مجلة الرسالة/العدد 314/كتاب في (الدين الإسلامي)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 314/كتاب في (الدين الإسلامي)

مجلة الرسالة - العدد 314
كتاب في (الدين الإسلامي)
ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1939



للأستاذ علي الطنطاوي

كان الأعرابي الجلف الجافي، يقعد بين يدي النبي ساعة من الزمان يستمع فيها إليه، فلا يقوم إلا وقد فهم الإسلام وعرفه، وصار من المبشرين به والداعين إليه. وكان يصحب النبي أياماً فلا تنقضي حتى يغدو عالماً، يبعثه النبي إلى قومه معلماً ومرشداً، فيعرفهم الحدود، ويبيَّن لهم الحلال من الحرام. . .

كان هذا يوم لم يكن تدوين، ولم تصنف المصنفات، ولم تجمع الأحاديث. . . وهانحن أولاء نملك أكثر من مائة ألف كتاب ورسالة في التفسير والحديث والفقه والأصول والتصوف والسيرة والخلاف وكل ما يخطر على بال باحث من المسائل المتصلة بالإسلام، ولكنا لا نجد فيها كتاباً واحداً لخص الإسلام كله تلخيصاً وافياً، وعرضه عرضاً واضحاً، يقرؤه الشاب فيفهم، فيفهم فيه الدين كله كفهم الوافدين على النبي الدين، حين دخلوا فيه أفواجاً. . .

ولقد أحسست بهذا النقص منذ ابتداء عهدي بالطلب، وعرضت له في رسائل (في سبيل الإصلاح) التي نشرتها في دمشق (أثر عودتي من مصر سنة 1929). بيد أني لم أعرف خطره إلا أمس، حين درست الدين في مدارس العراق، وشرحت للطلاب مزاياه، وكشفت لهم عن عظمته، فكانوا يتشوقون إلى زيادة الاطلاع، ويرغبون في متابعة الدرس. فيسألونني عن الكتاب الذي يجدون فيه خلاصة الدين، كما يجدون خلاصة الطبيعة أو الهندسة في كتاب واحد، فأفكر فيه فلا أجده، ولا أجد إلا علوماً كثيرة من كلام وفقه وحديث وتفسير فيها آلاف من الكتب، يعتدها المؤرخون أثمن تراث للعقل البشري وأغناه، ولكنها أصبحت اليوم بالية الأسلوب، قديمة الطراز، كحلية من الذهب، ما نقص الذهب ولا خاس، ولكن أنكر الشكل وتغيرت الأذواق، والصائغ الماهر يحول الحلية من حال إلى حال. . . وكنت أخاف أن ينصرف الطلاب عن دراسة الإسلام، وتموت في نفوسهم الرغبة فيه، إذا أنا دللتهم عليها وأردتهم على قراءتها. وليت شعري أأقول للطالب الذي تدع له دروسه الكثيرة، إلا بقية من وقت، آثر أن يشغلها بدراسة الدين عن أن ينفقها في حق نفسه وراحتها، أأقول له، إنك لا تفهم الإسلام حتى تقرأ (النسفية) و (السنوسية) وأشباهه وتدخل في كل باب من أبواب الفلسفة الفارغة. . . والجدل العقيم. . . وتدور مع المذاهب الباطلة والرد عليها، والآراء الخاطئة ودفعها، وتحفظ كفر أقوام انقرضوا وانقطع دابرهم، كل ذلك لتفهم التوحيد الذي جاء به النبي صلى الله عليه واضحاً سهلاً لا فلسفة فيه ولا جدال. . . وتقرأ (الطخطاوي) والشرنبلاني أو (الباجوري) أو غيرهما من كتب الفروع، وتملأ الرأس منك فروضاً مستحيلة، واحتمالات بعيدة، تتخلل الأحكام، وتجئ مع قوانين الشريعة، كل ذلك لتعرف كيف تصلي وتصوم، وقد كان البدوي يتعلم الصلاة والصيام في ساعة واحدة ويؤديها من بعدها على وجه الكمال. . . وتقرأ (شروح النار) أو (جمع الجوامع (وتكسر دماغك في كلام هو (والله العظيم) أشبه بالطلاسم والأحاجي منه بالعلم وأسلوبه المبين، لتفهم أصول الفقه، والأصول في هذا الدين ثابتة ثبوت الجبال، واضحة وضوح الشمس، مستقيمة كخيوط النور لا عوج فيها ولا التواء، ولا غموض ولا إبهام. . . وتقرأ (النخبة) أو (مقدمة ابن الصلاح) لتفهم مصطلح الحديث، وتقرأ بعد ذلك شيئاً كثيراً. . . ثم لا تنجو بعده من أن يتهمك الحشويون بأنك وهابي، والسلفيون بأنك قبوري، ولن تعدم من يتبرع بتكفيرك من أجل بحث في كرامات الأولياء، أو كلام في السفور، أو رأي في ابن عربي. . . فأين الشاب المشغول بدروسه المتهيئ لفحصه من هذا الخضم الذي يغرق فيه لو خاضه؟ أو لا يعذر الشبان إذا لم يقدروا على درس الدين في كتبه، ولم يجدوا من يفهم عنهم أو يفهمون عنه من علمائه، فآثروا السلامة، وابتغوا من العلوم والدراسات ماله كتب مفهومة، وخلاصات واضحة؟

