مجلة الرسالة/العدد 310/من مذكرات بلنت
مجلة الرسالة/العدد 310/من مذكرات بلنت
صفحات مجهولة من حياة الإمام محمد عبده
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
10 أغسطس سنة 1903
كان الشيخ عبده قد نقل كتاب الفيلسوف هربرت سبنسر عن (التربية) من الفرنسية إلى العربية بلغة جزلة صحيحة ورأى بهذه المناسبة أن أقدمه إلى مؤلف الكتاب
فذهبت مع الشيخ عبده اليوم إلى بريتون لنزور سبنسر، في ذلك الشأن وأنبأته بأمر هذه الزيارة، فأرسل عربته وسكرتيره مستر تروتون ليقابلنا في محطة بريتون. ولما وصلنا إلى المنزل ألفينا الفيلسوف الشيخ طريح الفراش من شهر إبريل الماضي. ولم يكن المرض الذي انتابه قد اثر في عقله بتاتاً، بل ظل ذهنه صافياً وصوته قوياً ولكن يده كانت ناحلة نحول يد الهيكل العظمي. وقد استقبلنا وقتاً قصيراً قبل الغداء، ثم عاد فأستقبلنا في الساعة الثالثة، وحاول في بادئ الأمر أن يتكلم الفرنسية فتكلم ببطء وصعوبة. ثم عاد إلى الإنجليزية، ورحت بدوري أترجم للشيخ عبده
نعى سبنسر على السياسة الحديثة اختفاء (الحق) منها، وتكلم عن حرب الترنسفال فنعتها بأنها وصمة في جبين الإنسانية وقال: لا شك أننا مقبلون على عصر (قوة) عصر تثار فيه الحروب من أجل السيطرة وتباح فيها جميع ضروب الوحشية
وتناول في جلسة الساعة الثالثة ظهراً حديث الفلسفة، وسأل المفتي عما إذا كان الفكر يتطور حقا في الشرق إلى ناحية الغرب. فقال الشيخ عبده: الواقع أن الشرق يأخذ عن الغرب أسوأ ما فيه وإن كانا ما زالا مشتركين في خير الأفكار وأرقاها.
وهنا قال سبنسر: لنذهب تواً إلى صميم الموضوع. إنني أعتقد أن الفكرة عن القوة المحركة للوجود، هي ما تسميه (الله) وما نطلق عليه نحن (الرب) وهي متقاربة عندنا وعندكم. فأجاب المفتي بنظرية وجد سبنسر أنها جديدة طريفة. فقال الشيخ عبده: إننا نؤمن بأن الله (موجود) غير مشخص. فسر سبنسر من ذلك غير أنه لم يلبث أن أجاب: إن الفكرة صعبة الفهم، وزاد على ذلك: إنه من الواضح على كل حال أنكم من المتعمقين في التفكي تعمقنا نحن معاشر الأوربيين
ومع الأسف لم يكن في وسعنا أن نتمادى في هذه الأبحاث الطريفة فإن سبنسر لم يكن يسمح له بإطالة الحديث بالنسبة لمرضه. غير أني في أثناء عودتنا إلى المحطة سألت المفتي سؤالاً دقيقاً: أعتقد أن الله يعلم أنك موجود وأني موجود، أو لا تعتقد أن هذا العلم هو شخصيته؟
- إنه يعلم
- أو لا تعتقد أنه يعلم بالطيب والخبيث؟
- إنه يعلم وأنه يسر بالطيب ويستاء من الخبيث؟
- أجل
ومن سوء الحظ أن الوقت لم يتسع لنناقش سبنسر ونقف على رأيه في هذا الأمر وإن أمكن أن نلمح بريقاً خاطفاً من تفكيره في الموضوع
أما النساء اللواتي عرفتهن في صحبته، فما يزلن يلازمنه من سنوات أربع. وقد وقفت منهن على معلومات طريفة عن حياته الخاصة، وأكثرهن علاقة به امرأة صماء. وليس لديها صديق، ولم يزره أحد من شهر إبريل الماضي سوى ثلاثة أو أربعة أصدقاء، ولكن صحته بدأت تتحسن، وشرع يستعيد بعض نشاطه، وأمكنه أن يقضي الصيف قرب (تل ليف) وأن يخرج برفقتهن إلى نزهات خلوية، وكان يجد سروراً مضاعفاً من رؤية الزهور والطيور، وهو الآن يجالسهن ويلاعبهن الشطرنج والضامة.
