مجلة الرسالة/العدد 309/أعلام الأدب
مجلة الرسالة/العدد 309/أعلام الأدب
أرستوفان والديمقراطية
للأستاذ دريني خشبة
كان أرستوفان رجعياً إلى درجة السخف في رجعيته، لكنه كان على شيء غير قليل من الحق في تلك الرجعية التي حارب بها سيد شعراء الدرام يوريبيدز، وأبا الفلاسفة سقراط، والتي جعلها حرباً غير راحمة على الديمقراطية
يذكرون أن أولى كوميدياته (رجال من جزلتون التي تقدم بها للمباراة في الشعر الهزلي سنة 427 ق. م كانت تدور كلها حول التعليم العالي والحط من قيمته ونسبة كل شر حاق بأثينا وأفسد أخلاق شبابها إليه. . . والكوميديا وإن تكن مفقودة إلا أن النتف الباقية منها تعرفنا بموضوعها الذي يقوم بدور البطولة فيه، والد مسكين حائر بين ولديه. . . فأحدهما شاب تقي محافظ مستمسك بعروة السلف الصالح وتقاليده الوثقى، والآخر فتى متمرد فاسد يسخر بالماضي وسُننه العتيقة وآدابه البالية، فما يزال يتهكم بأسلوب الحياة التي يحياها والده، ويسفّه تقوى أخيه، ويتبجح بالموبقات التي يأتيها هو في غير تورع ولا استحياء، لأنها في زعمه من مقومات المدنية التي لا يفهمها إلا على أنها فسوق وخروج على المألوف
وفي سنة 423 تقدم بملهاته الخالدة (السحاب) التي ندد فيها ما شاء له لسانه السليط بسقراط وفلسفة سقراط، والتي يضع فيها رجلاً طاعناً في السن أمام سوفسطائي، فهو يسأله عن أبرعِ الطُرق التي يأكل بها ديون الناس عليه (!!)، ثم يصنع حواراً شائقاً بين العلة العادلة والعلة غير العادلة (!!) وينتهي بإحراق منزل سقراط! وسنعود إلى ذلك في فرصة أخرى لما (للسحاب) من مكانة فريدة بين كوميديات أرستوفان
وقد كان لرجعيته يعزو ما أصاب أثينا من تدهور وانحلال إلى أدب يوريبيدز، وسنفرد لذلك فصلاً خاصاً نتناول فيه كوميدياته الثلاث الكوامل التي خصه بها، وإن تكن لا تكاد إحدى كوميدياته تخلو من ذكر يوريبيدز والتنديد بيوريبيدز، وإن يكن يوريبيدز مع ذاك أستاذه وملهمه
وبعد، فماذا كان بين أرستوفان وبين الديمقراطية؟ ولماذا كان يبغضها ذلك البغض الشدي الذي تجلى في معظم كوميدياته؟ لقد تناولنا في الفصل السابق بعض الإجابة عن هذا وذاك، ونحن نضع بين يدي القارئ في هذا الفصل خلاصة لكوميدية أرستوفان المضحكة (الفرسان التي تقدم بها للمباراة سنة 424 ونال بها الجائزة الأولى من الهيئة الرسمية التي كانت تهيمن عليها حكومة كليون وقواد الجيش والشعب من أمثال نسياس وديموستين الخطيب المفوه العظيم
لم يبال أرستوفان أن يسخر بأبرز شخصيات الحكم في أثينا في ملهاته هذه، فصورهم تصويراً كاريكاتورياً مضحكا، مستعيناً في ذلك بميولهم الخاصة ووقائع حياتهم اليومية. ولعله أول رجل في التاريخ عمد إلى اختراع الشخصية الفكهة التي تمثل دولة بأكملها. فنحن نعرف أن شخصية جون بول تمثل في العصر الحديث دولة بريطانيا العظمى، كما تمثل شخصية العم سام الممالك المتحدة الأمريكية، وكما تمثل شخصية (المصري أفندي!) مصر الحديثة. وقد سبقنا أرستوفان إلى خلق هذه الشخصية المضحكة المحببة فابتكر لكوميديته شخصية (ديموس) ذلك الرجل الكهل الأناني الطاغية فجعله رمزاً لأثينا الهرمة المضطربة، للأثينيين الديمقراطيين الذين ذهبت دولتهم وشاع في أخلاقهم، واضطرب حبل حكومتهم، وذلك لما نشره فيهم السوفسطائيون وعلى رأسهم سقراط من فلسفة، وما بثه فيهم يوريبيدز من جرأة واستهتار بالتقاليد، وما أفسده به المرأة من تمثيل الغراميات المحرمة أمامها في المسرح، ولما صنع بهم الإفراط في الديمقراطية بعد بركليس من استباحة الحرمات وضياع القيَم وجرأة الأوشاب على السراة وأهل الرأي باسم الحرية وفقدان الحدود بين الطبقات
