مجلة الرسالة/العدد 313/لجاجة الجدل
مجلة الرسالة/العدد 313/لجاجة الجدل
للأستاذ عبد الرحمن شكري
قد ترى إنساناً يسخر من إنسان آخر لأنه في حديثه معه يذكر حقائق مبتذلة يعرفها كل الناس؛ وهذا الساخر قد يعرف أن أحاديث الناس في جملتها من هذا النوع الذي يسخر منه، وأن كونها من هذا النوع يسهل الحديث بين الناس على اختلاف ما يؤهلهم للحديث من علم وفطنة، أو ما لا يؤهلهم له من جهل وغباء. فهذا النوع المبتذل من الحديث الذي يسخر منه الساخر يؤلف بين الناس في مجالسهم ويساعدهم على أن يقضوا وقتاً يريدون إفناءه، ويمنع من انقطاع الحديث زمناً للبحث عن فكرة صائبة غير مبتذلة، كما قد يمنع من الحقد الذي ينشأ بسبب الخلاف على فكرة غريبة غير مبتذلة، أو بسبب حسد جليس لجليسه إذا ظهر عليه بفكرة جليلة. والساخر من الحديث المبتذل قلما ينقم في سريرة نفسه على محدثه إذا كانت آراؤه سخيفة أو مبتذلة قدر ما قد ينقم عليه إذا بذه بالحجة وفاقه بأصالة الرأي. فليس شر الحديث المبتذل، وإنما شر الحديث ما كان لجاجة وحبّاً للظهور بالعظمة وأثرة ورغبة في الانتصار وفي إرغام الناس على إجلال فكر. فان بعض الناس - حتى بعض أفاضلهم وعلمائهم - يرتاد المجالس كي يزهى بعلمه وينتصر بالجدل. وبعض الذين لم ينالوا قسطاً كبيراً من التعليم يشعر بنقص إذا جالس الناس فيعمد إلى إخفاء ما يشعر به من نقص بما يظهر ذلك النقص، فتراه يحول الحديث من الموضوعات الشائعة المبتذلة إلى الأمور العلمية ويحاول أن يسيطر على الحديث باللجاجة وادعاء العلم والإصرار والتهجم على مخالفه، وقد ينفعل انفعالاً نفسياً شديداً، وليس انفعاله من شدة انتصاره للحق ولا من ذعره أن يسود الباطل العالم، وإنما انفعاله من غيظه إذا لم يُمكّن من الانتصار في الحديث ومن إسكات مجادله كي يوهم نفسه وكي يوهم جلساءه أنه لا يشعر بنقص علمه، وقد يفطن جلساؤه إلى أن باعثه على اللجاجة والانفعال شعوره بنقص تعلمه ولا يفطن هو إلى فطنتهم لنقصه فيضع نفسه في منزلة الخزي من غير داع
وتشبث المرء بالحق في المجالس واجب، أما إعلان هذا التشبث بالجدل الذي يؤدي إلى الخصومة والعداوة والبغضاء والتضارب أو التقاتل فمن الضعف وقلة كبح النفس والعجز عن ضبط اللسان. وهذا العجز ليس من الحكمة في شيء بل هو من الطيش الذي قد يندم المجادل عليه ولو كان الحق في جانبه، فإن أحاديث الناس في مجالسهم ليس فيها ما يزكي اللجاجة التي تدعو إلى الخصومات. ويستطيع الجليس إذا خشي أن يُعدّ سكوته عن الجدل واللجاجة مشاركة في خطل الرأي أو إثم الغيبة أن يترك ذلك المجلس وأن ينصرف عنه إلى غيره بعد إعلان رأيه في رفق وتؤدة وحلم
وبعض الناس قد طُبع على أن يجادل لنصرة ما يراه حقاً حتى ولو أدت المجادلة إلى المهاترة أو المضاربة، وكأنما يشعر شعوراً غامضاً أن مصير الدنيا وبقاء الكون موقوف على انتصاره لما يراه حقاً، وقد يكون هذا المجادل اللجوج صادق النية مخلصاً في شعوره كأنه لم ير كيف أن العلماء والفلاسفة يأتون كل جيل أو كل عصر بآراء تخالف ما أتى به أسلافهم، والحياة قائمة بالرغم من خطأ السابقين أو اللاحقين، والسماء لم تنهد ولم تسقط على الأرض والدنيا على حالها يخالطها كثير من الخطأ، فلأي أمر إذاً يتضارب الناس في مجالسهم أو يتخاصمون من أجل اللجاجة والجدل
