مجلة الرسالة/العدد 311/الانتداب الفرنسي في بلاد الشرق
مجلة الرسالة/العدد 311/الانتداب الفرنسي في بلاد الشرق
للأستاذ بيير فيينو
بيير فيينو نائب البرلمان الفرنسي ووزير سابق لعب دوراً هاماً في عقد المعاهدة الفرنسية السورية سنة 1936. وقد اطلعنا في العدد الأخير من مجلة (السياسة الخارجية) على محاضرة ألقاها عن بلاد الشرق الأدنى آثرنا أن نلخصها في هذه الظروف التي تضطرب فيها سوريا في جحيم من القلق السياسي
لم أختر المعاهدة الفرنسية عنواناً لمحاضرة اليوم، ذلك لأن هذه المعاهدة ليست في ذاتها إلا جزءاً من القضية الكبرى التي تتناول صلتنا بالشرق الأدنى، ونفوذنا فيه، وسياستنا معه، وردود الفعل التي تنبعث عن هذه السياسة في بلاد شمال أفريقية
الانتداب والمعاهدة
لماذا كانت المعاهدة الفرنسية السورية مفاجأة للرأي العام؟
يتجه الرأي العام الفرنسي إلى الاعتقاد بأن فرنسا (تملك) سوريا، ولكنها لا تعاملها كما تعامل المستعمرات. بل إن واجبها أن تقوم على إرشادها والدفاع عنها، ورعاية المصالح الفرنسية فيها
والواقع أنه لا يمكن تطبيق أي لون من ألوان النظم الاستعمارية في بلاد الشرق الأدنى، ولذلك لن أبسط الحديث عن عقم الاستعمار في سوريا، ولا عن ضعف العلاقات الاقتصادية بيننا وبين بلاد الانتداب.
والناحية الجوهرية التي يجب أن ننبه إليها هي أن الاستعمار يوافق الشعوب المتأخرة التي لا تستطيع أن تقوم على إدارة نفسها. فما هو مدى الرقي في بلاد الشرق الأدنى؟
إن نسبة الأميين في لبنان تبلغ 16 % وقد ترتفع النسبة في سوريا إلى أكثر من ذلك فتبلغ 50 %، وإلى جانب هذه الطبقة المتعلمة نجد نخبة مختارة أصابت قسطاً وافراً من المعرفة والذكاء والعلم. وامتاز كثيرون منها بالقيام بأعباء الإدارة في الدولة التركية.
إن فكرة الانتداب (1) التي نصت عليها معاهدات 1919 للبلاد المقتطعة من جسم الدولة العثمانية ليست وهماً، ولكنها تطابق حقيقة اجتماعية واقتصادية وسياسية خاصة بالبلاد المذكورة، وهذه الفكرة تختلف كل الاختلاف عن الحماية، ونستطيع أن نجمل مميزاته الأساسية بالتعريف الآتي:
(إن السلطة المنتدبة هي التي تمارس الحكم لتأمين تطور البلاد تحت الانتداب وتوجيهها نحو الاستقلال)
فالسلطة المنتدبة تشرع وتحكم، ولكن كل غايتها تهذيب الشعب وإرشاده. ومهمة المنتدب أشبه بمهمة الوصي، لأن سلطته محدودة لا تتسع، زائلة لا تدوم
قد لا يرضي تعريف الانتداب على هذا الشكل بعض الناس. وقد تكون ثمة اعتبارات نظرية أخرى، ولكن هذه الاعتبارات تقتصر على وجهة النظر الفرنسية. أما الشعوب الشرقية فإنها ترفض هذه الاعتبارات في إباء وقوة، وتنظر إلى الانتداب على أنه عرض زائل ومهمة مؤقتة تنتهي مع بلوغ سن الرشد
والانتداب يتضمن في ثناياه وعداً بالاستقلال، وقد أثار هذا الوعد انتباه السكان في البلاد، وكان عاملاً في نماء الفكرة الاستقلالية، كما أن الخلاف بين الترك والعرب كان عاملاً آخر من العوامل المهمة في هذا النماء
