مجلة الرسالة/العدد 304/المسرح والسينما

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 304/المسرح والسينما

مجلة الرسالة - العدد 304
المسرح والسينما
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 05 - 1939



في الفرقة القومية

عطيل

بين الإخراج والتمثيل

ما أظنك رأيت ناسكا من قطان الصحارى والكهوف الواردة أساطيرهم في الكتب يستيقظ في الفجر يسبح ربه ويقضي نهاره على وتيرة واحدة في الأكل والصلاة ثم يودع الشمس الغاربة بأدعية الحمد والتوسلات إلى الباري العظيم أن يدني اليوم العظيم يوم الخلاص من الحياة الدنيا. فإذا شاقك أن ترى شبيهاً لحياة البلادة والكسل وتزاحم أيام الأسبوع وتدافعها حتى ينقضي اليوم الأخير من الشهر، فانظر إلى الفرقة القومية وراقب أعمالها تر ذلك الناسك بعجزه وبجره، لا فرق بينهما إلا في صيغة الدعاء والابتهال إلى الله العظيم أن يصرف أذهان نواب الأمة عن مناقشة ميزانية وزارة المعارف التي تمنح إعانة لنساك من الممثلين كهوفهم قهوات عماد الدين وكتبهم أوراق البوكر والكونكين

وإذا أردت مثلاً صارخاً لبلادة الناسك ومحافظته على الهدوء كالتمساح يهضم ما ابتلعه من فريسة على مهل فاذهب إلى دار الأوبرا واحضر تمثيل رواية عطيل، فأنت ترى نفس أبطال الممثلين والممثلات الذين لعبوا أدوار هذه الرواية بعينها سنة 1912 فلا فارق فيما كانوا عليه قبل سبع وعشرين سنة إلا ما سوف أذكره بالتفصيل، وفيما يجب عليهم إدخاله على فن التمثيل من محسنات وتصحيحات لمواقفهم السابقة. ولا شك في أنك تسائل نفسك ما معنى استقدام مخرج أوربي ليحل محل مخرجين مصريين أقصاهما مدير الفرقة ليتيسر له دفع راتب المخرج الأوربي الذي لم يستطع أن يغير حرفاً من الناموس القديم؟

المخرج الأوربي على شيء من فهم فنه ولا شك، وقد أقام البينة على ذلك، ولكنه ويا للأسف تأقلم فسرت إليه عدوى الموظف الراكن إلى الراتب الفاتن، المكتفي بإبراز عمل يرضي الرئيس ولا يغضب الممثلات والممثلين فصار يساير هذا ويجاري ذاك كأنه كتلة أصيلة من بيئة المسرح المصري

وعلى هذا القياس تم التجانس والانسجام بين رجل الإدارة ورجل الفن ورجل التمثيل، بدليل أنه لما طاب للفرقة إخراج آخر رواية ترجمها الأستاذ مطران لم يجد المخرج بداً من مسايرة السيدة دولت أبيض والسيد منسي فهمي، بإسناد دور ديدمونة إلى الأولى ودور ياجو إلى الثاني، وبإبقاء دور عطيل مع الأستاذ جورج أبيض، أي بإبقاء القديم على قدمه. فهل قام هؤلاء بتمثيل أدوارهم قياماً مقبولاً؟ وهل أكسبتهم الأعوام اختبارات فنية أضافوها إلى صناعتهم في التمثيل؟ وهل استطاع المخرج الأوربي تلقيحهم بمعلومات خاصة من عنده؟

أزعم أن المخرج لم يكلف نفسه عناء تصحيح أي موقف لممثل من مواقف هذه الرواية الجبارة، ولو فعل حقاً لكان اختار لدور ديدمونة غير الممثلة دولت أبيض، لا لأنها لم تحسن فهم دورها، ولا لأنها لم تُجد إخراج مقاطع صوتها بحنان وعطف، ولا لأنها لم تجهد نفسها لإظهار الحب البريء البكر بأطهر مظاهره، بل لأن تقاطيع وجهها ونظرات عينيها كانت كأنها من صنع رسام فاشل توحي إلى الناظر أكثر من معنى واحد، وتجعله يراها تبكي بينما هي تضحك، أو تضحك بينما هي تبكي. والمفروض في المخرج البارع ملاحظة هذه الحالة الفسيولوجية التي لا دخل لإرادة الممثل واجتهاده فيها، بل والواجب عليه تفاديها، وليس ثمة من سبيل إلى التفادي إلا باختيار ممثلة أخرى وهن في الفرقة كثيرات

