مجلة الرسالة/العدد 313/التاريخ في سير أبطاله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 313/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة - العدد 313
التاريخ في سير أبطاله
ملاحظات: بتاريخ: 03 - 07 - 1939



أحمد عرابي

أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟

للأستاذ محمود الخفيف

في مثل هذا الجو الذي كدرته دسائس الماكرين والطامعين، راحت وزارة البارودي تعالج ما كانت تشكو منه البلاد، ومن ورائها نواب الأمة يشدون أزرها، وإنهم ليعلمون ما كان يحيط بوطنهم من الكيد والإعنات.

وأحسن البارودي من أول الأمر بتزايد الجفاء بينه وبين الخديو. فما كان ليسيغ توفيق أن يصبح الأمر بينه وبين الوزارة قائماً على أساس غير ما ألف من مبادئ السيطرة ونوازع الاستبداد؛ ولكن الوزارة استعاضت عن معاونة الخديو بمؤازرة البلاد. . .

وكان أول ما واجهته الوزارة من الصعاب بطبيعة الحال هي مسألة الميزانية؛ أو بعبارة أخرى لائحة المجلس التي بسببها استقالت وزارة شريف؛ أو على الأصح أجبرت على الاستقالة.

ويجمل بنا أن نأتي بالحديث على سرده في هذه المسألة لنتبين إلى أي حد كان افتيات الدولتين على البلاد، وليرى الذين رموا حركتها الوطنية ورجلها بمختلف التهم مبلغ ما في مزاعمهم من جهل أو عدوان.

جاء في خطاب شريف باشا الذي تقدم به إلى المجلس بعد انعقاده؛ وقد خطت الحركة الوطنية خطوة واسعة بعد يوم عابدين قوله: (فإنه لم يحجر عليكم في شيء ما، ولم يخرج أمر مهم عن حد نظركم ومراقبتكم. إنما لا يخفاكم الحالة المالية التي كانت عليها مصر مما أوجب عدم ثقة الحكومات الأجنبية بها، ونشأ عن ذلك تكليفها بترتيب مصالح، وتعهدها بالتزامات ليست خافية عليكم، بعضها بعقود خصوصية، والبعض بقانون التصفية. فهل يتيسر للحكومة أن تجعل هذه الأمور موضعاً لنظرها أو نظر النواب؟ حاشا لأنه يجب علينا قبل كل شيء القيام بتعهداتنا وعدم خدشها بشيء ما، حتى نصلح خللنا، وتزداد ثقة العموم بنا، ونكتسب أمنية الحكومات الأجنبية. ومتى رأت منا تلك الحكومات الكفاءة لتنفيذ تعهداتنا بحسن إخلاص بدون مساعدتها. فنتخلص شيئاً فشيئاً مما نحن فيه).

بهذه الكلمة مهد شريف لخطته فيما يتعلق بلائحة المجلس، أو ما نسميه نحن دستوره، وعلى الأخص فيما يتعلق بالميزانية. ثم جاءت اللائحة تنص على أن: (لمجلس النواب أن ينظر في الميزانية ويبحث فيها، وتعتمد بعد إقراره عليها وعلى رئيس المجلس أن يبلغ ذلك إلى ناظر المالية لغاية اليوم العشرين من شهر ديسمبر بالأكثر).

(ولا يجوز للمجلس أن ينظر في دفعيات الويركو المقرر للأستانة أو للدين العمومي، أو فيما التزمت به الحكومة في أمر الدين بناء على لائحة التصفية أو المعاهدات التي حصلت بينها وبين الحكومات الأجنبية).

هاتان هما المادتان: الثالثة والثلاثون، والرابعة والثلاثون؛ من لائحة المجلس. وبمقتضى أخراهما يحرم المجلس من النظر في نحو نصف الميزانية، لأن هذه الأبواب المستثناة من الميزانية كانت تقرب من نصفها.

ولقد كان المجلس يطمع في أن ينظر في الميزانية دون أن يستثني منها شيئاً ما دام هو القيم على حقوق البلاد. ولكن الحكمة قضت عليه أن يتواضع فيقبل لائحة شريف على ما بها من نقص.

