انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 310/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 310/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 06 - 1939



حول مقال

ما هي الحياة؟

للأستاذ عبد الله عشري الصديق

سيدي الأستاذ الجليل صاحب الرسالة:

قرأت في العدد 300 من (الرسالة) الغراء مقالاً للأستاذ نصيف المنقبادي في موضوع (ما هي الحياة) قابل فيه الكاتب الفاضل بين أظهر خواص الكائنات الحيّة وما يماثلها في عالم الجماد، وخرج من تلك المقابلة (بأنه لا يوجد فرق جوهري بين هذين العالمين) والحقيقة التي لا تقبل الشك هي أن هذا الفرق (الجوهري) بين الأجسام الحية وبين الجمادات موجود بصورة واضحة في كل واحدة من تلك الخواص التي أوردها الأستاذ في مقاله. وثمة فرق جوهري آخر يعلق عليه علماء البيلوجيا أهمية كبرى في تفهم ماهية الحياة. وسنعمد في هذه العجالة إلى إثبات وجود هذه الفروق متوخين في ذلك الفائدة العامة وخدمة الحقيقة والعلم

الشكل النوعي

يفهم مما جاء في مقال الأستاذ تحت هذا الباب أنه إنما يعني (بالشكل النوعي) الصورة الخارجية للجسم حياً كان أو جماداً؛ فهو يحدثنا عن أشكال البلورات الهندسية وكيف أن هذه ثابتة في النوع الواحد تماماً كما هو الحال مع الحيوان حيث (تقترب أشكالها باقتراب أنواعها) وكل هذا صحيح لا غبار عليه إذا كان المقصود بالشكل النوعي هو الصورة الخارجية دون ما اعتبار للحجم. والذي نعرفه ويقره العلم الحديث هو أن الشكل النوعي يشمل زيادة على الصورة الخارجية الصفة الأخيرة التي ذكرناها وفيها تختلف الكائنات الحية عن الجمادات اختلافاً ظاهراً. فالمعروف لدى كل إنسان هو أن للأحياء (المعاصرة على الأقل) أحجاماً ثابتة تختلف باختلاف أنواعها إلى حد ما. فالنملة مثلاً لا يمكن أن تكبر حتى تصبح في حجم الفيل؛ ولا يمكن لشجيرة القطن أن تنمو حتى تبلغ حجم شجرة السرو أو السنديانة، كما أننا لم نسمع قط بآدمي بلغ طوله ثلاثة أمتار. أما الجمادات فإننا لا نعرف لها أحجاماً ثابتة؛ فبلورة ملح الطعام قد تكون في حجم الجزيئة وقد تكبر حتى يزيد حجمها على حجم الكرة أو أكثر من ذلك فهي ليست ذات حجم ثابت خاص

صحيح أن أشكال الكائنات الحية في تغيّر وتحول مستمرين بحكم ناموس التطور، وهذه الحقيقة عينها هي أنصع دليل على وجود الفرق بين تلك الكائنات وبين الجمادات. والذي نعرفه ويعرفه معنا الأستاذ هو أن شكل الفرس بل وحجمه أيضاً قد تغيرا كثيراً عما كانا عليه قبل ملايين السنين. ومثل الفرس الفيل وغيره من أنواع الحيوان، ولكن العلم لم يحدثنا بأن بلورة الملح قد تغير حجمها أو شكلها منذ أن وجد الملح على هذا الكوكب. وأما القول بأن البلورات المعدنية الصرفة (تستطيع) إذا (غطست) في سائل مشبع من مادتها أو فوق المشبع أن تنمو فتعيد الجزء المصاب إلى حالته الطبيعية فهو دليل آخر على وجود الفرق بين الأحياء والجمادات، وإلا فأي معنى يبقى للفظة غطست إذا لم يكن كل معناها هو تضمن قوة خارجة عن البلورة تقرب بين ذراتها فتتصل ببعضها بمجرد فعل الألفة الكيميائية؟

والفرق واضح بين ما يجري في هذه الحالة وبين اندمال الجرح أو نمو العضو المقطوع بنمو خلايا الجسم الحي من الداخل وبدون استعانة بقوة خارجية ظاهرة

تغذي الأحياء والجمادات

والفرق واضح أيضاً بين تغذي الأحياء وتغذي الجمادات؛ فبينما تتغذى الأولى بتحويل المواد الأولية إلى مادتها العضوية تكتفي كمية الهواء بزيادة جزيئات حامض الكربنيك في حالتها الطبيعية إلى جزيئاتها، وليس لها في هذه العملية نصيب ظاهر ولا فائدة محسوسة. والذي يدعو إلى العجب حقاً أن يكون خير مثال عند الأستاذ لتغذي الجمادات (بالمعنى الحقيقي التام) هو ما يحصل من احتراق الوقود في الآلات الميكانيكية فإن هذه كما هو الحال مع كمية الهواء لا تستطيع تحويل مادة الوقود إلى حديد أو غيره من نوع العنصر الذي تتركب منه أجزاؤها، وأما أن يكون التفكير والقوى العقلية وما إليها من مصدر واحد فقط هو الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء فهو غلو لا نقر عليه أحداً