وهناك تقصير من المخرج يستوجب اللوم من أجله، ولا أجد سبباً لوقوعه فيه سوى سبب المسايرة والمجاراة وإرضاء الجميع على حساب (الضمير الفني) فالممثل الذي لعب دور ياجو وسبق له أن لعبه مرات في خلال ربع القرن الماضي، إنما كان فهمه له خطأ، وكان تدريب معلميه له خطأ أيضاً، وبذلك دلل على أنه صدى يردد، وأنه لو كان التفت المخرج إلى هذه الناحية الفوتوغرافية فيه لكان طبعه طبعة صحيحة تظهر نفسية ياجو على حقيقتها وعلى ما هي مفطورة عليه

قد يفهم المخرج الأوربي معاني (الكيد والتحدي والجريمة) وهي عناصر رئيسية في الحيوان الشرير الذي يدعى الإنسان، وأن عوامل التهذيب والتثقيف تصقل هذه الخلائق أو تبرقعها ببراقع في علم السلوك والاجتماع، وهي تغوص أو تطفو وفق الانفعالات والظروف. وقد يفهم أيضاً أن شخصية ياجو التي رسمها شكسبير العظيم إنما هي بعينها هذه الشخصية اللعينة المهذبة، المريضة المثقفة، وأن لا محيص لصاحبها أن يكون كيساً لبقاً لماحاً مرهف الحس، لا ضحاكا مهرجاً كما فهمه الممثل منسي فهمي، وبعبارة أصح كما تركه المسيو فلاندر يلعب دوره على هذا الأساس الخاطئ. فهذا المخرج يستأهل اللوم، لا لأنه أهمل فقط تدريب الممثل بل لأنه يستهين بثقافتنا وبنهضتنا الأدبية متوهما أن محيطنا الأدبي وبيئتنا الثقافية تجللهما سحابة خانقة مكفهرة كالتي تشوب الجو المسرحي

لم تكن كل المواقف التي وقفها الأستاذ منسي فهمي خاطئة، فإنه مثل ببراعة المرح البسام والسخرية المريرة إذ يجتمعان في النفس ومثل السخرية من المخلوقات التي تعميها حيوانية الغرائز، ومن تحفزهم طبيعة الطمع ولاقتناص المال واستلابه من هؤلاء الذين جاءهم عفو الإرث من الآباء أو الأجداد، ومرح الرجل العارف مبلغ قوته ومقدار معرفته طبائع الحياة وأخلاق الناس

قبيل الذهاب إلى الأوبرا أخذت أسال نفسي: هل نضب الأستاذ أبيض أم ركد أم ما برحت حيويته وثابة تنتهز الفرص الحافزة وتترقب سنوحها بصبر؟ ثم قلت إن رواية عطيل خير مسبار يبرز نوع معدن الرجل على حقيقته

جلست في مكاني أعير تمثيل الرجل كل انتباهي. فعلت ذلك لسببين الأول لأني شاهدت تمثيل هذه الرواية على مسارح فرنسية وإيطالية، والثاني لأقول لبعض الأصدقاء من الناقدين إن النقد فضلاً عن أنه موهبة فهو فهم، وحس، وسعة اطلاع، ولا يطالب الناقد المسرحي بزيارة عواصم العالم ومسارحه كلها ليكون ناقداً مسرحياً فالعبرة إذن ليست بالسياحات بل بما ذكرت من المواهب الطبيعية والاكتسابية

أعرت الأستاذ أبيض انتباهي ويقظة نفسي فألفيته يمثل دوره على نقيض ما مثله فيما مضى. وقد أعجبني منه تحوله عن اللهجة الخطابية وانصرافه عن مظاهر الحماسة إلى تمثيل انشغاله الذهني في شؤون وظيفته العسكرية واضطراب عاطفته المستثارة بلواذع الغيرة، ولما كانت تعضه الآلام بأنيابها السامة كان يصرخ صرخة هي كومضة البرق في ليل ملبد بالسحب القاتمة، ثم يعود إلى نفسه ليسكن لواعجها فيداهمه ياجو بمواد من سمومه القتالة. وهكذا مشى الممثل جورج أبيض يقبض على ناصية المسرح وبعبارة أصح يضم أذهان النظارة وأحاسيسهم في قبضة يده

إني وإن كنت أسجل بفخر للمسرح المصري وقفة الأستاذ أبيض فيجب ألا أنسى الآنسة فردوس حسن لأنها على قصر الدور الثانوي الذي مثلته أظهرت كفاية جديرة بالإعجاب والتقدير.

وبعد فأرجو أن يحمل نقدي على محمل الإخلاص الصادق لفرقة يعز علي كثيراً أن أقرأ الفاتحة على روح النشاط والمجد والغيرة المفروضة فيها والمعدومة منها

ابن عساكر