مجلة الرسالة/العدد 314/د. هـ. لورنس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 314/د. هـ. لورنس

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 07 - 1939



للأستاذ عبد الحميد حمدي

2 - ترجمة حياته

كان الأبوان على طرفي نقيض. ولقد كان لذلك كل الأثر على حياة لورنس الأولى وبعضه على الجزء الثاني منها، فضلاً عن أن هذا الاختلاف هو الذي طبع أولى كتبه بطابع خاص

فبينما كان الأب لا يكاد يجيد القراءة والكتابة إذا بالأم وقد نالت حظاً وافراً من التعليم. وبينما كان الأب يعمل كعامل بسيط في أحد المناجم إذا بالأم تنحدر من سلالة أسرة عريقة في المجد والنبل. ولكن كان الأب وسيم الشكل تبدو عليه كل إمارات الرجولة. يفخر دائماً أن الموسى لم تمس لحيته في يوم من الأيام. وكان هذا مما جذب الأم وأوقعها في حب الأب برغم ما بين طبقتيهما من فوارق. وكان كل منهما يرى في هذه الزيجة ما لا يراه الآخر، فكانت للأب وسيلة حصل بها على زوجة شابة فتانة. أما الأم فكانت ترى فيها سبباً في زجها في بيئة لم تتعودها أو تألفها طول حياتها. وكانت نظرتاهما إلى مستقبل أولادهما أبعد ما تكون عن الاتفاق، فاقترح الأب أن يذهب الأولاد إلى العمل في المناجم بينما تخدم البنات في البيوت، وهذا ما حاربته الأم بكل قواها، لأنها كانت تربأ أن يعيش الأولاد عيشة أبيهم أو أن تحيا البنات حياة أمهن البائسة

ظل هذا النضال قائماً بين الأب والأم حتى أتت الأطفال فأولتهم الأم كل عنايتها وصاروا سلوتها الوحيدة فعاشت لهم ومن أجلهم. أما الأب فقد شعر أن عاطفة زوجته كانت منصبة على الأطفال دونه، فصار لا يرتاح إلى البقاء طويلاً في المنزل، وأصبح يفضل عليه المقاهي والحانات حيث يجتمع بمن هم على شاكلته وبمن يفهمهم ويفهمونه حتى أتى الوقت الذي صارت له فيه الحانة منزلاً ثانياً. كانت زوجته تعد له طعامه وتنتظر الساعات الطوال حتى يحضر قبيل طلوع الفجر وهو ثمل لا يكاد يعي كلمة مما يقول، حتى إذا عاتبته أو أنبتته بكلمة أو عبارة انقلب وحشاً ضارباً وعاملها بمنتهى القسوة حتى إنه لم يتورع مرة أن قذفها بأحد الأدراج فشج رأسها

كان (أرنست) أول أطفالها وقد صوره لورنس صورة ناطقة في روايته (الأبناء والمحبون) تحت اسم ويليام. كان متفوقاً على كل إخوانه في المدرسة وكان لا يضيع دقيقة من وقته، فكان يدرس اللغات في بعض المدارس الليلية في أوقات فراغه، وبهذه الطريقة حصل على وظيفة رفيعة في إحدى شركات الملاحة بلندن. وكان المستقبل يبدو أمامه زاهراً، حتى عالجته المنية وهو لا يزال في العقد الثاني من عمره، فكان موته ضربة قاضية على قلب الأم، حتى كانت ما تفتأ تكرر مقدار شوقها إلى ذلك اليوم الذي تموت فيه حتى تقابل أرنست