ثم سلط أرستوفان على ديموس هذا رجلاً مخاتلاً خداعاً هو زعيم الرعاع في أثينا (الديما جوج كليون) الدبّاغ (!!) وبائع جلود الحيوانات القذر (!) فجعل إرادة ديموس تتلاشى في إرادته، وجعله لا يبرم صغيرة ولا كبيرة إلا بإذنه، ولا يحكم على أحد بخير أو شر إلا إذا حكم عليه كليون بالخير أو الشر، فكان إلى جنبه إّمعة لا قيمة له ولا رجاء فيه، يُوَجهه حيث يشاء، ويسخّره لما يريد. . . وسماه كليون (ألبافلاجوني) أي التفتاف الذي يرسل الزبد في وجوه محدثيه حينما يكلمهم! ثم نعته بالعجرفة والصلف والقحة إذا كان أمام معارضيه، وبالتذلل والضراعة ولبس مسوح الرهبان إذا كان تلقاء مولاه؛ وجعل زملاءه العبيد يكرهونه وينفرون منه لأنه يستأثر بمولاه من دونهم، فيفرض عليه ما يرى هو، لا ما يرى جماعة العبيد
أما من هو كليون هذا فهو نفسه ذلك الرجل الهائل صاحب الأمر والنهي في أثينا في ذلك العصر. . . الرجل الذي رفعه الرعاع ورفعته الديمقراطية المطلقة إلى ذروة الحكم، وألقت إليه بزمام السلطة يصرفها كيفما يشاء ما دام في حرز حريز من رضى الغوغاء، وما دام متمتعاً بمحبتهم الجاهلة الخرقاء
كان كليون إذن عَبْداً لمولاه ديموس بالدهاء والختل، لكنه كان سيد أثينا ودكتاتورها المطلق عن طريق هذا (الطّبْو!) ديموس نفسه، فماذا يصنع أرستوفان لخضد شوكته وتحقيره كما يحقّر هو أحلام أمة بأسرها؟
لقد جعل له نِدَّيْن من العبيد الأرقاء على شاكلته، هما نسياس وديموستين. . . ونسياس وديموستين هما أعظم رجال الحربية الأثينية في ذلك العصر. وقد أورد أرستوفان أسميهما صريحين كما أورد اسم كليون، ثم جعلهما من عبيد ديموس (أوجون بول أثينا!)، وجعلهما يحقدان أشد الحقد وأمره على كليون لأنه استبد بالسلطان من دونهما فراحا يتمنيان له الشر ويتلمسان له البلاء المبين. . وقد كان نسياس رجلاً فطرياً ساذجاً محافظاً على القديم، يعتقد اعتقاداً جازماً بالخرافات. أما ديموستين فقد جعله أرستوفان رجلاً مرحاً في برود وعدم مبالاة، إذا اعتزم شيئاً لم يتردد في تنفيذه ولو خرط من دونه القتاد، وكان يقبل على الخمر ويشغف بها شغفاً شديداً، فكانت تضاعف من جرأته وتزيد في إقدامه
وقد غيظ نسياس وديموستين من كليون لأنهما أقدم منه في خدمة مولاهما ديموس، فقد اشتراه بعدهما بزمن طويل، ومع ذاك فقد تقدم عليهما عنده بدهائه وطول حيلته، ولذلك فكرا طويلاً في عزله من منصبه في خدمة مولاه، فذهبا ليستوحيا كهنة باكيس، فقيل لهما إن الذي يخلف كليون في منصبه في خدمة ديموس هو شخص من صميم الشعب الديمقراطي!! هو بائع الأكارع (والسجؤ!!) أجورا كريتوس. . . (من أجورا حيث ألتمس الرزق لي ولعيالي!) أي أن أسمه مشتق من أجورا الذي هو سوق الحوايا (الكرشة والأكارع والأمعاء والفشة وما إلى ذلك. . . من أسواق أثينا!!). . .
