مجلة الرسالة/العدد 309/ولا ترابه!
مجلة الرسالة/العدد 309/ولا ترابه!
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلت فيما كتبت منذ أسبوعين عن رسالة الأديب أنني أستعيذ بالله من اليوم الذي تتوقف فيه أقدار الأدباء على مقاييس الدولة، لأن سيطرة الدولة على أقدار الأدباء معناها إخضاع الفكر الإنساني للعرف الشائع مضافاً إليه إجحاف الهوى والمحاباة، وليس من وراء هذا الإخضاع خير للفكر ولا للأديب
إن تقويم أعمال الموظفين من أخص أعمال الدولة، لأن الوظائف تجري على قياس معلوم في نطاق محدود، وليس فيها مجال للتعمق ولا للإغراق ولا لاختلاف المذاهب والشروح
ومع هذا نبحث عن الإنصاف في محاسبة الموظفين فترى عشرين مثلاً للإجحاف والإهمال. والنسيان وسوء التقدير إلى جانب مثل واحد من أمثلة الجزاء الحق والقسطاس المستقيم
فكيف تكون الحال في تقويم الأدب والأدباء؟ وكيف تكون الحال في الجديد من المقاييس الأدبية، ولا خير في المقاييس الأدبية إن لم يحسب فيها حساب التجديد والإبداع؟ وكيف تكون الحال في الرأي المستقل والخلق المستقل والعمل المستقل، ولا خير في الأدباء إن لم يكن لهم استقلال في الآراء والأخلاق والأعمال؟
أحسب أنني تحدثت بالبداهة يوم استعذت بالله من تسليط الدولة على مقاييس التفكير وأقدار المفكرين
ولكننا في البلد الذي (من فاته الميري فيه وجب عليه أن يتمرغ بترابه. . .)، فلا عجب أن يثقل ذلك المقال على كثير من أصحاب الأطماع والآمال، وأن يأبى بعض الذين كتبوا في الصحف وبعض الذين كتبوا إلي إلا أن يكونوا كتاباً (أميريين). . . فإن لم يكونوا أميريين فلا أقل من التراب وما شابه التراب
ويكتب إلي من يقول إن مقاييس الدولة في مصر لن تدوم على ما أصابها من قبل أو يصيبها الآن من العيوب، فهي في الغد كفيلة بحسن التقويم، ومتى حسن التقويم فلماذا هذا الحذر من الجور القديم؟
وتشاء المصادفة أن أقرأ هذا وأقرأ معه فصلاً مسهباً عن (الأربعين الخالدين) في فرنس منقولاً في المجلة الإنجليزية (العصر الحي) عن الكاتب الفرنسي هنري بلامي يتناول فيه مجمع فرنسا المشهور وأساليب اختيار الأربعين الخالدين من أعضائه، فإذا هي حال لا نتمنى تكرارها في بلادنا على فرط الحاجة فيها إلى التشجيع والإغضاء عن بعض العيوب.
وحسبك من تلخيص هذه الحالة أن تعرف أسماء الذين استثناهم المجمع من زمرة الأدباء النابهين وبينهم أمثال: موليير، وروسو، وديدرو، وميرابو، وأندريه شنييه، وستندال، وفلوبير، وجوبتيه، وبودلير، وميشليه، وفرلين، وملارميه
وفي وسعنا أن نضيف إليهم ديكارت، ومالبرانش، وباسكال وبومارشيه، وهلباخ، وزولا، وموباسان وغيرهم من أدباء هذه الطبقة الذين عرفهم العالم بأسره ولم يعرفهم المجمع الأدبي في بلادهم!
حسبك من تلخيص تلك الحالة أن تعرف أسماء هؤلاء وأشباه هؤلاء، بعد أن مضت ثلاثة قرون على نشأة ذلك المجمع في عهد الكاردينال ريشيليه، فماذا أغنى وجود المجمع واعتراف الدولة به إنصاف ذوي العقول والقرائح والأقلام؟
نعم إن أصحابنا الخالدين قد اعترفوا بأقدار فولتير، ولافونتين ورينان، وأناتول فرانس، وأناس من طرازهم تفتخر بهم الآداب الفرنسية والآداب العالمية. . .
ولكن متى اعترفوا بأقدار أولئك الأقطاب الأفذاذ؟ إنهم لم يعترفوا بهم إلا بعد أن اعترف بهم (رجل الشارع) كما يقولون، وشاع ذكرهم في الأقطار الغربية والشرقية، فلم يكن للخالدين فضل على غير الخالدين في تقويم القيم وتصحيح الموازين
فإذا كانت مجامع الدولة على منوال الأكاديمية فرانسيز تجهل من جهلت وتنسى من نسيت وتنكر من أنكرت، ثم ننظر إلى من شهدت لهم بالفضل فإذا هم مشهود لهم بفضلهم قبل أن يصلوا إلى عتباتها، فما أغنى بني الإنسان وأغنى أصحاب القرائح والأذهان عن ذلك المقياس وذلك الميزان! وما أولانا أن نرجع إلى (الأصل) وأن نكتفي به دون ماعداه، إذا كان الأصل هو رأي القراء والتبع اللاحق به هو رأي الخالدين من أولئك الأعضاء الأجلاء!