التنفس في الأحياء والجمادات أما التنفس أو استعمال الأكسيجين الموجود في الهواء بواسطة الأجسام الحية فهو الفرق الجوهري الذي ذكرناه في أول هذا المقال وقلنا: إن العلماء يعلقون عليه أهمية كبرى في تفهم ماهية الحياة. وقد مرّ الأستاذ بهذه الخاصية بالذات مرّ الكرام وكان الأجدر به أن يقصر كل مقاله على بحثها ودرسها. ولأهميتها الكبرى سنبقيها إلى آخر كلمتنا هذه لنوفيها بعض الحق ونوضح ما ذهبنا إليه من أن فيها فقط يمكننا أن نعثر على الفرق الجوهري بين الأحياء والجمادات

تحرك الأحياء وتحرك الجمادات

يختلف تحرك الأحياء عن تحرك الجمادات في أن تحرك الأولى يكون بمحض إرادتها إلى درجة ما تختلف باختلاف مستوى الحيوان في سلم النشوء. أما تحرك الثانية فهو نتيجة لفعل القوى الخارجية كالرياح أو القوى الجاذبة أو الدافعة وغيرها من العناصر وليست حركة براونية إلا مثالاً للنوع الأخير كما أنه بعيد جداً عن الصواب أن تكون حركة الأجسام (تحت تأثير الجاذبية أو الألفة الكيميائية) حركة اختيارية؛ فبمجرد تسلط هاتين القوتين عليها يخرج بها عن دائرة الاختيار. ولكي نوضح ذلك نضرب مثلاً بحركة أناملي وأنا أحبر هذا المقال؛ فما أعظم الفرق بين هذه وتلك؛ ونعني حركة ذرات الأملاح في محلولاتها. أما حركات الحيوانات ذات الخلية الواحدة وهي كثيرة الشبه بحركة ذرات الأملاح فأنها تختلف عن هذه في أنها لا تكون إلا لدفع أذى أو الحصول على قوت، ومعنى ذلك أنها تكون لفائدة تعود على الجسم الحي. وتختلف عنها حركة الآلات الميكانيكية في أن هذه الأخيرة تفقد فقداناً وقتياً متى نفذ الوقود بينما يموت الجسم الحي إذا فقد الغذاء وليس الموت معروفاً بين الجمادات

التأثر في الأحياء والجمادات

يخطئ الذي يقول بأن تأثر الأحياء كتأثر الجمادات. فالمواد المفرقعة التي (تغضب) وتنفجر لا تستطيع أن تجمع نفسها (وتهدأ) أو تخفي غضبها كما يفعل الأحياء. وتأثر مواد التصوير الشمسي بالضوء لا يجلب لهذه المواد فائدة ما بخلاف الحال مع الأحياء التي تتلون بلون المحيط لتتقي شراً قد أحدق بها، أو على الأقل لمثل هذه الغاية تتلون وهي تسترد حالتها الطبيعية متى زال الخطر أو انتشلناها من المحيط الذي كانت فيه.

ثم إنه ليس صحيحاً أن الوتر في الآلة الموسيقية يهتز اهتزازاً (ذاتياً) عندما يدق الإنسان على وتر مقابل. والذي يحصل تماماً هو أن اهتزاز الوتر الأول يهز ذرات الهواء الموجودة في محيطه، ويحدث هذا الاهتزاز أمواجاً تسبح في فضاء الكون بأسره. ولما كانت هذه الذرات قريبة من أخواتها فإنها تحدث بواسطة الأمواج الآنفة الذكر اهتزازاً تنقله هذه بدورها إلى الوتر المقابل؛ وبهذه الطريقة نفسها ينتقل الصوت من أقاصي الأرض إلينا عندما نجلس إلى الراديو.

التفاعل مع البيئة

وهناك اختلاف آخر بين الأحياء وبين الجمادات: هو تبادل التأثر بينها وبين المحيط، وهذا يختلف في الأولى عنه في الثانية. فبينما لا يكون التأثر عند الأحياء إلا بقصد الحصول على فائدة ما أو الخلاص من خطر داهم إذا به ليس كذلك عند الجمادات. ونحن لا نستطيع أن نفهم الجسم الحي مستقلاً عن محيطه، فهو ناقص بدونه بخلاف الجمادات التي لا أثر للمحيط فيها إلا بقدر ما يكون بينها وبينه من تفاعل كيميائي لا يتم إلا بتدخل عناصر غريبة عنها. فهذه الورقة التي أكتب عليها لا تتأثر مطلقاً بانعدام الأكسيجين في الغرفة، وكل إنسان يعرف ما يقع للكاتب عندما يحصل ذلك لا سمح الله. والدور الذي يلعبه الأكسيجين في عالم الأحياء هو الفرق الجوهري بينها وبين الجمادات.

