مجلة الرسالة/العدد 310/من برجنا العاجي
مجلة الرسالة/العدد 310/من برجنا العاجي
كان إبسن يقول: (الرجل القوي هو الفرد المعتزل) كان إيماني شديداً بهذه الكلمة. وما برحت أرى فيها دستوري الذي لا ينبغي أن أحيد عنه. فأنا كلما انطويت على نفسي واعتصمت ببرجها أعطتني كل ما أريد من قوة ومنعة. وكلما التمست ذلك عند الناس أو عند أصحاب الجاه والسلطان شعرت أنهم أضعف من أن يستطيعوا لمثلي خيراً أو شراً. فليست قوتي المنشودة في ألقابهم ولا في ثرائهم، إنما هي في شيء ليس في مقدور أحد أن يمنحنيه غير نفسي. فالدولة لم تستطع ولن تستطع أن تنقص أو تزيد في قوة قلمي أو رأيي، ولم تستطع ولن تستطع أن تخفض أو ترفع من قدري وقيمتي في نظر الزمن والتاريخ. وهنا كل متعتي فأنا إذن لا أحتاج إلى الدولة في شيء، لأنها لا تستطيع أن تمنعني أو تمنحني شيئاً ذا أثر في كياني الحقيقي
هذا رأي الأستاذ العقاد أيضاً في كتاباته عن (الدولة والأديب). وقد أشار إلي فيها بما يفيد أني مخالف لرأيه. وهذا غير صحيح. فأنا يوم ذكرت الدولة في مقام الأدب لم أرد منها تشريف الأدب بحمايتها؛ فالأدب شريف بدونها وهي لا تستطيع له تشريفاً، إنما هو الذي يستطيع إذا أراد أن يشرفها وينوء بها. إنما أردت من الدولة أن تنظم بوسائلها المادية أسواق الأدب المادية كما تنظم بقية المرافق الحيوية الأخرى حتى يتطهر من السماسرة والمستغلين. إني أردت من الدولة أن تصون نتاجنا من جشع الطامعين كما تصون مال الأفراد من عدوان اللصوص. فلقد كان كل عجبي أن الدولة لا تعترف بمصالح الأدباء اعترافها بمصالح الأفراد، فهي تتركهم نهباً للناهبين حيث تقوم وتقعد إذا استبد تاجر بسوق الغلال، أو استولى مراب على بعض المال!
توفيق الحكيم
صفحة من حياة شاعر
عاشق ومجنون!. . .
للأستاذ صلاح الدين المنجد
كان اسمه جيرار دي نرفال، وكان مولده في باريس حيث الغيوم البواكي وحيث الجو المكفهر. أما أبوه فكان طبيباً في الجيش، وأما أمه فكانت بنت بائع فقير. فنشأ في قرية أودعه فيها أبوه، بعد أن قضت أمه، وأرسل إلى القتال. فنبت بين الحقول الواسعة، والسهول المتوثبة نحو الأفق البعيد. وطابت له الحياة في هذه القرية التي لا تسمع فيها الأصوات النابية تتعالى على جنبات السين، ولا يٌرى فيها فوران الناس بين الأحياء والشوارع، وإنما تسمع فيها أصوات العجائز الخافتة، وهن يتحدثن عن طرائف السحرة والجان، ويرى فيها أسراب الغنم تقودها الفتيات والرعيان. وأحب الحياة في القرية، فأثر ذلك في حياته. ثم خلّف القرية إلى باريس ليشدو فيها العلم. وما كاد يبلغ الثانية والعشرين حتى أخرج للناس طائفة من أشعاره. ثم قرأ (غوته) فكلف بكتبه، وعزم على نقل (فوست) إلى الفرنسية. وسرعان ما نفذ ما عزم عليه، فجاءت آية رائعة أعجب الناس بها كثيراً. فقدروا صاحبها ورمقوه. ودفعه هذا الظفر الذي سعى إليه مذ سلك طريق الأدب إلى انتخاب قطع من شعر (رونسار) وأخرى من أشعار (غوته) و (شيلر) ليقدمها إلى الناس. ثم انكب على الشعر يقرأه وينظمه ووجد أن حياة الأديب، وما فيها من كسل وما فيها من أحلام، قد صادفت من نفسه هوى، فهو لا يصلح بعد اليوم إلا لها، فقد كان له مزاج الأديب وإحساس الشاعر. وكان كما يقولون عنه دقيق الفكر رهيف الحس واسع الخيال، يسكن إلى الأحلام، ويقضي ساعات من نهاره وساعات يفتش عن حلم يرضى عنه. ويظهر لنا من أشعاره أنه كان يجد في الأوهام راحة لنفسه. . . فهو لا ينفك يتوهم ويتوهم. فهو يصف لنا، كيف يستشف أشباح