وفي معرض التدليل على نهضة هذه البلاد يجب أن نذكر الاضطرابات السياسية التي كانت تطغي على سوريا قبل الحرب. . . وألا ننسى أن الشعوب العربية قد حاربت في صفوفنا ضد الأتراك وأن قادة الحركة العربية رفضوا نظام الانتداب منذ 1919 لأنهم إنما جاهدوا في سبيل الاستقلال والوحدة. . . ويكفي أن نعرض لذكر المليك (فيصل) فقد وجد نفسه بعيداً عن العرش السوري حين حاول أن يقنع القادة بقبول أسس الاتفاق الذي ارتضيناه معه
لعل من الإنصاف ألا نغفل أثر الوطنية المصرية في بلاد الشرق، فقد ولّد انتشار المقاومة السلبية في مصر صعوبات كثيرة اصطدمت بها إدارتنا في سوريا
وقد اتجهت سياسة فرنسا بعد الثورة السورية الكبرى اتجاها شديداً، ونستطيع أن نذكر هنا مجموعة من الوعود التي صدرت عن الحكومة الفرنسية حول هذا الموضوع
ففي سنة 1927 أكد مسيو بريان رغبة في فرنسا في أن تبقى أمينة على انتدابها. وفي عهد المفوض السامي مسيو بونسو كانت أولى المحاولات في سبيل عقد معاهدة بين فرنسا وسوريا. وقد تمخضت هذه المحاولات عن معاهدة سنة 33 التي وقعها مسيو دومارتل وفي نفس الوقت صدرت تصريحات فلاندان بقرب انتهاء الانتداب، كما نشر خطاب (هنري بيرانجيه) الذي رحب فيه بدخول العراق في عصبة الأمم، في شيء كثير من الحماس، وأشار إلى أن فرنسا ستنهج في سوريا نفس السياسة التي انتهجتها إنكلترا في العراق
وفي سنة 933 عرض مسيو دلادييه في مجلس النواب لمفاوضات مسيو بونسو وأظهر اغتباطه بعقد المعاهدة بين سوريا وفرنسا
على أن بيان العميد السامي المسيو دومارتل كان أقوى هذه التصريحات كلها. ففي أول مارس سنة 1936 صدر هذا البيان بموافقة مسيو فلاندان وزير الخارجية، وتضمن وعداً صريحاً بعقد معاهدة سورية فرنسية على مثال المعاهدة العراقية الإنكليزية
أما فيما يتعلق بالانتداب الفرنسي في بلاد الشرق فنحن نواجه وضعاً خاصاً يجب أن ننظر إليه بعين الاعتبار إذا نحن أردنا أن ندرك المعنى العام لنظام هذه المسألة المعقدة
إن الانتداب الفرنسي واحد في الشرق، ولكن ثمة دولتين مختلفتين هما سوريا ولبنان تحتاجان إلى نظام خاص يربط علاقتهما في المستقبل. ومن الخير لفرنسا أن يكون هناك معاهدتان مختلفتان لكل من هذين البلدين تأميناً للمصالح الفرنسية وحرصاً على سلامتها
ويرجع الانتداب في سوريا إلى عهد قريب. . . فقد نشأ بعد ثورة العرب ضد الترك، ولكن الانتداب على لبنان يرجع إلى مدى أبعد، ويتصل بأيام حماية مسيحي الشرق ولا سيما المارونيين في لبنان
ولقد كان هذا الانتداب في لبنان مستساغاً مقبولاً، وكانت اللغة الفرنسية شائعة، وهذا يصادف دون ما شك هوى في نفوسنا لأن لبنان يهمنا بوجه خاص كقاعدة منيعة فرنسية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط
وإذن فنحن مضطرون إلى عقد معاهدتين مختلفتين. . . وقد أشار إلى ذلك (لوسيان هوبرت) في تقريره عن المعاهدة في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، ولاحظ كيف قوبلت هذه المعاهدة في سوريا بشيء من الحيطة والحذر، بينا وجدت في لبنان رواجاً وارتياحاً عظيمين
(ولكن الواقع أن التعاقد مع سوريا شرط أساسي للتعاقد مع لبنان، ومصالح فرنسا وفائدتها من الانتداب يجب أن ترجى في لبنان لا في سوريا)
(البقية في العدد القادم)
تلخيص
شكري فيصل