ففعل ذلك ولكنه لم يفد من حكمته وا أسفاه شيئاً. . . فقد كبر على الدولتين أن ينظر المجلس في أي جزء من الميزانية، فرمتاه بالمذكرة المشؤومة التي كان من نتائجها ما رأينا من تطرف المعتدلين وثورة المتطرفين، والتقاؤهما جميعاً، وتمسكهما بالنظر في الميزانية مهما يكن من العواقب. الأمر الذي طاح بوزارة شريف، وأحل محلها وزارة البارودي. . .

وجاءت وزارة البارودي. فلم يكن أمامها إلا طريق واحدة: هي السير وفق رغبة النواب، والرأي العام الوطني في البلاد. فخطت تلك الخطوة مستندة إلى مؤازرة الأمة لها معتمدة على حقها. فكان ما قررته في مسألة الميزانية ما يأتي: (لا يجوز للمجلس أن ينظر في دفعيات الويركو المقرر للآستانة أو الدين العمومي أو فيما التزمت به الحكومة في أمر الدين بناء على لائحة التصفية أو المعاهدات التي حصلت بينها وبين الحكومات الأجنبية)

(وترسل الميزانية إلى مجلس النواب فينظرها ويبحث فيها (بمراعاة السند السابق)، ويعين لها لجنة من أعضائه مساوية بالعدد والرأي لأعضاء مجلس النظار ورئيسه، لينظروا جميعاً في الميزانية ويقرروها بالاتفاق أو بالأكثرية).

ووافق المجلس على اللائحة الجديدة التي تقدمت بها إليه وزارة البارودي، وكان هذا الرأي الأخير، أعني تكوين لجنة من أعضاء المجلس مساوية في العدد لأعضاء مجلس النظار قد عرض كحل من الحلول على وزارة شريف. فأبت الدولتان قبوله؛ فلما قضت وزارة البارودي في الأمر حسب مشيئة النواب، ثارت ثائرة الدولتين اللتين جاءتا لنشر روح المدنية والحرية في الشرق!

ولقد جعلت الوزارة الأمر للأمة فيما إذا وقع خلاف بين المجلس والوزارة. فنص في دستور المجلس أو ما سماها اللائحة على ما يأتي:

(إذا حصل خلاف بين مجلس النواب ومجلس النظار، وأصر كل على رأيه بعد تكرار المخابرة وبيان الأسباب، ولم تستعف النظارة فللحضرة الخديوية أن تأمر بفض مجلس النواب وتجديد الانتخاب على شرط ألا تتجاوز الفترة ثلاثة أشهر من تاريخ يوم الانفضاض إلى يوم الاجتماع. ويجوز لأرباب الانتخاب أن ينتخبوا نفس النواب السالفين أو بعضهم).

(وإذا صدق المجلس الثاني على رأي المجلس الأول الذي ترتب الخلاف عليه ينفذ الرأي المذكور قطعياً).

هذا هو الحل الذي عالجت به وزارة البارودي مشكلة الميزانية والذي من أجله حقت عليها لعنة الدولتين، وحق عليها عقابهما. مع أنه لا يمكن أن يكون هناك تساهل في مثل هذا الأمر، وفي مثل تلك الظروف من هذا الذي جرت عليه الوزارة.

هؤلاء نواب شعب يجتمعون باسمه للنظر في صالحه، فكيف يتسنى لهم ذلك إن لم يكونوا قوامين على ماليته وهي أساس كل شيء ودعامة كل إصلاح؟ وكيف يكون الحكم قائماً على أساس ديمقراطي إذا حيل بين نواب الأمة وبين النظر في الأموال التي تجبى من أفرادها؟

