مجلة الرسالة/العدد 313/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 313/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1939



وحي نفرتيتي

معجزة الإيمان والحب

للأستاذ عزيز أحمد فهمي

1 - مع الربيع

في إبريل من إحدى السنين ولد أدولف، فانساق إلى الحياة مع الربيع

أول نسمة أنعشت رئتيه كانت مشربة بروح من العطر والطيب، وأول صورة وقعت على عينيه كانت مزركشة بزخارف صاغتها يد المبدع البديع، وأول صوت طرق أذنيه كان تنهيدة من نسمة رشيقة حنون، وأول ما رشف من عصير الحياة كان رحيقاً من روح الثمر الطيب الذي تتبرج به الدنيا في الربيع

ويا شقاء الذي يهبط الأرض في الربيع. . . أو. . . يا سعده؟ يتدلى إلى الدنيا فيراها أول ما يراها: باسمة راقصة، مرتلة فرحة، قد أسكرتها نشوة التسبيح. وهو ينطلق إليها وكله روح وكله شعور: لم يعشش فيه العقل، ولم يعفّن نفسه الحذر. . . فلا عجب إذا صدّق الدنيا وأحبها، ولا عجب إذا اطمأن لها، ولا عجب إذا بادلها تسبيحاً بتسبيح

وإن هو إلا حين، ثم يعقب الربيع صيف، ومع الصيف لفحات من سعير؛ ثم يتلو الصيف خريف، ومع الخريف أشباح من فناء معتم مخيف؛ ثم يعقب الخريف شتاء، ومع الشتاء صقيع من موت معربد ينخر الصدور

ولكن وليد الربيع يحتضن صورة الربيع، فمهما تلونت الحياة بين ذراعيه، ومهما أفاق لهل مع الحادثات فرآها الحرباء التي لا تثبت على لون. . فهو لا يزال يرجو منها الخير ويأمل أن تعاوده صورة الربيع

وإنها لتعاوده. توافيه وتبارحه؛ وعلى أمل لقياها وفي ذمة فرحتها يصبر على شقوتها وعلى وحشة ظلمتها

أحبها. ومن حبه لها استشف الحسن في قبحها، والخير في شرها، وما فيها من شر! وإن هي إلا صور! ولكن الناس يعقلون! يعقلون أنفسهم وأرواحهم! وهم من شدة تعقلهم يتعثرون

يا ليتهم حنوا كما جن وليد الربيع!

2 - فنان

في معسرة أحب أدولف أن يستكمل من لوازم العيش حاجته، وأن يصارع على صدر الزمان فاقته، فلم يمتشق إلا ريشته. . .

طرق أقرب الأبواب منه ولم يكن إلا باب الجمال والفن. . .

فرحب به الجمال، وأكرم الفن وفادته

حقاً إنه لم يكن في المصورين بارعاً مبرزاً. . . ذلك أنه روى من الفن سجعته وقوت صنعته، وما كان الفن إلا فطرته

3 - محارب

وزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وصبت الأقدار أهوالها، فخف صاحبنا لها مشدوهاً يلاطم أوحالها، يغربل بالفن أشكالها ويلقف بالصبر أحمالها، فلانت ونامت وقد نال منها مضاعف ما قد أهدي لها

4 - شرير

صهره الزمن حتى لتكاد نفسه تسيل حسا، وتراكمت تحت قدميه التجارب فرفعته ورفعته حتى لتكاد تخرق السماء هامته.

حلق في جو يقصر عنه الترف والرغد. فلم يعد يرضى أن يعيش كما يعيش الناس، ولم يعد يطيق الحياة مستنقعاً بين جنتين، وإنما أرادها ساحة زاهية نيرة باسمة كالربيع، راقصة مرتلة مسبحة. فسالم الناس وسالم الأرض وسالم السماء

ما كان يبغي من هذه الدنيا غير ما يمسك به الرمق فما ملأ جوفه حتى سعى ليملأ سمعه بالنغم، وليملأ بصره بالصور. تدثر بالفن، وأغمض عينيه ونام على الصخب يسترجع الربيع إذا غاب عنه، ويستجديه الراحة إذا حضره