بعد أرنست أتت إميلي ثم أدا، وأخيراً دافيد هربرت لورنس في 11 سبتمبر سنة 1885. وكان في طفولته لا يميل إلى الألعاب التي كان يغرم بها من هم في سنه لأنها كانت من ابتكار غيره، وكان يفضل عليها الألعاب التي يبتكرها هو، لأنه ما كان يكره شيئاً قدر كراهيته للتقليد. ولما بلغ السادسة عشرة تعرف إلى عائلة تشمبرز حيث قابل حبيبته الأولى التي وصفها في كتابه (الأبناء والمحبون) تحت اسم ميريام. جذبته الفتاة بعينيها العسليتين الواسعتين، وشعرها الأسود المموج، وميلها إلى الرزانة والجد على خلاف بنات حيها، فضلاً عن أنها كانت توليه أذناً صاغية عندما يتكلم معها عن آرائه الغريبة. لذلك كانت زياراته لبيت حبيبتهٍ تزداد يوماً بعد يوم لدرجة أقلقت بال الأم وأقضت مضجعها حتى إنها لم تتمالك نفسها ذات يوم أن قالت له في تهكم وغيظ: إن الأولى به أن يجمع ملابسه ليقيم مع حبيبته دواماً

وعلى رغم أن لورنس لم يعترف لحبيبته بحبه لها في صراحة إلا أنه كثيراً ما كان يردد نظريته التي تقول: إن كل عظيم خلقته امرأة؛ وأنه كان يرى فيها المرأة التي سوف تخلق عظمته. ولكن كان لورنس حساس القلب إلى أقصى درجات الحساسية لم يفته ما عانته الأم المسكينة من زوجها القاسي فتعلق قلبه بأمه وفاض بحبها، وعلى العكس من ذلك كان شعوره تجاه أبيه. وقد بادلته أمه حباً بحب حتى تعوض ما فاتها من حب زوجها. ولقد كان هذا الحب هو علة لورنس الأولى وداؤه الذي ذاق من أجله الأمرين، ولكنه في الوقت نفسه كان سبباً في توجيه تفكيره إلى درس موضوع لم يسبقه إليه أحد. كان لورنس يشعر في قلبه بحبين ينازع أحدهما الآخر ويعمل على استئصاله، وكان كل منهما من القوة بحيث بات لورنس ضحيتهما ردحاً من الزمن. فهو يحب أمه، وفي الوقت نفسه يحب ميريام. ولما كان حبه لأمه هو أول حب طرق قلبه فقد كانت حاجته شديدة إلى امرأة تحبه حباً قوياً جارفاً يخلصه من الأغلال التي كان يرسف فيها، ولكن للأسف كان حب ميريام من ذلك النوع الروحي مما كان سبباً في تغلب الأم في النهاية.

وكانت ميريام قد أرسلت خمساً من قصائده إلى أحد الناشرين فنشرها له، وشجعه هذا على أن يرسل إليه أولى رواياته (الطاووس الأبيض) وقد ظهرت الرواية في يناير سنة 1911 أي بعد وفاة أمه بشهر واحد

وبموت أمه وفشل حبه ينتهي الجزء الأول من حياة لورنس وفي أحد أيام أبريل من عام 1912 قصد لورنس إلى منزل الأستاذ أرنست ويكلي كي يتوسط له لدى إحدى الجامعات الألمانية بغية الحصول على إحدى وظائف التدريس بها. وفي هذه المقابلة الأولى وقع لورنس في حب زوجة الأستاذ الألمانية. ولدهشته شعر أنها قد بادلته حباً بحب فكتب إليها يبثها غرامه ويطلب منها أن تطلع زوجها على ما بينهما فلم تتردد أن تفعل ذلك برغم شدة تعلق زوجها بها وبرغم أنها قد أنجبت منه ثلاثة أطفال