وإذا كانت لمصر ظروف خاصة ناشئة من ديونها التي لم يكن لأهلها يد فيها، فأي شيء كان يطمع فيه من نوابها أكثر من أن يتركوا ما يتعلق بالدين دون تدخل فيه؟ ولكن الدولتين كانتا تحاربان المجلس فحسب مهما بلغ من اعتداله وحكمته. كانتا تحاربانه، فتحاربان فيه الوطنية المصرية والقومية المصرية، لأنهما إن نمتا وازدادتا قوة، ضاعت الفرصة، وخرجت مصر سالمة مما كان يدبر لها! أنظر إلى الاحتجاج الذي كتبه المراقبان الأجنبيان في 12 يناير سنة 1882 عندما علما نية النواب في وزارة شريف، قالا: (يظهر أن مجلس شورى النواب يتهيأ لأن يطلب حق تقرير الميزانية، ولهذا نرى من واجبنا أن نقول: إن إعطاء النواب هذا الحق ولو اقتصر على الإدارات والمصالح التي لم تخصص إيراداتها للدين يفسد الضمانات المعطاة للدائنين. لأنه سيكون من نتائجه الضرورية أن تنتقل إدارة البلاد من يد مجلس النظار إلى يد مجلس النواب).

ولا تسل عن مبلغ غضب هؤلاء الطامعين الكائدين لمصر من وزارة البارودي حينما حلت المشكلة على النحو المتواضع الذي بيناه، فلقد انطلقت ألسن الساسة منهم مع ألسن السفهاء من مراسلي الصحف بكل فاحشة وجارحة في الوزارة والنواب جميعاً على نحو خليق بأن تخجل منه الإنسانية. فهذا نظام موضوع بأسره تحت سيطرة جيش ثائر كما صوره كلفن في تقاريره؛ وهذه وزارة جامحة تسوق مصر إلى الخراب، وهؤلاء نواب لا يعرفون من معاني الوطنية إلا التعصب الأعمى فضلاً عن جهلهم وضيق عقولهم.

كتب ماليت يصف النواب: (إن ما يتظاهرون به من طموح إلى العدل والحرية قد انتهى بأن حلت سلطة الجيش الغاشمة محل كل سلطة مشروعة).

وقال كوكسن يصف قانون الانتخاب الذي وضعته الوزارة السامية: (إن الغرض منه في هذا البلد أن تكون كل المزايا الانتخابية لمن رشحتهم السلطة الحاكمة، والسلطة الحاكمة الآن هي سلطة الجيش).

وأوعز ماليت إلى وكلائه في الأقاليم أن يكتبوا تقارير عن مبلغ ما وصلت إليه الحل من سوء في البلاد، وأرسل تلك التقرير إلى حكومته، وبلغ من الجرأة على الحق، بل بلغ من صفاقة أحد هؤلاء الطامعين لتغلب الجشع الاستعماري على لبه أن يكتب يندد بإلغاء الكرباج. فقال وما أعجب ما قال: (إن الحاكم الشرقي إذا حرم كرباجه، وحظر عليه أن يسجن من يشاء عجز عن سياسة قوم اعتادوا منذ القدم أن يخضعوا لحكومة فردية قوية. إن الطريق الذي سارت فيه الحركة منذ عام، جعل الفلاح يعتقد أنه يستطيع الوصول طفرة إلى ما يسمونه له حرية، في حين أن ما اكتسبته هذه الحركة من قوة جديدة بإسلام أزمة الأمور إلى طائفة من الخياليين النظريين جعل أثرها في السلطة على وجه العموم أثر الماء تصبه على قطعة من السكر).

هذا هو ما قاله ذلك الإنجليزي الذي تفتخر دولته بأنها سبقت الدولة إلى الحرية، والتي ما فتئت منذ عهد كرومر في مصر تفاخر بأن معتمدها هذا هو الذي أبطل الكرباج في هذه البلاد!

وإنا لنسأل الذين يقرءون هذه المفتريات، والذين يتتبعون أساليب إنجلترا وفرنسا في الكيد لمصر - نسأل هؤلاء السادة - الذين يعلمون هذا، ومع هذا يعيبون على عرابي وزملائه تطرفهم: أكانوا يفعلون غير ما فعل عرابي وأصحابه إذا كانوا يحبون أوطانهم حقاً، وكانوا يعيشون في مصر في تلك الأيام؟

أما الذين كانوا يجهلون تاريخ هذه الدسائس التي كانت تبثها إنجلترا في مصر، وحملوا لجهلهم بها على عرابي ما حملوا مجاراة منهم لما أشيع عنه، فحسبنا أن نريهم حقيقة الأمر ونكل المسألة بعد هذا إلى فطنتهم وضمائرهم.