ولكنه لم يعتزم أمراً، ولم يخلبه هدف. فراح يخبط في الشرق وفي الغرب راضياً آمناً، ولكن رضاءه وأمنه شابتهما حيرة إذ كان يحس هتافاً يتلوى في نفسه غامضاً مبهماً مبعثراً في جوانحه تعجز اللغة عن حشده وجمعه وإنشاده كلاماً ولفظاً، ولم يكن يحس شيئاً أهنأ من هذا الغموض البنفسجي الشفاف، فاستسلم له يداعبه ويناغيه متلمساً إفصاحه ودعوته

5 - دعوة الحب

كان الجمال يستهويه فيستقصيه في مجال السمع ومجال البصر ومجال الحس ومجال الوعي. فكان يتردد على رياض الجمال ما يغفل روضة، وكان يتعطف على معارج الحسن يُسري به فيها فيلمس من أسراره مالا يراه غيره، فكانت له عند كل جميل وقفة

والتقى هذا المستعشق في جولة من جولاته بتمثال رصد فيه فنان حساس لمعة من لمعات روح نفرتيتي فلم يملك إلا أن يسكن أمام التمثال وقد اختبل حسه وتذبذب بين نزعة الرقص للفنان والسجود لنفرتيتي ومبدع نفرتيتي

رآها أنثى قائدة موجهة فوقف بين يديها وقفة مرن عليها في الجيش. . . وسمعها تسأله:

- وماذا تريد أن تصنع؟

فقال: لا أدري

فعادت وسألته: ألست تحس شيئاً؟

فأجابها: إني أحس

فأمرته: أن لبّ نداء حسك

وسكتت، وشعر بها وكأنها تنصرف عنه أو تنخطف من تمثالها فاستأذن وانفرد

6 - في الوحدة

راح يقول لنفسه:

- أما أنها حدثتني وأني حدثتها، فقد حدثتني وحدثتها، وأما أن هذا المعروض للناس تمثال، فإنه تمثال لم يحدث أحداً ولم يحدثه أحد. فلا بد أنه تعرفني، ولا بد أنه اختارتني من بين زوارها، ولعلها تسللت من وطنها المستحي لتلقاني دون غيري، (هي) قطعت إليّ آفاقاً وآباداً فكيف أغفل عنها و (هي) تنتقل بين أعطاف الوجود باحثة عني. لابد أنها المكتوبة لي. . .

وإلا فما لي لم تعجبني امرأة. . . وما لي قد آمنت قسراً عني أنه لن تعجبني بعدها امرأة؟! إذن. . . فيا لقرب الحبيبة!

واللقاء بيدها. . . فيا رحمة الحبيبة!

عليّ أن أسترضيها. إنها طلبت مني أن ألبي حسي، فإلى أي شيْ قصدت. . . وأنا. . . بماذا أحس؟ وأي حس هو الذي تفيض به نفسي حتى ليخفى ما عداه من الأحاسيس؟

أما أنا. . . فإني محروم. إني أرى نقائص كثيرة ويخيل إليّ أني أملك إصلاحها ولكني غير متمكن من شيء أصنعه

ولست وحدي المحروم، فإني أشعر أن حولي كثيرين محرومون، منهم المحروم من قوته. بل إني محاط بجمع. . . بحشد. . . بجيش. . . بشعب من المحرومين. . . إني أعيش في وطن محروم. . . بل في جيل محروم مظلوم. واحتمال الظلم والحرمان نقص. . . ولعلها لا ترضى عن منقوص

فمن هو الظالم؟ أين هو؟. . .

. . . وخرج أدولف من حديثه مع نفسه بأن عليه عبئاً ألقاه على كتفيه أهل جنسه من الجرمان يريدون أن يتوحدوا. . .

وما أكبره من عبء!

7 - معها مرة ثانية

ودلف إليها مرة أخرى فوجدها تنتظر منه إشارة تعرف بها أنه قد حدد في ذهنه قيمة مهرها من مادة ومعنى. فأطرق خجلاً وقال:

- أليس عسيراً توحيد جرمانيا؟

- ما من شيء في الحياة عسير. وكل ما أردت ميسور. كان لي صهر، وكان يحب المال. . . ومع هذا فقد استطاع أن يوحد الله. . . وأنا. . . وقد كنت وثنية استطعت أن أعبد الله. . .

- وما لله ومالي؟ أترين أني جدير بصنع المعجزات؟ لقد مضى زمان المعجزات يا سيدتي

- إنك كسلان!

- كلا

- أثبت! وانطفأ التمثال. . .