وقد تحققت نبوءة باكيس. وأقدم كريتوس (في آخر الملهاة) حيث استطاع أن ينفذ إلى الصميم من قلب ديموس، وأن يحل فيه محل كليون الذي لم يستطيع أن يباري (بائع السجؤ) في ميدان المهاترة والوقاحة والبرجوازية! وبذا تربع كريتوس في كرسي الوزارة - كرسي النبل والشرف! - مكان الغريم المنهزم.
وهكذا كان منطق أرستوفان في تحليله للديمقراطية. . . فمن يستطيع أن يجرد هذا المنطق العجيب من الحق - أو من بعض الحق - فيما يتعلق بمآل الديمقراطية إذا منحت بلا قيد ولا شرط لشعب أخذت عوامل الانحلال تدب فيه مثل الشعب الأثيني؟ ومن يمنع بائع السجؤ من أن يصل إلى كرسي الوزارة ليتحكم في أعناق السراة من النبلاء وأساتذة الجامعة ومسرح الأكروبوليس فيتصرف فيهم كأنهم عبيد أبيه أو قطعان الماشية يسيمها حيث يشاء!
هذا وينبغي أن نرجع إلى الوراء قليلاً لنعرف ماذا نشب من المعارك بين أرستوفان وبين كليون قبل نظمه لفرسان سنة 424 ق. م فإن تاريخ العداوة بين الرجلين يرتد إلى ما قبل ذلك، حينما تقدم أرستوفان بملهاته (البابليون) - وهي ما تزال ضائعة إلى اليوم - للمباراة العامة في الشعر الكوميدي في عيد باخوس الصيفي (الديونيزيا) سنة 426، وهو العيد الذي كان يحضره أحلاف أثينا من كل صوب ليشاركوا الأثينيين أفراحهم، فكانت هذه الملهاة مما شاهدوا، وفيها صور أرستوفان أحلاف أثينا عصبة من العبيد الأرقاء يجرون طاحونا ثقيلاً لديموس (جون بول أثينا!) وكان صارماً إلى آخر حدود الصرامة في حملته على النظام الديمقراطي السائد الذي كانت تهيمن بوساطته عصبة بعينها من الزعماء على مقاليد الحكم فلا تريم عنها ولا تستطيع فئة أخرى أن تحل فيه محلها ما دامت الأكثرية - والأكثرية دائماً هم الغوغاء - مؤيدة للفئة الأولى.
كان أرستوفان عنيفاً إلى غاية حدود العنف في هذه الملهاة المفقودة، وقد استطاع أن يفضح كليون وزبانيته فضيحة قهقه لها الأحلاف من وراء أشداقهم، وإن صورهم في هذه الصورة المزرية الشائنة التي خفف من مرارتها في نفوسهم ما شاهدوا من تصويره لرجال الحكم وعلى رأسهم كليون الهائل. . . فلما عاد الأحلاف بعد انتهاء حفلات الديونيزيا، أمر كليون فقبض على أرستوفان وحوكم من أجل ملهاته تلك بتهمة الخيانة العظمى، لأنه فضح الدولة وأهان أحلافها، وصنع ذلك في غير تورع ولا احتشام في عيد ديني قومي! ولسنا ندري ماذا كان الحكم الذي أصدره القضاة على أرستوفان. ويبدو أنه لم يتعد الغرامة أو التوبيخ، ونستنتج ذلك مما صنع أرستوفان في العام التالي حينما تقدم إلى المباراة الكوميدية في عيد الريع الـ (لينايا) سنة 425 - أي بعد محاكمته بتسعة أو ثمانية أشهر تقريباً - بملهاته ألـ أخارنيين - وهي أقدم ما حفظت لنا يد العفاء من كوميديات أرستوفان - وفيها يعتذر للجمهور عما وقع فيه من إهانة الحكومة وتحقير الحكام في ملهاته سالفة. . . ولو أنه كان قد حكم عليه بحكم شديد أو يتعدى الغرامة أو التوبيخ لما استطاع في مثل هذه السرعة أن ينظم ملهاته الجديدة، ويحتفظ فيها بثباته وبراعة نكتته، ولما تناول فيها شخصية كليون أيضاً بشيء من التهكم اللاذع، وإن يكن هذه المرة قد بدا رفيقاً بالطاغية الجبار، فكان يسخر منه حينما يفعل ذلك في حيطة وحذر وحساب شديد