سافرت فريدا بعد ذلك مع لورنس إلى متز حيث قابل لورنس والدها البارون فون رتشتوفن حاكم الألزاس واللورين بعد الحرب البروسية، وكانت مقابلة جافة بين الأب الأرستقراطي وبين لورنس الذي ينحدر من طبقة الدهماء. بعد ذلك سافر لورنس وحده إلى أرض الرين. ثم قابلته هي في ميونيخ، وهناك تحت سفح جبال الألب وعلى ضفاف نهر الإيزر بدآ حياتهما معاً. ومن هناك ذهبا إلى بحيرة جاردا حيث نقح روايته (الأبناء والمحبون) ثم أرسلها إلى أحد الناشرين فردها هذا إليه ثانية بحجة أنها أقذر كتاب وقعت عين الناشر عليه. ومن غريب الأمر أن الرواية نفسها نالت تقريظ الكتّاب بعد نشرها وأجمعوا على أنها من أروع ما كتب في الأدب الإنجليزي. وفي هذا المكان كتب (الشفق في إيطاليا) وكذلك مجموعة من أشهر قصائده

وعادا إلى لندن دون أن يمكثا بها طويلاً. فذهبا إلى بافاريا حيث كتب لورنس قصة (الضابط البروسي) التي تنبأ فيها بالحرب العظمى مع أنه كتبها عام 1913

وفي الشتاء التالي ذهبا إلى إيطاليا حيث كتب روايته (قوس قزح) وأرسلها إلى جارنت - أحد الناشرين - فلم تصادف هوى في نفسه. فكان يأس لورنس لا يوصف، لأنه كان يعتقد أنه إنما يحاول أن يعلم الناس كيف يعيشون فكان ينتظر منهم الحمد والثناء فلم يجد سوى الجحود والنكران

وفي ربيع عام 1914 ذهبا إلى لندن حيث عقدا زواجهما وتعرفا هناك إلى الشاعر الشاب روبرت بروك الذي راح ضحية الحرب. وكان لورنس من أعدي أعداء الحرب لا يني عن مهاجمة مبدئها وإظهار سخطه عليها. وفي ذلك الوقت ظهرت روايته (قوس قزح) فقال الناس عن كاتبها إنه مجنون يشكو من عقدة جنسية، وأمرت الحكومة بمصادرة الكتاب وإحراق كل النسخ التي ظهرت منه، وحتى أصدقاؤه الذين كان ينتظر منهم أن يؤازروه في محنته ويقفوا إلى جواره انفضوا من حوله وانهالوا عليه نقداً وتجريحاً. عند ذلك أقسم لورنس أنه لن يكتب رواية أخرى بعد ذلك، وقد بر بقسمه خمس سنوات، وكان يعتقد أنه رجل سابق لعصره، يراه الناس بعيداً عنهم فيبدو في نظرهم صغير الجسم ضئيل الحجم، ولو أنهم أوسعوا خطاهم واقتربوا منه لرأوا فيه رجلاً أعظم منهم وأكبر حجماً

وذهب بعد ذلك إلى مقاطعة كورتوول يقضي بها سني الحرب، ولكن كانت زوجته الألمانية سبباً في خلق كثير من الصعاب في طريقهما فظن مواطنوه أنه يتجسس للألمان فكانوا يقتحمون منزله كل يوم ويقلبون أثاثه ويبعثرون أوراقه حتى يتأكدوا من حسن نياته. وحدث مرة أن كان عائداً مع زوجته وهو يحمل حقيبة على ظهره، فلم يكد يراه حرس السواحل حتى انقضوا عليه بحجة أنه يحمل آلة تصوير في الحقيبة، وتسابقوا إلى فتحها ولخيبتهم لم يجدوا بها سوى رغيف من الخبز. وكان لورنس يصبر على كل هذه المكاره على مضض حتى زاره ضابط في منزله ذات يوم وقرأ عليه أمراً حكومياً يقضي بأن يغادر مقاطعة كورتوول في بحر ثلاثة أيام على الأكثر. استشاط لورنس غضباً عند سماع هذا الاتهام الصريح في أعز شيء لديه، فهو الذي كان يفني نفسه حتى يرفع من شأن مواطنيه ويدلهم على طريق الحياة الصحيح ويعلمهم ما لا يعلمون، ثم يتهم في وطنيته وإنجليزيته، كانت هذه أقسى ما ناله من الطعنات

