مجلة الرسالة/العدد 305/في وزارة المعارف

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 305/في وزارة المعارف

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1939


تدريس اللغة العربية

في الغرفات الكبرى من وزارة المعارف ضجة منذ أسبوعين ما بين رجال الإدارة ورجال التعليم في البحث عن أمثل الطرق لتدريس اللغة العربية في المدارس المصرية. والموضوع لخطره وقوة أثره يستحق هذه الضجة في الوزارة، ويستوجب هذه العناية من الوزير، ويسمح لغير الرسميين من رجال القلم أن يصدعوا فيه بكلمة الحق التي لا توحيها رغبة رئيس ولا مجاملة مؤلف. فإن من القضايا المسلَّمة أن خيبة الوزارة في تعليم الأدب العربي وقواعده كانت خيبة للنهضة الثقافية في مصر الحديثة، لأن الذين يبتغون العلم من العامة لا يملكون أن يقرءوا، والذين يريدون التعليم من الخاصة لا يستطيعون أن يكتبوا؛ فبقيت الأمة أمية في عصر فرغت فيه الأمم من البحث في الألف والباء، والأفعال والأسماء، لسبر أغوار المجهول من النفس والطبيعة

صحيح أن خيبة الوزارة عامةٌ في فروع الثقافة المختلفة، ودرجاتها المتعددة، لأنها إلى اليوم لم تستطع أن تخرج الإنسان المثقف الذي يعرف كيف يعيش، ولا الرجل الموظف الذي يدري كيف يعمل؛ ولكنها لو كانت نجحت في تعليم العربية لخلقت من تلامذتها قراء يكملون نقصهم بالدرس، ويقوّون ضعفهم بالاطلاع، ويتصلون من طريق القراءة بالفكر البشري العام في مناحي تصوره وتطوره وإنتاجه. فإني أومن بأن تعليم الشعب لغته هي أصل الأصول في ثقافته العامة؛ فإذا صلح محا الأمية، وخلق القومية، وكون الأخلاق، ووحد الميول، وقوى المواهب، ونشر المعرفة، وروّج الأدب، ووسع النهضة؛ وإذا فسد أصحاب الأمة بنمط عجيب من الأمية المغرورة والجهالة السفيهة، فيكثر العلماء ويقل العلم، وينتشر الأدباء ويموت الأدب

منذ أن ذهبت ثورة الاستقلال بدنلوب وسياسة دنلوب حاول البانون على أثره أن يرفعوا البناء فلم يرتفع، ثم جهدوا أن يدعموه بتقارير الخبراء ومناهج اللجان فلم يندعم. ذلك لأنهم لا يزالون يبنون على أسس دنلوب وقواعده؛ وأسس دنلوب وقواعده هي أولئك الموظفون المخضرمون الذين نشأهم المستشار على آلية التعليم حتى صارت فيهم عقيدة، وأخذهم (بروتين) النظام حتى أصبح لهم فطرة. فإذا كان القيم على أمر الوزارة قويًّا انطوت هذه الفئة انطواء القنافذ، وتركوا النشاط للشباب ذوي العلم والخبرة، فغّيروا المناهج، وقوّموا الخطط، ورسموا الغاية، وبدّلوا الكتب، وبدءوا التجربة؛ وإذا كان ضعيفاً بسطت سلطانها على كل إرادة، ورجعيتها على تجديد، فاحتسبت الإيرادات في الرءوس، واستقرت الأنظمة في المكاتب، وعاد الدولاب القديم يدور دورانه البطيء بالتأليف المريب لجواز الامتحان، والتعليم الفج لبلوغ الوظيفة. لذلك لم يكن بد من قصور البنيان بين البناء والهدم، وتذبذب الإصلاح بين الرأي والعزم، وعجز المدرسة المصرية عن تنشئة الجيل الذي يكون له مع العلم خلق، ومع العمل ضمير، ومع الشهادة إرادة. ومن أجل ذلك لا نبالغ في تقويم الفوائد المرجوة من هذه اللجان ما دام الأمر لا يخرج عن جلسات تعقد، ومقترحات تناقش، وتقريرات تقدم، وقرارات تصدر، ثم لا تبقى إلا بقاء الوزير في الوزارة

ليس من شأن المدرسة ولا في مقدورها أن تخرج الطالب عالماً يبتكر ويخلق؛ وإنما شأنها وجهدها أن تخرجه متعلماً يقرأ ويبحث؛ فإذا لم تصنع القارئ فأنها لم تصنع شيئاً. والقارئ الطُّلعَة من صنع معلم اللغة، لأن القراءة أداة اكتساب البلاغة، واللغة والأدب قبل كل شيء تقليد ومحاكاة؛ فواجبه أن يشوق الطالب بروائع الفن، ويغريه ببراعة الذهن، ويأخذه بدوافع التكليف حتى ينطبع على القراءة بالمران والعادة. ومتى أخذ الرجل يقرأ فقل إنه أخذ يَعلم. فهل استطاع تدريس اللغة العربية في مدى مائة عام خلت أن يجعل مصر أمة قارئة؟ قد تجيب مصلحة الإحصاء بأنه علم الخط كذا رجلاً في المائة؛ ولكنها لا تحير جواباً إذا أردنا من القراءة التتبع والفهم والتحصيل. والقراءة بهذا المعنى هي الفارق بين شاب تعلم في المدارس في المصرية، وبين آخر درس في المعاهد الأجنبية

قضيت في تعليم العربية وآدابها خمساً وعشرين سنة لا أفتري على الحق إذا قلت إنها كانت مثمرة. ولعلها آتت هذه الثمار لأني على ما كان في نفسي من حب الأدب لم أتقيد بطريقة كتاب ولا نصيحة مفتش ولا نص منهاج. وقد لخصت تجارب هذه الحقبة في مقال نشرته بكتابي (في أصول الأدب) أستطيع أن أجمله في كلمتين: أن تكون طريقة المعلم استنتاج القواعد من الأدب ودرس الأدب في المطالعة، وأن تكون غاية المتعلم قراءة ما يُكتب وكتابة ما يُقرأ. وسبيل ذلك كتاب ومعلم ورابطة. فالكتاب شرطه أن يكون أدباً ليصقل الذوق ويربي الملكة؛ والمعلم شرطه أن يكون أديباً ليملك ما يعطى ويحسن ما يختار؛ والرابطة بينهما هي الضمير الفني الذي يهدي إلى الحق ويغني عن المفتش. فإذا كان أمل الأستاذ الوزير قد تعلق بإحياء اللغة العربية وإذكاء النهضة الأدبية، فليسئ الظن بالسياسة التقليدية التي اتخذتها الوزارة إلى اليوم في نظام التأليف وطريقة التفتيش واختيار المدرس؛ وليبحث في الديوان وفي خارج الديوان عن الخبير الذي ينهج، والكتاب الذي يشوق، والمفتش الذي يوجه، والمعلم الذي يسلك؛ وليطهر التعليم من المدرس الذي يضع القواعد في أشجار وجداول، والمفتش الذي يعاقب على نسيان الهمزة وذكر الغزل، والمؤلف الذي يؤلف بسر الجاه ونباهه الاسم؛ فإنه إن فعل ذلك جاز لنا أن نعتقد أن هذه اللجان هي غير تلك اللجان، وأن حدثاً جديداً يوشك أن يقع في الديوان.

أحمد حسن الزيات