وكأنما ضايق أرستوفان أن يقف مكتوفاً هكذا لأن كليون يخفيه، ففرج عن نفسه بمهاجمة شخص آخر هو لا ماخوس، ثم شخص ثالث هو خصمه الأكبر يوريبيدز الذي يسلقه هنا بلسان حديد، ويعزو إليه إتلاف روح أثينا! وقد عجب الشاعر الكوميدي المعاصر لهذا التحرش المستمر من أرستوفان بيوريبيدز، وكان مما لاحظه أن أرستوفان ينسج على منوال خصمه ولكن في ميدان الكوميديا، فكأنما كوميدياته هي معارضات لدرامات يوريبيدز. ومن أجل هذا اخترع كراتينوس اللفظة: التي نحتها من اسمي الشاعرين للإشارة إلى تقليد أرستوفان لخصمه، وهي كما ننحت نحن في العربية بعض الكلمات التي تدل على عبارة من نحو يحوقل أي يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويحيمل من قوله حي على الصلاة الخ.
وملهاة الآخارنيين هي ملهاة نظمها أرستوفان من أجل الدعوة إلى السلام خلال حروب البلوبونيز (المورة)، وبطلها دِسيوبوليس هو مواطن أتيكي ساذج لكنه مقاحم ذكي ثاقب الفكر، وقد اضطر أمام جيوش الغزاة الإسبرطيين الذين اقتحموا قرى أتيكا إلى الفرار إلى أثينا ليلوذ بأسوارها. . . وهنا تثور ذكريات الريف الجميل الهادئ الفطري بخلد الرجل، فيأسف على العيش الساكن البسيط، وأويقات الصفاء في حقول أتيكا فيتمنى على أرباب الأولمب أن تنشر ألوية السلام على ربوع الوطن لتعود مياه الحياة إلى مجاريها. . . وتتسلسل وقائع الكوميديا فينعقد مجلس الدولة ويشتد الجدل، ويشتط الزعماء فيقسمون ألا يكون سلام حتى ولو تنزل إله من السموات يأمرهم به!. . . على أن الأمر ينتهي بعقد الهدنة لمدة ثلاثين سنة فيعود دسيوبوليس جذلان فرحاً إلى ريفه الجميل، ويتمتع الناس بسلم طويل يفيقون فيه من أهوال الحرب التي جرتها الديمقراطية - أو جرها زعماء الديمقراطية المستبدون - على الوطن الحزين المسكين.
ولما كان أرستوفان يحس ما يلقاه الأتيكيون من أهوال حرب المورة؛ فقد استمر يدعو إلى السلام في كثير من كوميدياته ففي سنة 421 تقدم بملهاته (السلام) التي جاءت آية من آياته. . . وهي ملهاة خيالية يصور فيها رحلة فلاح أثيني على ظهر خنفساء (!) إلى السماء ينشد السلم ثمة، لأنه سئم الحرب وضج من أهوالها! ولشدة حيرة الفلاح يجد أن الآلهة قد ذهبت في السماء صعداً لأنها هي الأخرى قد نفرت من الناس واشمأزت مما تقترفه أيديهم من قتل بعضهم لبعض ومن سفكهم الدماء بغير الحق، ويجد الفلاح أن الآلهة قد أظهرت شبح الحرب على شعاف الأولمب في حين أنها قد خبأت طيف السلام في كهف هناك سحيق، فيجره ويعود به إلى الأرض، وفي ركابه طيف العيد وطيف المحصول وهما عروسان جميلتان، فيتزوج عروس المحصول ويدخل بها على نغم عروس العيد وغنائها.
دريثي خشبة