وصل لورنس إلى لندن إبان شن الغارات الألمانية الجوية عليها فكان جميع أهل لندن يلجئون إلى الأقبية والمخابئ فراراً من هذه الغارات، ما عدا لورنس الذي كان يرفض أن يترك فراشه أثناءها

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ذهب وزوجته إلى فلورنسه ومنها إلى جزيرة كابري حيث كتب مجموعة قصائده المسماة (الطيور والحيوان والزهور) وكتب كذلك روايته (الفتاة المفقودة) وأخيراً كتب الكتاب الذي لم يغير فيه حرفاً واحداً وهو (البحر وسردينيا)

ثم ذهبا بعد ذلك إلى استراليا واستقلا القطار من سدني على أن ينزلا في أية مدينة يروقهما منظرها من نافذة القطار. فنزلا في ثيرول حيث كتب روايته الشهيرة (القنغر) التي ضمنها كل آرائه في استراليا وما لاقاه في كورنوول من اضطهاد أثناء الحرب العظمى.

وهناك وصلته دعوة من مابل رودج للذهاب إلى تيوس في المكسيك كي يتعرف إلى الهنود الحمر الذين كثيراً ما كان يظهر إعجابه بهم. فلم يتردد في قبول الدعوة، وكان هناك بعد وقت قصير. ثم انقل من تيوس إلى مدينة المكسيك على أثر خلاف قام بينه وبين مابل رودج. وعلى بحيرة تشبالا كتب روايته الفلسفية (الثعبان ذو الريش) وفي الخريف التالي كتب (الصباح في المكسيك)

ثم اشتدت عليه وطأة المرض فجأة، ولما عاده الطبيب قرر أنه مريض بذات الرئة وفي الدرجة الثالثة. ولكن لم يمنعه هذا أن يكتب وهو مريض مسرحيته المسماة (داوود) وقصته الطويلة (المرأة التي رحلت)

وفي الصيف التالي عاد إلى أوربا واستأجر فيللا بالقرب من جنوا، وكان وهو في فلورنسا قد كتب رواية أسماها (عشيق لادي تشاترلي) ولكنه تركها مهملة في أحد أدراج مكتبه خشية أن تثير عليه ضجة من جديد، لأنه كان فيها صريحاً إلى أقصى حدود الصراحة. ثم قر رأيه أخيراً أن يخرجها إلى عالم الوجود. فأرسلها إلى أحد الناشرين فردها إليه مظهراً استهجانه لما جاء بها ثم أرسلها لورنس إلى آخر فرفضها هذا بشدة. وأخيراً لم ير لورنس بداً من أن يأخذها إلى مطبعة إيطالية لا يعرف صاحبها من الإنجليزية حرفاً واحداً. فوافق هذا على طبعها دون أن يدري مما يطبع كلمة واحدة. وظهر الكتاب عام 1928 ولكنه صودر لتوه. وفي العام التالي صودرت أيضاً مجموعة قصائد له. وزاد الطين بلة أن بلغه خبر مداهمة البوليس لمعرض صوره في لندن، وتحطيم جل صوره. فزادت وطأة المرض عليه ونقل إلى مصحة في فنس حيث التف حوله كل أصدقائه يبذلون قصارى جهدهم لإنقاذه، ومن بين هؤلاء الأصدقاء عائلة بروستر وهكسلي وإيدا رانه وهـ. ج. ويلز وأغا خان وزوجته. ثم نقلوه بعد ذلك إلى الفيللا على مقربة من المصحة، ولكن كان قد سبق السيف العذل، فما كاد يصل إلى هذه الفيلا حتى ساءت حاله وفاضت روحه إلى بارئها في يوم الثاني من شهر مارس سنة 1930

(يتبع)

عبد الحميد حمدي

مدرس بشبرا الثانوية

خريج جامعة اكستر بإنجلترا