8 - مؤمن ونائمون

وبدأ أدولف الكفاح. فجمع حوله الشباب. . . وجاهد ما جاهد حتى استولى على ألمانيا. . .

وقضى هذا الدهر وهو يتردد على محبوبته فلا ينعم منها إلا بومضة وبسمة من علامات الرضى

. . . حتى اشتاقت حكومة مصر إلى تمثال الملكة فطلبت من حكومة ألمانيا أن تعيده إلى وطنه. . . يومئذ زارها فإذا هي ضاحكة تسائله:

- مالك؟

- إنهم يريدونك في مصر

- وما مصر؟

- وطنك

- وطني أنا؟ أنا وطني أينما كنت وإذ ما أكون. لست أحل أرضاً ولا أشغل مكاناً

- ولكنك كنت ملكة مصر

- ومصر الآن في زاوية من ملكي

- أي إنسان أنت؟

- كان الإنسان بعض أزيائي!

- فأي كائن أنت؟

- إنه كائن واحد!

-. . .!! وهل يفهمونك في مصر. . . هل يحسونك؟ واضمحل أدولف وتخاذل. . . وقال:

- لا يمكن. . . فلتبق هنا أيها التمثال فإني أرى فيك عجباً. . . واعتذر (هتلر) لحكومة مصر وقال إنه يحب الملكة المخلدة. . .

9 - الناس يسخرون

وطابت للناس سخرية وأضحوكة. . . وما أكثر المآسي التي يضحك منها الناس ويسخرون، وما أكثر العبر التي يمرون بها غافلين متجهلين! فن نبع من فن وأفرغ في فن

درة من منح الله سجلها مؤمن يتعبد بالنحت، وتلقاها عاشق متيم بالجمال والحسن فاندلع رجلاً يبهر المتعقلين والمتفلسفين! إنه اندلع. . . وقال: إنه يحبها ولم يزد فسخروا منه. . . فما باله لو قال: إنه يحادثها. . .

منذ إذ أسرها!

10 - توت عنخ آمون

احتل الألمان (الرين) وعاد أدولف ليلتها إلى مخدعه متعباً مضني. وكان يحن إليها. وكان صادقاً في حنينه. فناداها فلبته فإذا هو معها، وإذا هي تسأله:

- أحسبك ارتحت الآن قليلاً؟!

- الحمد لله

- وأحسبك تريد جزاء؟

- لا. فقد تعلمت منك تناسي الجزاء

- إذن هيا معي

- إلى أين؟

- إلى وليمة صغيرة. . . ألا تحب أن تعرف توت عنخ آمون؟

- قد أتساقط بين يديه

- لماذا؟

- لأنه صاحب الحق فيك

- وهل مسست أنت حقه؟. . . تعال. . . فهو يريد أن يراك. . . وقادته إلى العرش وقدمته إلى الملك

- هذا هو أدولف

- مرحباً. . . هل تشرب خمراً من خمرنا؟

- قد تروقني. . . ولكنكم قد تحسنون إلى لو أسمعتموني ترنيمة من ترانيم صلاتكم

- وماذا لو حيتك الملكة برقصة أو أغنية؟!

- قد تكون متعبة - أظنه لا يتعبها ما يرضيك. . . أليس كذلك أيتها الملكة؟ ورفعت المائدة. . . ورفع الملك والملكة. . . وهبط أدولف وعاد إلى مخدعه محزوناً. . .

لقد كان يحسن أن يتقي هذه المقابلة. إنه لم يربح منها شيئاً إلا غيرة خاطئة صوبها إليه قلب صاحب حق

. . . ولكن. . . لا. . . أو هل يمكن أن يكون قد طاب لها أن تعبث به. . . ولماذا لا تكون هذه الصلة كلها من أولها إلى آخرها مؤامرة دبرتها مع نفسها، أو أغرتها بها شيطانة عابثة. أو دبروها معاً

بدأ الشك والقلق يخزان نفسه

11 - يتخبط

إنهار المسكين!

كان قد أحس حبه المتجرد قد رسا به في مرفأ جديد من مرافئ الوجود: كله ربيع!

رسا فيه. وهم أن ينزل إليه فإذا به يضع قدمه في هذه الدنيا من جديد وفي بقعة من بقاع برلين.