على أن في الناس من يحترف الجدل مكراً ودهاء كي يكون اعترافه بأصالة رأي مجادله أوقع وكي يكون انهزامه في الجدل أحب إلى جليسه الذي يجادله، وكي يفهم ذلك الجليس أن قوة بيانه ورجاحة حجته وفرط ذكائه هي الصفات العالية والهبات النفيسة النادرة التي مكنته من إقناع ذلك المجادل الذي إنما يجادل كي ينهزم وكي يمدح صفات جليسه العقلية تقرباً إليه لحاجة في نفسه، وهذه وسيلة من وسائل الدنيويين الذين يريدون النجاح في الحياة، وقد شاهدنا مثل هذا الجدل والاقتناع الكاذب في حديث الرؤساء والمرءوسين وفي حديث الوجهاء ومن هم أقل منهم منزلة
وهناك نوع آخر من الجدل يثيره خبيث يعرف أن جليسه عصبي المزاج ينفعل إذا جادل فيحب أن يعبث به وأن يضحك من انفعاله، وأن يتخذه لهواً وقد يكون رأيه في الأمر الذي يجادل فيه مثل رأي ذلك العصبي المزاج ولكنه يخالفه كي يتفكه بضجيجه وصراخه وحركاته حتى إذا نال بغيته من الفكاهة أقرّ برجحان رأي ذلك العصبي المزاج فينال نوعاً آخر من الفكاهة إذا رأى عظم سروره وخمود ثورة أعصابه.
وقد شاهدنا نوعاً آخر من الجدل إذ يرى أحد الجليسين أن جليسه سفيه لا يريد توضيح الحق بالجدل وإنما يريد الظفر في الحديث بأية وسيلة، ولا يترك جليسه إذا سكت بل كلما طال سكوته أحس ذلك السفيه أن سكوته إنكار لرأيه فيلج في الجدل كي يرغمه على الخروج من صمته وصاحبه لا يرى فائدة في الخروج من صمته فيكتفي بأن ينطق بمقاطع لا تدل على مخالفة أو موافقة كأن يقول: أومْ. إيمْ. آ. إمْ. وهذا على أي حال خير من التقاتل أو التضارب من أجل الجدل
ونقرأ في الجرائد عن تضارب يؤدي إلى قتل وكان سببه نزاعا على مليم أو على قطعة من البطيخ، ومثل هذا التقاتل يرجع إلى اللجاجة في الجدل أكثر مما يرجع إلى شدة الفقر إلى المليم أو إلى قطعة البطيخ؛ ومثله مثل اللجاجة في الجدل وفي النزاع على رأي سياسي أو في التنافس في البر وعمل الخير، فهذا أيضاً قد يدعو إلى التقاتل كما حدث بين شابين تجادلا في أيهما أحق بالتأذين والدعوة إلى الصلاة فانقلبت لجاجة الجدل إلى تشاتم ثم إلى تضارب فتقاتل. ونقرأ في الجرائد أن اللجاجة في الجدل قد تؤدي إلى الخصومات والتقاتل بين الأسر أو بين البلدان المتجاورة
واللجاجة في الجدل عند بعض الناس مرض يظهر خبث النفوس فترى بعض الناس يحقد على من يجادله ويسعى في أذاه إما سعياً ظاهراً وإما في الخفاء. ويخيل للرائي أن بعض المجادلين يكاد يجن إذا لم ينتصر في الجدل، وقد يكون هذا المجادل طيب القلب سمحاً إذا وافقه الجلساء على رأيه وهواه، وقد يمدح من يوافقه في حديث المجالس على رأيه فيقول: - فلان رجل ذكي لا يجادل بالباطل ويدرك الصواب إدراكا سريعاً. . . وقد يكون هذا الممدوح مخفياً غير ما وافقه عليه وساخراً برأي المادح في سريرته وهازئاً بلجاجته