وتعميماً للفائدة نثبت هنا ما كتبه الشيخ رشيد رضا في تاريخه عن الإمام محمد عبده ومقابلته للفيلسوف سبنسر ليمكن المقارنة بين ما سجله بلنت وبين ما دونه رشيد رضا:
(قلنا إنه في سفره الأخير إلى إنجلترا عام 1903 زار الفيلسوف سبنسر، وكان ذلك في 10 أغسطس. وكان الفيلسوف مصطافاً في برايتون من جنوب إنكلترا وقد نهاه الأطباء عن كثرة مقابلة الناس، وعن الحديث مع أحد أكثر من عشر دقائق لمرضه مع شيخوخته، ولكنه سر من حديث الأستاذ الإمام، ودعاه إلى الغداء معه، وأطال الحديث إليه في فلسفة الدين والأخلاق والأفكار والمادية وسياسة أوربا
وأنني أذكر ملخص ما حدثنا به أستاذنا من ذلك وأرمز إلى سبنسر بحرف (ف) المقتطعة من (فيلسوف) وإلى شيخنا بحرف (م) المقتطفة من كلمة (إمام):
ف - هل زرت إنكلترا قبل هذه المرة؟
م - نعم زرتها منذ عشرين سنة
ف - كيف وجدت الفرق بين إنجلترا اليوم وإنجلترا منذ عشرين سنة؟
م - إنني زرت هذه البلاد في المرة الأولى لغرض سياسي خاص هو البحث مع رجال السياسة في مسألة مصر والسودان عقب الاحتلال البريطاني وأقمت أياماً قلائل لم يتعد عملي فيها ما جئت لأجله. وقد الممت بها الآن منذ أيام فلم أدرس حالة الناس، وإنما يجب أن آخذ عنكم ذلك
ف - إن الإنجليز يرجعون القهقرى فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ عشرين سنة
م - فيم هذه القهقرى وما سببها؟
ف - يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة، وبين تقدم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق قومنا وهكذا سائر شعوب أوربا
م - الرجاء في حكمة أمثالكم من الحكماء واجتهادهم أن ينصروا الحق والفضيلة على الأخلاق المادية
ف - إنه لا أمل لي في ذلك لأن هذا التيار المادي لا بد أن يأخذ مداه وغاية حده في أوربا. إن الحق عند أهل أوربا هو الآن للقوة
م - هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها.
ف - محي الحق من عقول أهل أوربا بالمرة، وسترى الأمم يختبط بعضها ببعض ليتبين أيها الأقوى ليسود العالم أو يكون سلطان العالم
ثم انتقلا إلى الكلام في الفلسفة الإلهية
ف - ما يقول علماء الإسلام في الخالق، هل هو داخل العالم أو خارجه؟
م - إن علماء الأثر يقولون إن الله تعالى فوق كل شيء بائن من العالم، والمتكلمين يقولون: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، والصوفية القائلين بوحدة الوجود يقولون: إن كل شيء في العالم مظهر من مظاهر وجوده وذكر له ملخص مذهبهم.
نوفمبر 1903
انتهز الشيخ عبده فرصة قدومه إلى إنجلترا فزار جامعة اكسفورد واستقبل استقبالاً حافلاً من أساتذتها خصوصاً المستشرق براون الذي أقام له حفلة تكريم شهدها أساتذة الكلية. ولدى تفقد الشيخ عبده القسم الشرقي من مكتبة الجامعة عثر على مخطوطات عربية نادرة، أكثرها معروف بالاسم فقط لدي رجال الزهر؛ واهتم اهتماماً زائداً بمخطوط لأحد فلاسفة العرب (السباعي فيه رسائل إلى فردريك الكبير، وقد ذكر الشيخ عبده انه سوف يكلف إدارة الأوقاف بنسخ المخطوط
وتناول الشيخ عبده في حديثه معي زيارته لتونس والجزائر وشرح سوء حالتهما بالمقارنة بينهما وبين مصر، ووصف تلك المقارنة بأنها كالفرق بين الظلام والنور. ثم عرجنا في الحديث على موقف الخديو فقال الشيخ عبده: إن الخديو جشع يعمل كل شيء في سبيل جمع المال، وإنه يريد أن يستبدل ببعض ما يملك أطياناً وعقاراً كلها وقف. ثم إن الخديو ينم ظاهره عن صداقته، ولكنه يعمل في الباطن لإقصائه عن وظيفة الإفتاء
17 يناير سنة 1904
أفضى إلي المفتي بأنه كان في الإسكندرية وقابل الخديو، وهو كعادته معه، له مقابلة حسنة، ومقابلة سيئة. ظاهره ضحك وباطنه دسائس وانتقام. ويقول إن الخديو متضايق منه بسبب الفتاوى الثلاث التي أجاب بها أسئلة مسلمي الترنسفال وهي:
1 - هل للمسلم المقيم في بلاد أجنبية أن يأكل لحماً لم يذبح على الطريقة الإسلامية؟
2 - هل للمسلم المقيم في بلاد أوربية أن يلبس القبعة؟
3 - هل للشافعي أن يقف في صف واحد مع الحنفي في الصلاة؟
وقد أجاب المفتي بما يرضي ضميره. ولكن الخديو اعتبر ذلك كفراً. مع أنه هو نفسه يأكل ويلبس القبعة، ولا يقيم الصلاة في البلاد الأجنبية. على أن كرومر في جانب المفتي، وذلك ما يوجب الدهشة!