إنه يحب برلين، ويحب ألمانيا. إنه وطني عنيف. ولكن حبه لوطنه لا يزيد على حبه لتمثاله. . . فهل التمثال هو المقصود بالحب؟

و (هي). . . قد قالت إن وطنها القديم لم يعد اليوم إلا جانباً من مسرحها الجديد. وهو لا بد أن يكافئها. . . ولا بد أن يضم إلى ملكه هذا المرفأ البعيد الذي رأى نفسه قد رسا فيه. . .

فما الطريق إليه؟. إلى أين؟. إلى المرفأ البعيد؟ أي مرفأ؟ وأين هو؟!

ويل أو طوبى لمن طلب البعيد!

12 - عتاب

في هذا الاضطراب الموجع القاسي أخطأ بعض أصحاب أدولف في حقه وفي حق كفاحه فقتلهم بيده. . .

وليس القتل بالفعلة التي يرتكبها الإنسان ثم يسهل عليه النوم. انتابه الأرق ليلتها وثارت به نفسه. كان صرعاه يحبونه، وكان هو يحبهم. حقاً إنهم أخطئوا، ولكن من في الناس المعصوم؟ ثم من ذا الذي منحه السلطان على الأبدان والنفوس؟

أولا يمكن أن يكون هؤلاء الضحايا أبرياء. . . من يدري؟!

وكيف يقتل المتطهر البريء؟!

العين بالعين. والسن بالسن. وإذا كان في الغفران فضل ففضله للباذل الواهب.

فهل يغتفرها لنفسه؟. كلا. . . كلا. . . فهو إذن منقوص معيب، و (هي) لا تحب المنقوص المعيب. . .

هاهي ذي! تمد يدها بالمسدس إلية. . . مد هو أيضاً يده. تناول المسدس، ورفعه إلى رأسه، وأطلقه. فقد أرادت (هي) أن

يموت مكفراً عن خطيئته.

ولكنه كان قد استنفد الرصاص في رؤوس صرعاه. وكانت الطلقة كاذبة. نظر إليها يعتذر عن جرأته على الحياة بعد ما أرادت فإذا هي تقول:

- هل رأيت. . . ما كانت بك حاجة إلى قتل إخوانك بيدك. فالشر وحده كفيل أن يقتل المخطئين. . . لا تلطخ يدك بالدم بعد اليوم، ولا بالدنس. وليكن منذ اليوم سلاحك الصدق ودرعك الإيمان. . .

- ما هذا؟ كأني سأكف عن المضي في كفاحي. . . فأنا أناضل خصوماً كل منهم جبار عنيد. ولن أصل إلى ما تريدين مني إلا بعد مجزرة أردم بأشلاء قتلاها هذه الهوة التي تفصل ما بيني وبينك

- إذن فأنت لم تبلغ ما أريدك أن تكون. ولست إذن إلا كغيرك من المفتونين!

وغادرته يرتجف وهو يقول:

- كأنها تريد مني أن أقول للشيء كن. . . فيكون

13 - تجربة

وخانه خائن جديد من اخوته المقربين. . . فانطلق إليه. . . ولكنه أحسها تنطلق إليه معه. . . حتى إذا جاءه ربض أمامه، ومد إليه بالمسدس يده. فتناول المسدس الصديق الخئون وأفرغ رصاصه في رأس بدنه، وخر أمام صاحبه رمة لوثتها الخطيئة، وجثت روحه عند قدميها (هي) باسمة شاكرة إذ هونت عليها سكنى الرمم فاشترت بها براح الخلود. . .

فآمن أدولف بما هدته إليه صاحبته

ومع هذا فقد يحسبه حتى حواريوه من هواة الحروب

14 - سر نحو الخاتمة

إذن فالحق لا يقف أمامه شيء. والإيمان به هو الطريق إليه. ضمت ألمانيا النمسا. استولت ألمانيا على أراضي السوديت. . . وحدث وحدث، وأمم الأرض كلها كانت مشفقة مما حدث، ولكن أدولف أحدثه ولم يرق قطرة دم

وهو الآن لا يزال يغربل حقائق الحياة وحقوق الناس. وهو مشرف على الدنيا من صومعته المترفعة. . . أما إذا أقر كل حق في موضعه (فهي) راضية عنه. أما إذا طغى فقد تزوره مرة أخرى في مخدعه تعاتبه أو تعاقبه. . .

نفرتيتي ملكة مصر الخالدة لا تسمح أن يصيب بلادها السوء!. . .

(القاهرة في أول يونية سنة 1938)

عزيز أحمد فهمي