قد يقال إن الكتاب والشعراء يستفيدون الجوائز التي توزعها الدولة على أصحاب الآثار الجديدة والطرائف البارعة في كل عام
فإن قيل هذا فلنعلم أن الأعضاء الخالدين لا يقرءون الجديد. وقد قيل إن الأديب المشهور ألفريد دي فيني زار (الخالد) روبيه كولار ليطلب منه التزكية والشهادة فسمع منه رأياً لم يعجبه، فسأله: كيف تحكم على كاتب لم تقرأ سطراً واحداً من كتبه! فأجابه الخالد وهو راض عن جوابه: يا صاحبي! إنني لم أقرأ شيئاً قط منذ ثلاثين سنة. وحسب من كان في عمري أن يعود إلى مراجعة الأقدمين حيناً بعد حين)
قال دي فيني: (إذن كيف تبدي رأيك في المجمع يا سيدي؟)
قال الخالد متعجبا: (كيف أبدي رأيي؟ هذا من شأني. إنني أذهب إلى هناك ولا يعنيني أن أخبرك عن طريقتي في إبداء رأيي، ولكنني أبديه. . .)
وقال كاتب المقال الذي أشرنا إليه والعهدة عليه: إن الشاعرة لويس كوليه التي عاشت في عهد الإمبراطورية الثالثة وأنعمت بالسعادة على كثير من الكتاب والشعراء تذكرت يوماً أنها لم تحضر قصيدتها لجائزة المجمع ولم تشأ أن تضيع عليها تلك الجائزة، فما هو إلا أن دخل إليها فلوبير وبويليه زائرين حتى أفضت إليهما بهمها، فما زاد الخبيثان على أن فتحا دواوين لامرتين ونقلا منها مئات السطور من هنا وهناك ووصلا بينها على ما يقتضيه حسن الحبك والصياغة، وأرسلا القصيدة إلى المحكمين فظفرت بالجزاء والثناء وتهنئة الأعضاء!
ثم تحسب مقادير هذه الجوائز التي توزع بهذا المعيار وتحسب الأموال التي تودع المصارف لاستغلالها باسم المجمع الموقر، فإذا هي جدول صغير من ذلك الخضم الغزير على عهدة ذلك الكاتب الأديب، والعهدة كلها فيما نرويه هنا عليه!
أما أعمال المجمع التي تصدى لها منذ إنشائه فمعجم لا يعد من خيرة المعاجم يسهل الاستغناء عنه ويبدو نقصه كلما فرغ من طبعه فيعاد تنقيحه وتأليفه، وإلى جانبه كتاب أجرومية مزيته الأولى أنه مشحون بالأخطاء النحوية والصرفية، بدءوا به في القرن السابع عشر ولم يفرغوا منه إلا منذ بضع سنوات (1932)
وقد عهد إلى المجمع يوم إنشائه في إصدار (قاموس تاريخي) فصدر الجزء الأول منذ سنة 1865 منتهياً بكلمة وصدر الجزء الثاني بعد ثلاثين سنة، وسيتمه المجمع على هذا القياس حوالي سنة 4855 بعد الميلاد
ولعل القارئ يذكر ما يجري في الشركات والجماعات الخيرية والحكومية التي يندب لها (كاتب سر) أو (وكيل عام). فإن الشأن الغالب عليها أن تستبد بها كاتب السر أو الوكيل العام بعد حين فلا يقع في ملكه إلا ما يشاء
فهذه العادة الغالبة هي بعينها التي تغلب على الأربعين الخالدين فلا يبرمون ولا ينقضون إلا بمشيئة من كاتبهم المختار. . . حتى قال سان بيف: إن هذا الكاتب (يحكم ويلي) في وقت واحد خلافاً للملوك الدستوريين!
كل هذه المهازل يعلمها الأعضاء الخالدون ويعلمون أنها شائعة على ألسنة الكثيرين، ولكنهم يجيبون هازلين بلسان فونتينل: (نحن سخرية الساخرين حين نكون أربعين، ولكننا معبودون مقدسون كلما أصبحنا تسعة وثلاثين!. .)
يريد الشاعر أن المرشحين يتملقونهم ويثنون عليهم كلما مات واحد منهم، فأصبحوا تسعة وثلاثين وراح الطامعون يتزاحمون على الكرسي الفارغ، ولكنهم بعد هذا سخرية الساخرين كلما بلغوا تمام العدد المقدور، ولا ندري لماذا يقف الخلود والخالدون عند الرقم أربعين!!
فالمجامع (الرسمية) جميعها على هذا النمط أو على نمط قريب منه بعد حذف المبالغة الفكاهية التي لا تقوى على تبديل الحقائق التاريخية!
وفحوى هذا أنها إذا أريدت لعرفان الأقذار في إبان نبوغها فهي لا تجدي ولا تنصف ولا تزال متخلفة وراء الصفوف بعد أن يفرغ القارئون من الإعجاب ويفرغ المعجبون من التنويه
وإذا أريدت لإغاثة المفتقرين إلى المدد والمعونة فهي لا تغيث المستحق ولا تتورع عن استغلال الأموال وتثميرها كما يثمرها التجار وأصحاب الأقساط والسهوم
وإذا أريدت لإنجاز عمل من أعمال اللغة والأدب فهي لا تنجزه على الوجه المطلوب ولا في الوقت المعقول
ويبقى بعد ذلك أنها تضير ولا تنفع بما توليه الصغار من أقدار الكبار، وما تجنيه على أقدار الكبار من الغضاضة والإنكار
يفتح الله يا عشاق (الميري) وترابه. . . فلا الميري أفضل من المجمع الفرنسي ولا جمهرة القراء في إنصاف الأدباء، ولا ترابه أفضل من التراب، عند أولى الألباب!
عباس محمود العقاد