مجلة الرسالة/العدد 311/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 311/رِسالَة الفَّن

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1939



الشيخ سيد الصفتي

لفظ أنفاسه الأخيرة صبيحة الأحد الماضي وترك فنه وديعة غالية بين

يدي التاريخ

للأستاذ محمد السيد المويلحي

لعل الفنان الحق هو أقرب الناس إلى قلب الطبيعة وروحها، ولعله أقدرهم على معرفة أسرارها وأخبارها فهو وحده الذي يترجم لها أسرارها وكلامها، وهو وحده الذي يصور حسنها وجمالها التصوير الرائع الصادق الذي يحملنا على العجب والإعجاب

ولعل هذا الفنان هو أقرب الناس إلى الشذوذ والخروج على تلك الأوضاع البشرية التي وضعت للحد من الطباع والغرائز والرغبات. فله دستوره وحده. . . وله طباعه وتصرفاته التي يفرضها على الناس فرضاً. ثم هو بعد هذا أو قبله. . . الإنسان المرهف الحس، العظيم النفس، الممتلئ نبلاً ورجولة وكرماً

وسيد الصفتي من هؤلاء الذين أضفت عليهم الطبيعة كل ما فيها من فن وجمال وإقبال وشذوذ حتى خط لنفسه في كتاب الحياة وسجل الخلود صفحة نيرة مشرقة سوف يتلوها على سمع الأجيال المقبلة

كان قصير القامة يلتهب نشاطاً ويمتلئ قوة، وجبروتاً. . . يزين رأسه (عمامة) صغيرة تمتاز برشاقتها وأناقتها، (وشالها) الحريري المفتول الذي يعطيك صورة واضحة لأناقة صاحبه وحرصه الدائم على أن يظهر في أجمل المناظر

ابتدأ حياته قارئاً يجيد تلاوة القرآن فعُرِف وسعى الناس إليه، ولكنه رأى أن يكون كالشيخ إسماعيل سكر قارئ مولد ومادحاً للبيت الشريف وصاحبه (ص)؛ فخرج على الناس سنة 1902 بهذا اللون الجديد الذي قربه اكثر من ذي قبل إلى نفوس المصريين، وما مضت سنة حتى زاحم الشيخ إسماعيل نفسه. . . وتفوق عليه تفوقاً محسوساً. وفي سنة 1904 انظم إلى بطانته الشيخ إبراهيم المغربي الموسيقي المعروف الذي لحن له كثيراً من الموشحات الجديدة التي كانت السبب فيما ناله الشيخ سيد من شهرة طائرة، ومن ارتفاع سريع لم يكتف به وقد ذاق حلاوة الشهرة والإقبال، فكان يقرأ أول الليل قراناً ثم يثني بالقصائد النبوية، حتى إذا كان الهزيع الأخير من الليل غنى أدوار الحمولي ومحمد عثمان وغيرهما بمصاحبة العود. . .

أتراه قد اكتفى بهذا التجديد الغريب. . . لا. . . ولعله رأى أن هذا الخلط ينفر الناس فترك القرآن والقصائد النبوية وظهر عام 1905 على تخته الموسيقي القوي يرسل على الناس سحر صوته وقوة فنه حتى تحكم في سوق الغناء وفي مسامع الشعب، فكان يشتغل تباعاً طول أيام السنة. ولكي نعطي القارئ صورة قريبة عن شهرة هذا الرجل العجيب في صدر شبابه نقول إنه استمر خمس سنوات كوامل يغني دون أن ينقطع ليلة واحدة. . . ومثل هذا في الشام!

كان صوته مركباً من خمسة عشر مقاماً تقريباً (12) بريتون (3) باص، وكان يمتاز بسلامة تامة وبأداء بارع لم يعرف (النشوز) طول حياته. ولعله من الأصوات النادرة التي كافت (تَفرْش) في غنائها حتى لتسمعها الآلاف بوضوح وجلاء.

كان أول موسيقي شرقي اعتنى (بالبروفات) اعتناء عظيماً، فكان يشتغل طول نهاره فيها دون أن يتعب أو يمل أو يشكو ألماً وتوعكاً، ولعل سحر الذهب والإقبال والمجد هو الذي كان يمد هذا الرجل بالقوة الخارقة التي لا يكاد العقل يصدقها. وإلا فهل يصدق العقل أن بشراً يشتغل أغلب يومه وأكثر ليله دون أن يستريح إلا ساعة أو ساعتين. . .؟!

عبّأ في حياته أكثر من أربعة آلاف (اسطوانة) وهو رقم تاريخي لم يصل إليه مطرب ولا مطربة في الشرق والغرب. وقد اكتسب منها الآلاف، ولكن إسرافه أضاع كل شيء إلا ذكره ومروءته وكرمه. . .

نعم باع ماله وأضاع آلافه ليشتري بها مجده وخلوده. وما بالك برجل كانت اسطواناته توزع في الشرق والغرب كأنها الغذاء الذي لا يستغني عنه حتى ظن (الشام) أن الصفتي هذا لا بد أن يكون مارداً لا تقع العين على نهايته. فلما سافر هناك ورأوه بحجمه الضئيل النحيل خابت ضنونهم واعتزموا ألا يسمعوه إلا في حفلة أو حفلتين من قبيل (الفرجة والاستطلاع). وكان الشيخ رحمه الله قد علم بهذا، فأعد العدة لحفلة الافتتاح، ثم راح يشدو ويرسل سحره وقوة فنه في عقد سحرية على هؤلاء الذين يظنون أن القوة في (العرض والطول) فماجوا وهاجوا وتقبلوا وصرخوا والشيخ يضحك، حتى إذا تأكد من النصر أراد أن ينتقم فاسكت التخت وسكت، ثم نزل وصرح للمتعهد بأنه يرغب في السفر والعودة إلى مصر بعد (يومين) لأنه قصير لا يحسن الغناء. ولا تسل عما حصل من الشفاعات والتوسلات

ولكن الشيخ رحمه الله كان ظريفاً خفيف الظل وقد أراد أن يلهو ويضحك فكلف المتعهد أن يأمر السامعين بكتابة (يفط) بهذا الشكل حرفياً (الشيخ سيد الصفتي طويل. . . الإمضاء) فنفذ الأمر في الصباح واجتمعت لدى الصفتي كل وسائل البهجة والسرور، فاستمر خمس سنوات لا يستريح فيها ليلة واحدة اكتسب فيها الآلاف. فلما رجع إلى مصر لم يرجع (بمليم واحد منها). كان في أخريات أيامه يعيش عيشة فلسفية زاهدة في كل شيء فلم يكترث (كغيره) لأن محطة الإذاعة تناسته وأهملته، بل كان يحيا حياة الأسرة الهادئة: حياة الرجل الذي شبع وشبع حتى مل كل ما يتهافت الناس عليه

لقد فُني سيد كما فُني غيره، لكن فنه سيبقى لأنه من الخلود نشأ وإلى الخلود انتهى. . .

محمد السيد المويلحي