الجان من وراء الغيوم. . . فيصيخ بسمعه إلى عزيفهم المبهم تارة والمخيف طوراً. . . يرسلونه مع زفيف الريح الثائرة. ويراهم مختبئين بين طيات السحاب. . . فيناديهم، فيأتون سراعاً يحيطون به. . . يكلمونه قليلاً ويحدثهم قليلاً. ثم إنه ليتمثل نفسه طائراً. . . يقفوه نفر من الجن، يسرح معهم في الفضاء حتى يصل إلى السماء، فينظر إلى الأرض الخاضعة تحت قدميه، أو يتمثل نفسه حيناً آخر هابطاً إلى سيف البحار ليستجم قليلاً، ثم ليهبط إلى قرارة البحار فيرى الحيتان والأسماك، ويزور أميرات الجن في قصورهن المتلألئة في قاع البحار
وكان لابد له وهو في مثل هذا الحس الرهيف والخيال العميق والسن الباكرة أن يحب ويعشق. ولقد أحب، ولكن حبه كان لوناً من الحب لم يكن للناس به عهد من قبل. فإن فيه كثيراً من الطرافة التي تعجب، والفكاهة التي تطرب. فهو لم يعشق فتاة رآها في الشارع أو الطريق، ولا لقيها في الحقل أو عند النبع، وإنما عشق فتاة رآها في حلمه. فلقد مسّ الكرى أجفانه ذات ليلة مساً رقيقاً أنساه نفسه ودنياه: (هأنذا في قصر (مورتو فونتين) أرتع بين رياضه، والقمر الساجي يرسل أشعته فتهوى فاترة كليلة. . . تضئ القصر ذا الجبهة الحمراء ثم تختفي بين أزهار الزيزفون. وفجأة تبدو فتيات حسان. . . يرقصن على النغم، ويغنين الأغاريد؛ وكنت وحيداً فحدقت فيهن ورأيت فتاة شقرا ناعمة الشباب غضة الجمال قد اكتنفنها وأخذن يتمايلن معها. سمعتهن ينادينها: تعالي يا أدريان! فملكت عليّ فؤادي؛ وأقبلن نحوي فرقصن. هاهي ذي بين ذراعيّ. . . أرقص معها. لقد سمعت من يهمس في أذني أن قبلها ولا تخف فهي لك. فضممتها إليّ وقبلتها، ثم جلسنا حولها لتغني لنا. فغنت بصوتها العذب الحلو أغرودة من أغاريد الأقدمين تفيض بالحزن، وتفيض بالسحر، فيها قصة تلك الأميرة التي أودعوها البرج الشاهق. . . لأنها أحبت فتى غرانقاً
(وكانت الفتاة الشقراء تغني فتنحني الأشجار، وتأتي أشعة القمر ترقص حواليها فتحفها بنور يبهر الأبصار ويعشيها. وغفلنا عن الليل، وحسبنا أننا في جنة عدن، فقمت إلى غصن من الغار لأضعه على رأسها، ولكنها قامت تتثنى وتلهو. . . ثم اختفت بين الخمائل عن أبصارنا. . . وتلاشى صوتها. . . ونأى طيفها، ولكن صورتها ما تزال في نفسي لا تغادرها بعد أن تغلبت على كل صورة)
تلك قصة حبه، ولقد كان وفياً لهذا الطيف الذي قبله ورآه واعتقد أنه راجع إليه لا محالة. . . فسماه (زهرة الليل التي تفتحت تحت أشعة القمر الشاحب) وسماه (الطيف الوردي الأشقر الذي اختفى بين الأعشاب، والتف بالسحاب)
وفكر شاعرنا طويلاً في زهرة الليل، فانكب على السحر وما يمتّ إليه بسبب يدرسه ويقرأ أصوله كأنما أراد أن يسخره لإحضار أدريان. وكان يسمع عن الشرق أقاصيص حلوة طربت لها نفسه ورضى عنها هواه، فتمنى لو زار تلك البلاد التي هبطت إليها الأحلام، ورتعت بين جنباتها الأوهام، فيدرك ما فيها من أمور يحيط بها الغموض والخفاء. وخيل إليه أن أدريان هي بلقيس صاحبة العرش العظيم، أتت إلى القصر الأحمر لتهمس في أذنه أسرار الدنيا وتدله على طريق الخلود ويذكر لنا من كتب عنه أنه كان يعتقد في تقمص الأرواح، وأن نظرته إلى أدريان كانت نتيجة لذلك الرأي. ولقد أصبح هذا الرأي لديه يقيناً عندما قضى بين دروز سورية ردحاً من الزمن غير قصير. على أننا لا ننكر أن للمخدّرات التي كان يقتل بها جسمه ويفني نفسه أثراً في إخلاده إلى ما أخلد إليه. والعجيب أن يعتقد بأن تلك الأوهام حقائق، على حين يعتقد الناس أن الحقائق