22 يناير سنة 1904 تغدى المفتي معنا في الحديقة، تحت شجر الغاب الإفرنجي، وهو متألم لوفاة عالم من علماء الأزهر وخصوصاً أن الخديو مصمم على أن يحدث متاعب لخلفه. وعندما نتكلم على الخديو ينعته بقوله (رجلنا الصغير)!
ومن أحاديثه: أن الخديو منهمك الآن في الأعمال المالية، والتجارية، إلى حد أن كرومر خيره بين أن يظل خديوياً محترماً وبين أن يكون تاجراً محترفاً. وهذا حق، وخصوصاً أن بعض أفراد أسرة محمد علي يحبون المال حباً جماً.
13 إبريل 1905
في حديث اليوم مع الشيخ عبده تفضل وأخبرنا بقصة طريفة لا بأس من إيرادها: ففي أثناء نفيه إلى بيروت عام 1883 حدث أن كان قسيس مقيماً في إنجلترا اسمه اسحق تيلور يقوم بدعاية واسعة النطاق الغرض منها توحيد الإسلام والنصرانية على أساس فكرة التوحيد الموجودة في الإسلام والشائعة عند الكنيسة الإنجليكية. وكان هناك شخص إيراني من أتباعه اسمه ميرزا بكر يشايعه في فكرته. وقد تمكن من التأثير في الشيخ عبده، وفي طائفة من علماء دمشق، فكتبوا إلى القس تيلور في الموضوع. وما إن وصل الكتاب إلى القس حتى فرح به ونشره مستعيناً به على صحة دعواه، إلا أن السلطان عبد الحميد كلف سفيره في لندن أن يستقصي حقيقة الموضوع ويقف على أسماء موقعي الكتاب، فقابل القس وحصل منه على هذه الأسماء؛ وقد أحاق بهؤلاء العلماء فيما بعد عذاب أليم وقرر السلطان إبعادهم عن الديار السورية. . . ويقول الشيخ عبده إن السر في غضب السلطان أنه خشي أن يعتنق الإنجليز الإسلام، ثم يطلبوا أن يكونوا أصحاب الدولة في الإسلام وتكون الملكة فيكتوريا ملكة المسلمين. . . ويذهب السلطان من السلطان. . . وسبحان مدبر العقول
19 فبراير 1905
عاد الشيخ عبده من السودان وأطلعني على تفاصيل زيارته وأنه مغتبط بما رآه وشاهده، فالحكومة هناك أحسن إدارة منها في مصر، والأهالي قانعون حتى عن مسألة النخاسة، والدراسة في كلية غردون على أساس معقول موافق
وعنده أن قانون العقوبات السوداني أسهل وأحسن من القانون المصري، وأن السردار يحكم بالعدل ويسود بالحكمة واللين، وأن هناك شعوراً حسناً متبادلاً بين الإنجليز والسودانيين
17 مارس 1905
ودعت الشيخ عبده هذا الصباح. ويلوح لي أن هذا السفر إلى الأبد فلا عودة منه. على أن المكان - عين شمس - حبيب إلى نفسي لشمسه المتألقة وسمائه الصافية وما يكتنفه من خضرة وطير. فيا إلهي! من ذا الذي يرعى ذلك كله إذا ما ذهبت؟
وحضر الشيخ عبده إلى المحطة يودعني ويقيناً نتحدث طول الوقت إلى آخر لحظة تحرك فيها القطار. وكان وداعاً مؤثراً حزيناً لأن شعوري أوحى إليّ بأني سوف لا أراه بعد ذلك
8 يوليه 1905
إن الحادث الذي هز عواطفي هو حادث وفاة الشيخ عبده. فأن ذلك من أفدح النكبات التي صادفتها في حياتي كذلك موته خسارة جسيمة للعالم الإسلامي. وإنه يداخلني الريب في كيفية موته، فربما كان موتاً غير طبيعي، وإن له خصوماً سياسيين كثيرين
15 يوليه 1906
قدم مصطفى كامل باشا إلى لندن وجرت بيننا مقابلة طويلة استعرضنا فيها موقف الخديو والأحوال الدولية وسياسة الاحتلال البريطاني والغازي مختار. . . ثم انتقلنا إلى الحديث عن المرحوم الشيخ عبده فذكره مصطفى كامل بتحفظ وأخذ عليه تمسكه بمنصبه الرسمي على رغم تحقير الخديو له. وهو لو احتفظ بكرامته وترك المنصب لجعلناه إمامنا في الحرية والوطنية، ثم تنازل حادث وفاته وقال إنه كان بداء السرطان كما أخبره طبيبه قبل موت الشيخ بثلاثة شهور
محمد أمين حسونة