأن نضرت الزهرة ستذوى، وجمالها سيمَّحى. فلم تأخذ غير وريقة خضراء وضعتها بين إنجيلها، حيث ظلت رفافة الطراوة، بديعة الاخضرار
وتعاقبت الأسابيع، ووضع الإنجيل والورقة تحت رأس الفتاة في تابوتها
واستراحت الفتاة فيه بسكون، وفي قسمات محياها البديع الوديع تلوح سعادة خلاصها من الغبار الأرضي، ودنوها من الخالق
وفي أثناء ذلك طفق الغرس ينمو ويزهر، والعصافير العابرة تنحني أمامه بتجلة واحترام
وهمس الحسك والقرامي: (انظروا جيداً هذا الأجنبي. . . وهل يدرون لماذا يسفحون عبرة أعينهم ويريقون ماء أوجههم؟ أبداً لا نحذو حذوهم الغبي)
حتى دويبات الغابة السمجة، فقد كانت تبصق أمام الغرس الساقط من أوج السماء.
واقتلع راعي الخنازير، وهو يضم حِزم العوسج ليشعل ناره، عُلَّيْقاً وحسكاً وقُرّاصاً، وكذلك الغرس الوسيم بجذوره وقال في نفسه: (كل ذلك لا يصلح لغير طهي الطعام.)
وكان ملك البلاد تغشي روحه كآبة سوداء، ما كان شيء ليقشع دياجيرها، ويبدد ظلماتها فانطلق يلهو منهمكاً في مشاغل شعبه، ومطالعات آيات العباقرة المؤلفين، ثم آثار الكتاب التافهة الهزيلة. وما أجدى ذلك ولا عاد عليه بطائل.
حينذاك أحضر أحكم من في الكون، فأجاب أن لديه وسيلة لشفاء الملك وتنفيس كربه! ذلك أن يأتيه بزهرة سماوية نبتت في غابة من مملكته. وطفق يعرض أوصافها، ويسرد خصائصها. وعرف الغرس الذي أثار حب الاطلاع منذ هنيهة.
وقال الراعي في نفسه: (لقد اقتلعته وايم الحق منذ أمد بعيد، ولم يبق منه هشيم. وإلى هذا يقود الجهل)
وخجل الراعي من نفسه واحترس من أن يميط اللثام عما صنعت يداه. واختفى الغرس، ولم يبق منه غير ورقة ترف على رأس الفتاة الراقدة في قبرها، ولكن أحداً لا يعلم بذلك.
وجاء الملك بنفسه إلى الغابة ليتحقق من زوال الغرس. وقال: (هنا إذن قد ترعرع الغرس، فسيقدس المكان منذ الآن)
وأحاط المكان بسياج من الذهب، ووضع حراساً عليه. وكتب أستاذ علم النبات النابه عن صفات الغرس الإلهي بحثاً مطولاً بين فيه كل ما فقد بفقده. وغمر المليك بالذهب كل صفحة من صفحات المؤلف. ولكن المليك ما يزال محزون القلب ولم يجد لشجنه دواء، والحراس المساكين كان يلوي الألم بأفئدتهم في الغابة. . .
(حماه - سوريا)
عارف قياسة