نظرية (نوموغرام) الدم للبروفسور هندرسن

كلنا يعرف ضرورة غاز الأكسيجين للكائنات الحية. والواقع أنه لا يمكن تحديد الحياة بدون اعتبار أمرين في غاية الأهمية؛ هما: كيمياء الغازات وعلى الخصوص غاز الأوكسجين. والصفة التي يمتاز بها الجسم الحي من أنه يكون ومحيطه وحدة كاملة حتى ليفقد صفة الحياة في غير ذلك الوضع. وهذا بخلاف الحال مع الجمادات التي كل تأثرها ليس إلا من قبيل التفاعل السلبي مما لا يمكنها التسلط عليه بحال من الأحوال. والمفهوم أيضاً أن العلم الحديث لم يستطع بعد أن يتوصل إلى معرفة جميع المواد الكيميائية التي يتركب منها البروتوبلاسم وكل ما توصل إليه في هذا المضمار لم يتعد إثبات نقطة واحدة تحقق أنها ذات أهمية كبرى هي أن المواد التي تتركب منها الأجسام الحية من التعقيد بحيث أنه لا يمكن معرفتها معرفة صحيحة تامة. وقد جاءت نظرية العلامة هندرسن بما يؤكد هذه النتيجة. وسنحاول أن نشرح قدر الاستطاعة هذه النظرية الفريدة؛ فمنها فقط يمكننا أن ندرك الفرق الجوهري بين الأحياء والجمادات

كانت النظرية القديمة الخاصة بصلة الدم بغاز الأكسيجين وأهمية هذا في التنفس والتغذية وإزالة الفضلات في الجسم في غاية البساطة، فهي تتخلص في أن هناك مادة في الدم تعرف بالهيموجلوبن تتحد بالأكسجين الموجود في الهواء وفق المعادلة:

+

ولا شك أن لهذا الاتحاد أهمية كبرى في تفهم ماهية الحياة. غير أنه قد ثبت بالبحث أن ثمة نقصاً في هذه المعادلة؛ فقد قرر العلامة باركروفت أنه زيادة على الصلة الموجودة بين كمية الأكسجين التي يمتصها الدم من الهواء فإن هناك صلة أخرى بين هذه الكمية وكمية ثاني أكسيد الكربون الموجود في الخلايا الحية. ولهذا الاكتشاف قيمته من حيث إنه قد أرشدنا إلى تغير قدرة الدم على امتصاص الأكسجين بتغير كمية ثاني أكسيد الكربون الموجود في الألياف التي يتركب منها الجسم الحي وهنا لزم تعديل المعادلة الأولى على الصورة الآتية:

ومعنى هذا أنه متى عرفنا مقدار أي اثنتين من هذه المواد غير الثابتة التركيب أمكننا معرفة المادة الثالثة بمجرد النظر إلى المعادلة. غير أن العلماء الثلاثة ج. س. هالدين، وكرسينانوس، ودوجلاس قد استطاعوا إثبات وجود صلة أخرى مشابهة للتي ذكرنا بين ثاني أكسيد الكربون، والكربونات، والأكسجين إذ وجدوا أن كمية الكربونات تقل بزيادة كمية الأكسجين؛ وهكذا تعدلت المعادلة الثانية فصارت:

وو

وبمتابعة هذه الطريقة في التحليل استطاع العلامة هندرسن أن يثبت وجود معادلة رابعة:

  • )) =5

وو ثم خامسة:

من هذا يفهم أننا لا زلنا في المرحلة الأولى في محاولتنا الوصول إلى معرفة كيمياء الدم، إلا أن ما عرفه العلماء حتى الآن قد أوجد مجالاً للتفكير أدى إلى إجراء تجارب عديدة أثبت بها العلامة هندرسن أن الدم في تفاعله مع المحيطين الداخلي والخارجي إنما يمثل عشرين ضلعاً تدخل في تكوينه ست مواد يربط بعضها ببعض عشرون معادلة.

هنا يجدر بنا أن نذكر بعض خواص هذا التوازن، ففي هذه وحدها يكون الفرق الجوهري بين الكائنات الحية وبين الجمادات. وأهم هذه الخواص هي اشتراك الأكسيجين في ذلك التوازن بل إنه (أي التوازن) لا يتم مطلقاً بدون الأكسيجين؛ فأهمية الأكسجين للجسم الحي أكبر من أهمية أي مادة من المواد التي يتركب منها بل هي كما أثبت البحث فوق ذلك بكثير وهذا ما نعنيه عندما نقول إن الجسم الحي هو عبارة عن توازن فيزيقي - كيميائي ذي قوة حيوية يحصل بين المواد الموجودة في داخل الجسم، وبين أخواتها في الخارج. ويفهم من كل هذا أن الهواء الذي نستنشقه بل كل الطبقة الهوائية المنتشرة على سطح الأرض والتي يتوقف عليها مقدار كثافة الأكسجين هي جزء لازم لكيان الأجسام الحية لزوم العظام واللحم الذي يكسوها، وهو ليس كذلك للجمادات. إذاً فالفرق بين هذه، وبين الكائنات الحية موجود، وهو التوازن الوقتي الذي تقيمه الطبيعة بفعل قواها في المواد الأولية - ذلك التوازن الذي لا يوجد له شبيه في عالم الجمادات.

بيروت - الجامعة الأمريكية

عبد الله عشري الصديق