مجلة الرسالة/العدد 305/المدرسة الابتدائية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 305/المدرسة الابتدائية

مجلة الرسالة - العدد 305
المدرسة الابتدائية
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 05 - 1939



وتعليم اللغة الأجنبية

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

لاشك عندي في أن كل من تناول بالتفكير بعض المشاكل الاجتماعية، لا بد يعلم أن أساس التفاهم الحق بين أبناء الأمة الواحدة هو التعليم الموحد. فلقد شهدنا ظروفاً لم يفرق فيها اختلاف التعليم، واختلاف طرائقه وأساليبه بين لهجة ابن مصر العليا، وابن مصر السفلى فحسب، بل فرق فيها ذلك بين أبناء القرية الواحدة إن لم يكن بين أبناء الأسرة الواحدة الذين وقعت بهم الظروف في أحضان معاهد مختلفة بين: مصرية أو أجنبية مدنية أو دينية. وما نشأت تلك الفرقة التي كثيراً ما تؤدي إلى الجفاء إلا من اختلاف نوع الثقافة، ذلك الاختلاف الذي يخلق عقلية خاصة يصحبها تفكير خاص ومزاج خاص. ثم إننا نجد على العكس من ذلك أن التعليم في المدرسة الواحدة يؤلف بين المتباغضين، ويقرب بين المتباعدين، ويوحد بين المتنافرين، لأنه يجمع بينهما في أهم وسائل التفاهم: اللغة واللهجة وطرق التفكير ووحدة طرق التنشئة. فترى الآن الصعيدي والبحراوي متجاورين في دواوين الحكومة متفقين متفاهمين كاتبين كانا أو قاضيين، مهندسين أو معلمين، مديرين أو وزيرين؛ حتى لا تكاد تعرف أيهما الصعيدي، وأيهما البحراوي، لأن المدرسة التي نشآ فيها كان لها الأثر الفعال في تنشئتهما تنشئة واحدة مهما كان نوعها. فهل هناك إذن من سبيل إلى التوحيد والتفاهم غير المدرسة الموحدة التي سبق أن أثبتنا أنها السبيل الوحيد أيضاً إلى المساواة في الحقوق بين الجميع أو إلى الديمقراطية الصحيحة؟ إنك لا تجد مطلقاً أن من السهل خلق جو من التفاهم الأكيد بين الأزهري والأفندي كما لا تجد من السهل إيجاد تفاهم تام بين: المعلم الإلزامي وخريج دار العلوم، أو بين هذا وخريج معهد التربية. ولذلك تجد مشاكل وزارة المعارف لا تنتهي للخلافات المستمرة بين تشكيلة رجال التعليم الذين نشأوا في معاهد متعددة مختلفة الثقافة. ثم هل استطاعت وزارة العدل بما يملأ أرجائها من العدل وبما تنشره من المساواة بين الناس جميعاً في الحقوق يحكم القانون أن تنشر جواً من التفاهم الصحيح بين القاضي الأهلي والقاضي الشرعي اللذين نشآ في مدرستين متباعدتي الثقافة! ألم تشغل طويلاً وزارة العدل ولا زالت تشغل بالخلاف القائم بين القاضيين المتآخيين في الموطن المتباعدين في النشأة؟ وهل انتهى حق اليوم شيء من الخلاف القائم بين خريج الأزهر الشريف وخريج الجامعة المصرية وخريج دار العلوم! وإذا كان وزراؤنا وكبراؤنا لا تثقلهم تلك المشاكل الطائفية التي تواجههم بسبب الاختلاف في الثقافة فإنهم على الأقل يضيعون الكثير من وقتهم ومجهوداتهم التي نحس أننا أحوج ما نكون إليها الآن في أمور تافهة أو ثانوية بالنسبة لما تحتاج إليه مصر من مجهودات في شتى النواحي العمرانية والاجتماعية. وما بال هذه الصيحات المتعددة بدعوة الزعماء والأحزاب والمتحزبين إلى المهادنة وضم الصفوف في الأوقات العصيبة التي تجتازها، فهل وجدت إلا إعراضاً وإهمالاً وإمعاناً في الخصومة؟ وإذا كان بعض المفكرين ينسبون ذلك إلى أخلاقنا فهلا يرى القارئ معي أن بعضه يرجع إلى الاختلاف الواقع في صفوفنا منذ نشأنا النشأة الأولى في معاهد مختلفة الثقافة بعضها فرنسي وبعضها إنجليزي وبعضها مصري مدني والبعض الآخر ديني الخ! ألا إن تماسك الشعب المصري ووحدته المتمثلة في فلاحية الجهلاء لتتناثر وتتفتت إلى قوى متنافرة متخاذلة في قادته وزعمائه المتعلمين الذين رضعوا لبان ثقافات مختلفة في معاهد مختلفة فتفاوتت عقلياتهم وتضاربت آراؤهم وأصبحوا أميل دائماً إلى الخصومة منهم إلى التعاون والألفة!