وما ندافع عن عرابي إلا لأننا نعتقد أنه ظلم، وأن الذين ظلموه هم أعداء البلاد الذين استباحوا ذمارها وألحقوا بها الذل والهوان، وما يجدر بمصري وبلاده فقيرة في الأبطال أن يشايع الذين حاولوا أن يمسوا بالباطل تاريخ رجل كانت البطولة في مقدمة صفاته.

على أنه ما كان لباطل أن يطمس نور الحق إلا أن يطمس ظلام الليل نور النهار؛ وهيهات أن يتفجر نور النهار ولا تذوب في أمواجه الوضاءة المشرفة ظلمة الليل، وإن تراكمت من قبل بعضها فوق بعض. . .

ولقد جعل الكائدون لمصر الجيش هدفهم فيما راحوا يشيعونه من مفتريات. أنظر إلى قول ماليت في تقرير له عن: (تزايد اختلال الأمن في البلاد لقلة اكتراث الأهالي بأولياء الأمور الملكيين، ويعزى ذلك إلى سلوك رجال الحزب العسكري الذين لا يعاملون زملاءهم الملكيين بالاحترام الضروري لإدارة البلاد، وقد أخذت الرشوة تعود إلى سابق عهدها بين الموظفين، ومما يساعد على انتشارها كثرة التغيير والتبديل في كبار الموظفين). . . ثم يقول في وصف ما زعمه من الضيق الذي وقع فيه الفلاحون في سبيل الحصول على المال: (ويعزو الملاك قلة رؤوس الأموال وما هم فيه من الضيق إلى سياسة الحكومة الحاضرة التي لا تبعث على الثقة بها، ويجهرون بأنهم إذا عجزوا عن دفع الضرائب فالتبعة واقعة على الوزارة).

وليس عجيباً أن يسلك كلفن وماليت وأشياعهما هذا المسلك في الطعن على الوزارة، وقد أدركا ما كانت تنويه حكومتهما من العمل على تمهيد السبيل للتدخل المسلح بعد هذا التدخل السياسي

ولقد كانت تلك المذكرة المشؤومة خطوة واسعة نحو هذا الغرض المرسوم. فبسببها كان لا بد أن تتفاقم الحوادث لتصل بالبلاد إلى كارثة الاحتلال. كتب قنصل فرنسا إلى حكومته يوم 29 يناير يقول: (إن الرغبة البادية على مجلس النواب من جانب في أن يصير برلماناً، والخطة القوية التي رأت الدولتان من جانب آخر أن تختارها، والتي كانت مذكرة (7 يناير) تعبيراً عنها، هما السببان الجوهريان اللذان اصطدم كل منهما بالآخر. فأوجدا الموقف الحالي). وكتب في يوم 6 يناير يقول: (يمكن أن يقال إن الانقلاب الذي أحثه مجلس النواب المصري جواب منه على مذكرة (7 يناير). فلقد أعلنا في هذه المذكرة أننا نحتفظ بالنظام الحالي ضد الجميع. فأجاب المجلس على ذلك بأن غيّر هذا النظام تغييراً جوهرياً. وبذلك وضعنا أنفسنا في موضع صارت الضرورة قاضية علينا فيه بأن نتدخل أو نعدل سياستنا).

وهذا الذي ذكره ذلك القنصل يصور الحال تصويراً صادقاً، وما كان موقف الدولتين يخفى على أحد من الوطنيين، وعلى ذلك يقضي الأنصاف على الذين يحكمون على أعمال رجال ذلك العهد، وفي مقدمتهم عرابي أن يضعوا في أذهانهم قبل كل شيء أطماع هؤلاء الساسة، وأن يصوروا تلك الأعمال على هذا الأساس.

(يتبع)

الخفيف