أحسست بهذا النقص البين، فكتبت في وصفه وخطبت مراراً وسألت من توسمت فيه من العلماء سده وإكماله، فوجدت من (علمائنا) والجمهور منهم لا يحسن شيئاً إلا إقراء الكتب التي كان قرأها على مشايخه من قبل، وشرحها كما شرحت له، فإن خرجت به عن الحواشي والشروح، عاد عاميَّاً لا يكاد يصلح لشيء , ووجدت أكثرهم بعيداً عن الأدب ليس من أهل البيان، ومنهم من لا يزال يظن (جهلاً) أن الإسلام كره الشعر وحرمه ويحتج بحديث: لأن يمتلئ جوف أحدكم. . . ولقد ثبت أن الذي يروونه جزء من الحديث رواية ويل للمصلين. ومن ابتعد عن الأدب، ولم يتمرس بأساليب البلغاء، لم يأت منه خير لأن علمه يقتصر عليه، فلا يقدر على بثه بقلم ولا بلسان. . . ووجدت أكثر (علمائنا) يعيش في دنيا أهل القرن التاسع، ويفكر بعقولهم. ومنهم من شغله منصب يحرص عليه، أو مال يبالغ في جمعه وادخاره؛ ومنهم من أخلد إلى الراحة، وابتغى الجاه والغنى من شر الطرق وأقصرها، فمخرق على العامة وأظهر الورع فيهم والتواجد. فإن قلت له: صباح الخير، أو سألته عن مسألة. . . أجابك بـ (لا إله إلا الله) أو بالحوقلة والاستغفار، يقلب سبحته في يده، ويغمض عينيه، ويصمت حيناً خاشعاً مراقباً، ثم يصرخ في وجهك صرخة من أفلت من (العصفورية) أو (العباسية). ورأيت من هؤلاء من العجائب ما لو قصصته لخفت أن أكذب فيه لغرابته. . . فأيست منهم أو كدت، ودفعني هذا اليأس إلى محاولة الكتابة في هذا الموضوع، على قصر يدي فيه، وقلة بضاعتي، وأعددت (في نفسي) أكثر مباحثه، ثم رأيت أن أفتح هذا الباب في الرسالة (بإذن الأستاذ الزيات) لكل من أراد أن يكتب فيه وارتضي الأستاذ ما كتب، ورجوت أن يقبل على الكتابة العلماء والباحثون، ينشئ كل منهم فصلاً من الكتاب ينشر اليوم في الرسالة. ثم إذا اجتمعت الفصول ونقحها أصحابها وأعادوا النظر فيها أودعت صفحات كتاب يبقى إن شاء الله وينتفع به الناس. . . ولعل الذي يمنع تحقيق هذا الرجاء أن أكثر من يكتب من الشباب ويملك الأسلوب المشرق المبين لا اطلاع له على كتب الدين، ولا إلمام له بها. وأكثر العلماء (كما قدمت القول) غير مشتغلين بالكتابة. وعلاج ذلك أن يشترك في البحث عالم مطلع، وأديب كاتب، فيمشي الشاب الذي يحسن الكتابة إلى عالم يدلّه على المراجع، ويبيَن له الأحكام، وينشئ هو الفصل بعد ذلك، فيجتمع له فوائد، منها أن البحث قد كتب وتم، ومنها أنه اطلع على نواحٍ من العلم جديدة، ومنها أنه ألف هذه الكتب القديمة وعرف أسلوبها. . .

ولنأت الآن إلى الموضوعات التي ينبغي أن يشتمل عليها الكتاب، ما هي وما حدودها. ولست أحب أن أحددها وحدي بل أبين المراد إجمالاً. والمراد أن يلخص الدين الإسلامي في كتاب يضم بين دفتيه الإسلام الذي جاء به النبي محمد خالياً من الحشو والزيادات والبدع والخلافات، يقرؤه الشاب المسلم الذي لا يعرف الدين، فلا يحتاج بعده إلى شيء، ويقرؤه العامّي فيفهم منه دينه، ويقرؤه الغربي (مترجماً) فيحصل له عن الإسلام فكرة واضحة صحيحة

وإذا كان المسلم الكامل هو الذي أخذ الإسلام علماً وعملاً واعتقاداً؛ وإذا كان حديث جبريل المعروف قد قسم الدين إلى إيمان وإسلام وإحسان، وشرح الأول بأنه التصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وشرح الثاني بأنه النطق بالشهادة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، وفسر الإحسان بأنه عبادتك الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإن من المستطاع تحديد موضوعات كتاب (الدين الإسلامي) بأنها:

الإيمان وما يتصل به - الإيمان بالله (التوحيد) - الإيمان بالملائكة والجن والشياطين - الإيمان بالكتب - القرآن، وما يتصل به من نزول، وجمع وإعجاز - الرسالة والرسل - حياة النبي محمد ورسالته - اليوم الآخر - القضاء والقدر - الصلاة: حكمتها وفائدتها وكيفيتها وبيان المتفق عليه من أحكامها - الصوم - الزكاة - الحج - الأخلاق الشخصية في الإسلام - الأخلاق الاجتماعية في الإسلام - الإسلام من الناحية التشريعية - الإسلام من الناحية السياسية - فكرة عامة عن العلوم الإسلامية - المذاهب الأربعة والكلام عليها الخ. . .

هذه هي المباحث المهمة، وأهم منها أن تكتب بأسلوب لا هو بالأسلوب العلمي الجامد، ولا هو بالأسلوب القصصي الخيالي، وأن تكون تعليمية قبل أن تكون علمية، وأن ترتفع عن كل خلاف أحدثه المتأخر ون، وتعود إلى المنبع الصافي الذي استقى منه المصدر الأول خير القرون.

هذا وفي الموضوع مجال للإيضاح والنقد والتعديل، ولعل صفحات الرسالة لا تخلو من ذلك.

(دمشق)

علي الطنطاوي