والطوائف والأمم مثل آحاد الناس فإننا نقرأ في تاريخ الإنسانية عن تقاتل الطوائف من الناس على ألفاظ لا طائل تحتها وعلى أخيلة وأوهام بعيدة عن العقل فنعجب هل كانوا حمقى أم مجانين
وستأتي عصور يتساءل أهلها عن تقاتلنا على الألفاظ والأوهام، ويتعجبون من حماقة هذه الأجيال كما تتعجب هذه الأجيال من حماقة أهل العصور القديمة، ولم يعظنا ما رأيناه من عبث التقاتل على الألفاظ والأوهام والآراء التي تتبدل في كل عصر حتى كأن العقل البشري من قلة اتعاظ النفوس لا أثر له في الحياة وحتى كأن الحياة لا تستقيم إلا بأن يجد الناس لذة في خلق أسباب الألم والعذاب لأنفسهم بخصومات الجدل وعداواته كما يجد بعض المتدينين لذة في أكل النار وطعن أنفسهم بالخناجر في بعض الحفلات الدينية. والجدل في مناظرة الكتب والصحف والمجلات كالجدل في مناظرة الكلام فمنه ما يكون من العبث المضي فيه، ولعل أشد المناظرة عبثاً وضيعة ما يدعو إلى مجادلة الذي يزكي بالمصطلحات قلة خبرته بالحياة، وهي مصطلحات لا يستقيم مذهبها إلا في الأمور النظرية التي لا تتصل بأمور الحسّ، أو مجادلة من يشبه المؤرخ الذي لا ينتقد مصادر تاريخه كما ينتقد الصيرف نقوده وتطغى حماسة الشباب في قوله وتطغى الثقة بالأصدقاء على الرغبة في الإنصاف وفي تخليد حكمه وصيانته من أن ينقضه بحث باحث
وقد يكبر الوهم للمشتغلين بالسياسة قيمة جدلهم ومناظراتهم في الصحف، ويحسب كل فريق أن خراب الوطن رهن بانخذاله في أية مناظرة مهما يكن سببها فيستبيح ضمير كل فريق من الوسائل في خصومات الجدل ما كان يعده إجراماً لو نظر إلى الأمور بعين المؤرخ الذي يرى زوال الجهود البشرية وغثاثة أمر الكثير منها وتفاهة ما كان الناس يعدونه جد جليل خطير
ولما كانت السياسة شغل الناس الشاغل في العصور الحديثة فإن الأخلاق التي يستبيحها الجدل في شؤونها، وما قد يظن معينا على هذا الجدل، تتفشى وتفسد أمور الحياة التي يراد إصلاحها بهذا الجدل فيأتي فساد الأمور من سبيل إصلاحها، ويأتي سقمها على يد طبيبها. ولا يقتصر هذا الفساد على المشتغلين بالأمور السياسية؛ فإن كل إنسان وكل قوم يبيح فيمن يعدهم من خصومة وإن لم يكونوا خصوماً في أمور المعاش، ما تبيحه السياسة من الكذب والخساسة في العداوة والإجرام؛ فإن الرجل من عامة الناس أو أشباه العامة يرى بين الخاصة والعظماء المشتغلين بالسياسة من يستبيح كل وسيلة مهما كانت مرذولة، فيبيح لنفسه في أمور المعاش واللهو والتلذذ بالكيد ما تبيحه السياسة في الأمور العامة، ويصير نشر الدعوة الكاذبة في أمور السياسة خطة يتأثرها الناس في أمور المعاش أو اللهو أو الغرور، ويصير التحزب ونصرة الجماعة بالحق وبالباطل في أمور السياسة عادة يتبعها الناس ويغالون في باطلها في أحقر الأمور وأصغرها أو في أبعد الأمور عن تلك الخطط والعادات وأقلها حاجة إليها وأكثرها فساداً بها، ويكون فسادها أعظم والمغالاة بها أشد في البيئات التي تعودت في تاريخها التخاذل في الحق والتحزب والتقاتل في أتفه الأمور أو أجلها وأبعدها عن التحزب بالباطل.
عبد الرحمن شكري