لقد أصبحنا في أشد الحاجة إلى وضع حد لكل ذلك. ووضع هذا الحد لا يكون بالكلام والصياح ولكنه يكون بالعمل، والعمل على التوفيق بين مختلف الطوائف والأحزاب أمر يصعب تحقيقه للأسباب السالفة الذكر في جيلنا الحاضر. فلنضع الحجر الأساسي لبناء جيل جديد دعامته التعاون والاتحاد. وتنشئة هذا الجيل الجديد لا تكون إلا بإيجاد المدرسة الموحدة، ولن تكون لنا مدرسة موحدة ما دامت اللغة الأجنبية تفرق بين أبناء المدرسة الابتدائية وأبناء المدرسة الإلزامية والأولية والدينية.

ورد في مؤلفي (التعليم والمتعطلون في مصر) تحت عنوان (خلق الطبقات) ص195 ما يأتي:

(فهذه المدارس الشعبية الأولى المتعددة التي تتنازع أطفالنا (ويقصد بها الأولية والإلزامية والابتدائية والدينية الخ) تخلق أول تصدع في بناء الأمة الواحدة لأنها تخلق نظام الطبقات المختلفة في جسم هذه الأمة ذات الدين الواحد والعادات المتحدة واللغة الواحدة. وخلق الطبقات بين أمة هذا حالها لا يقره دين ونظام؛ فالديمقراطية تنفر منه كل النفور لأنه لا يمكن أن يؤدي إلى الاشتراك في الميول والرغبات، ولا يمكن أن يؤدي إلى الاتحاد في الفهم العام الذي هو أساس التفاهم بين الأفراد، فهو إذن ينزع إلى التفرقة الشاملة بين أفراد الأمة الواحدة. ولعل قيامه بهذا الشكل هو السر الأول في هذه الفرقة التي نحسها في ديارنا في كل شيء. وطالما هو قائم في هذه المدارس المتباينة التي نرى في كل منها اختلافاً في الطرائق والأساليب والمذاهب فلن تكون لنا وحدة متماسكة ولن نستطيع أن نخلق من أبناء النيل أمة متحدة في الفهم والقصد ترمى إلى غرض واحد وتتعاون في طريق واحد). هذا ولقد دفعتنا العناية الكبيرة التي اضطررنا إلى توجيهها إلى التعليم الابتدائي فالثانوي تبعاً - إلى إهمال شأن التعليمين الإلزامي والأولي إهمالاً كبيراً تدل عليه تلك الإحصائية الواردة بصفحة 176 من مؤلفي السابق الذكر حيث ورد فيها أن تلميذ التعليم الابتدائي ينفق عليه 24 جنيهاً في العام وتلميذ روضة الأطفال ينفق عليه 22 جنيهاً في العام، بينما تلميذ الإلزامي والأولى ينفق عليه جنيه واحد في العام. وهذه تفرقة كبيرة جداً بل هي مؤلمة وليس لها من مبرر غير ذلك الهدف القديم الذي كنا نرمي إليه في التعليمين الابتدائي والثانوي من حيث إعداد خريجيهما للوظائف والتوظف، وهو هدف بدأ يزول من أدمغة القادة ولكنه مع الأسف لا زال راسخاً في أدمغة الطلبة وسواد الشعب، ويجب أن نعمل على نزعه من تلك الأدمغة سريعاً بإزالة الميزات التي تمتاز بها المدرسة الابتدائية عن باقي مدارس الأطفال وإدماج الجميع في مدرسة شعبية موحدة تخرج لنا الوطني المستنير ذا التفكير الموحد، ولن يتحقق لنا ذلك إلا بإزالة اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية. ولا ضير في ذلك على اللغة الأجنبية لأنها ستعلم بعناية واهتمام وإتقان في المدارس التي أبناؤها في حاجة إليها وهي المدارس الثانوية ومدارس التجارة المتوسطة. أما طلاب المدارس الصناعية والزراعية المتوسطة ففي غير حاجة إليها ولا يصح إثقالهم بتعليمها، وهم فوق ذلك في حاجة إلى صرف وقتها فيما هم أحوج إلى تعلمه من ضروب المسائل العلمية المختلفة

وإذا كان هذا البحث وما سبقه قد اقتضيا من الوجهتين القومية والاجتماعية زوال اللغة الأجنبية من المدرسة الابتدائية، بل زوال المدرسة الابتدائية نفسها وإدماجها مع أترابها من المدارس الشعبية المخصصة للأطفال فإني أعتقد أن بحث هذا الموضوع نفسه من وجهاته التعليمية والبيداجوجية البحتة فيما بعد في الأعداد التالية سيؤيد هذا الرأي كل التأييد

عبد الحميد فهمي مطر