أوهام. وكان من خبره بعد ذلك أنه التقى ذات ليلة براقصة في حانة بباريس فحسبها أدريان الحبيبة. وبعث الهوى الأول وهاج الشوق القديم، فقال في نجواه لنفسه: لقد عادت إلي بعد أن اختفت بين الرياض. ولازم المقهى لا يغادره إلا لحاجة ليملي بصره من جمال هذه الراقصة التي تقمصتها روح أدريان. وكان يغمرها بأزاهيره التي كان يرسلها وعليها اسمه. . . ملتمساً بذلك لنفسه وصلاً عندها، قانعاً بالنظر دون الكلام. ولكنها ازوّرت عنه بعد أن رأت جنونه وعلقت فتى كان يغني فتزوجت به
وزاد جنون شاعرنا عندما تخطى الثلاثين، فقد رأى في إحدى الأماسيّ نجماً يضطرب في السماء، فضحك له وظن أنه بلقيس تناديه لتذهب به إلى الشرق. فأخذ يقهقه ويغني ويقفز ويبكي، وينزع أثوابه ويمد يديه نحو النجم المتلألئ منادياً تارة ومغرّداً أخرى حتى مر به بعض من عرفه، فأشفقوا عليه ورثوا لحاله وقادوه إلى الطبيب
وذهب ما ألمّ به بعد ثمانية شهور قضاها في مصح للطبيب (بلانش) فعزم على الرحيل إلى الشرق. فترك باريس سنة 1843 وكان له من العمر خمس وثلاثون سنة قاصداً جزيرة مالطة، ثم رحل عنها إلى الإسكندرية فالقاهرة. فراعه منها آثار مدنيتها القديمة وعزّها الخالي، وأعجبه زي المصريين فتزيّا به، وحاول أن يتعلم العربية فلم يفلح. ثم ترك مصر قاصداً سورية ومعه جارية سوداء اسمها زينب
وجد شاعرنا في سورية ضالة نفسه. فقد درس ما فيها من ديانات، فأعجبته منها الدرزية. وزاد يقينه بالتقمص واعتقد أن بلقيس لا بد آتية إليه بعد أن فرت أدريان وأعرضت عنه جون. ألم يجتمع ببلقيس فوق ثبج البحر على سفينة صنعت من الذهب، ورصعت بالدر، وحفت بها الجان، فضمها إلى صدره وروى فمها الضمآن من قبلاته؟
وعاد عقله إلى الاختلاط فترك بيروت إلى القسطنطينة فأقام بها زمناً، يقول (بلغت البسفور. . . فالتفتّ نحو مصر الجميلة فإذا هي وراء الأفق البعيد) (لقد ذكرت وطني الذي تركته منذ شهور، عندما وطئت قدماي هذه الأرض الأوربية التي استولى عليها المسلمون. والتفت حواليّ. . . فإذا أنا أمام حلاق أرمني يقص اللحى. . . ويقدم القهوة. ورأيت جمعاً من الكلاب النائمة على الطريق. ولقيت شيخاً وقوراً يحمل عمته الكبيرة مستلقياً على العشب. . . نائماً ملء عينيه، يحلم بالجنة التي وعد الله عباده الصالحين)
وعاد جيرار إلى باريس فكتب (مشاهد من الحياة الشرقية) أخرجها للناس بعد أربع سنوات. وما زال يتنقل بين السجون لجنونه والبلاد المجاورة، برماً ببلاده ومحيطه، سائلاً ربه (ألا يبدل من حوادث الكون شيئاً، وإنما يبدل ما يحيط به من الأشياء ليعيش وحيداً في عالمه الجديد) مخرجاً للناس (ذكريات ونزهات) و (بنات النار) و (قصور بوهيميا الصغرى) حتى لقي مصرعه الذي كان يمشي نحوه ببطء منذ زمن طويل.
فقد ألحت عليه الأوهام واشتدت في الإلحاح فأذعن لها، واشتط في الإذعان؛ وخيل إليه ذات ليلة أنه سيلقى بلقيس، فكتب إلى صديق له: (لا تنتظرني هذا المساء؛ فإن الليل سيكون أسود أبيض) ثم هام على وجهه في طرقات باريس ذاهلاً حتى انتهى به المسير إلى مكان فيه أقذار وأوساخ فطاب له الجلوس عنده. فلما وهن الليل سمع غراباً ينعق. . . فحسب أنه رسول بلقيس الحبيبة إليه، فناداه وحدثّه. ثم قام إلى نافذة فربط بها حبلاً علّقه في عنقه ونادى: (هأنذا قادم إليك) وما هي إلا ساعات حتى فاضت روحه وانتهت مأساته بعد أن قضى سبعة وأربعين عاماً يقظان حالماً. . . وخلّف لنا آثاراً مملوءة بالحسن من الوصف والفريد من المعاني.
صلاح الدين المنجد