مجلة الرسالة/العدد 303/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 303/التاريخ في سير أبطاله
أحمد عرابي
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له
مكانة بين قواد حركتنا القومية؟
للأستاذ محمود الخفيف
وفي يناير من السنة التالية صدرت من ثلاثة من الضباط على رأسهم احمد عرابي حركة أخرى كانت هي الجريئة حقاً، حركة جرت في أعقابها حركات فكانت بمثابة الشرارة التي أوقدت النار
نمى إلى عرابي، وهو في منزل أحد أصدقائه أن وزير الجهادية قد اعتزم عزله وزميله عبد العال بك حلمي، وعلم عرابي أن عدداً من الضباط في منزله ينتظرونه، فخف إليهم فوجدهم يعلمون ما يعلم فتشاوروا في الأمر، واختار عبد العال بك وعلي فهمي بك عرابياً رئيساً لهما ولمن يتبعهما من الضباط في حركتهم الوليدة التي دارت حول طلب عزل رفقي باشا من الجهادية ورفع المظالم عن رجال الجندية
ويذكر عرابي في مذكراته أنه بين للضابطين خطورة الحركة ولكنهما أصرا عليها فطلب إليهما أن يقسما له أن يخلصا النية، فأقسما. ولنا أن نتساءل هنا: لم اختير عرابي قائداً لهذه للحركة دون غيره، وقد كان فهمي على رأس حرس السراي وله صلات برجال الحاشية، ولم يكن عبد العال دون عرابي مرتبة وخبرة؟
إن اختيار رجل من الرجال دون غيره لقيادة حركة من الحركات أمر ينطوي لا ريب على معنى. وما ولدت الزعامات في الغالب إلا بهذه الطريقة. ففي ذلك الرجل توجد صفات يتميز بها من سواه فتجتمع عليه القلوب والأهواء في لحظة لا يكون للتنافس الشخصي فيها مجال. وهذا عندي خير مقياس للزعامة، وبخاصة إذا كان هذا الرجل المختار معروفاً من قبل لمن يختارونه فلا يكون إقبالهم عليه إعجاباً وقتياً لا يلبث أن يتبين خطأهم فيه.
ولن يشذ عرابي عن هذه القاعدة فإنما اختاره الضباط لما عرفوا فيه من صفات الجرأة والحماسة والإخلاص، ولما جربوه عليه من الصدق وحسن الطوية. هذا إلى أنه كان يفوقهم من ناحية لا غنى عنها لزعيم من الزعماء ألا وهي فصاحة اللسان، فلقد كان هذا الرجل الذي جعل الجهل في مقدمة عيوبه أفصح الضباط لساناً. ولقد كانت الخطابة إحدى ملكاته حتى ليعد من أخطب رجال ذلك العهد لا في الجيش فحسب بل وبين المواطنين جميعاً
أعد الضباط عريضة بمطالبهم ووقع عليها عرابي وزميلاه وذهب ثلاثتهم فرفعوها إلى رياض باشا وإنهم ليعلمون ما كان ينطوي عليه مثل هذا العمل من جرأة في ذلك الوقت، وكان عرابي هو الذي يتكلم باسم زميليه وباسم الضباط جميعاً كما كان سعد يتكلم حينما ذهب مع زميلين له في مستهل الثورة الثانية إلى مقر المعتمد البريطاني يرفع مطالب المصريين عقب الهدنة
وكان رياض يكره سياسة تقديم العرائض مهما كان من عدالة المطالب، وكان يلقي في السجن أو يحكم بالنفي على من يخطون هذه الخطوات كما حدث للسيد حسن موسى العقاد فقد نفي إلى السودان لأنه انتقد إلغاء قانون المقابلة على الصورة التي جاءت بها لجنة التصفية وكما حدث لكثير غيره ممن أخرجوا من مصر بسبب آرائهم الحرة
وقابل رياض الضباط مغيظاً محنقاً وخاطبهم في كبرياء وغلظة كما يقول عرابي في مذكراته فقال لهم: (إن أمر هذه العريضة مهلك وهو أشد خطراً من عريضة أحمد فني الذي أرسل إلى السودان)، وكان هذا الفتى قد نفي أيضاً لأنه طلب المساواة في المعاملة مع غيره من موظفي الديوان محتجاً على ما كان يجري من محسوبية، ذلك الداء الوبيل الذي لا نعرف متى تتخلص هذه البلاد منه!
أما عن فحوى العريضة فإن عرابي يذكر أنه قد طالب بعودة مجلس شورى النواب إلى جانب المطالب العسكرية، ومع أن أكثر المؤرخين يذكرون أن هذا الطلب لم يأت ذكره إلا فيما بعد. ولكن عرابياً يصر على دعواه في كل ما كتب من تاريخ حياته
على أن الأمر الذي غضبت منه الحكومة هو المطالبة بعزل عثمان رفقي فقد رأت في هذا الطلب نوعاً من التمرد فما دخل الجيش في سياسة الحكومة ليطالب بعزل وزير. وقد كانت الحكومة لا ريب محقة في هذا الغضب، بيد أنها من جهة أخرى لم تسلك إزاء هذه الحركة ما كانت تقتضيه السياسة الرشيدة، فكان عليها أن تبحث في مطالب الجيش فتجيب ما كان منها في جانب الحق ثم تقنعهم بعد ذلك بأن ليس من حقهم المطالبة بعزل رفقي سكت رياض أسبوعين وهو يحاول إقناع الضباط لسحب العريضة وهم يصرون عليها. وغضب توفيق أشد الغضب وأشار عليه المحيطون به باتباع العنف مع الضباط، ثم نمى إلى رياض أن سكوته قد يفسر بأنه ممالأة للجيش وعدم موالاة للخديو. ويقول مستر بلنت في مذكراته إن الخديو أراد أن ينتهز هذا الحادث للانتقام من رياض فيوقع بينه وبين رجال الجيش.
ولما فطن رياض إلى ما قد يفسر به سكوته وافق على محاكمة الضباط، ووقع الخديو على أمر بمحاكمتهم، ودعي وزير الجهادية الضباط الثلاثة إلى ديوان الجهادية بقصر النيل بحجة الاستعداد لحفلات زفاف إحدى الأميرات وهناك ألقي القبض عليهم. . . وبذلك تفتتح لعرابي صفحة في سجل تاريخ مصر
وكان الضباط على علم بما دبر لهم. فلم يكن من العسير عليهم في مثل ذلك الموقف أن يدركوا ما عسى أن تبيته الحكومة لهم من كيد. ولقد قيل أن قنصل فرنسا كان على اتصال بهم فأخبرهم بما عقدت الحكومة النية عليه
واتفق ثلاثتهم مع فرقهم أن تذهب إليهم إذا تأخرت عودتهم عن ساعتين؛ ثم ذهبوا إلى حيث طلب إليهم أن يحضروا، فما كادوا يدخلون وزارة الجهادية حتى ألفوا أنفسهم بين صفوف مسلحة من الجركس فألقي القبض عليهم وسيقوا إلى السجن ثم إلى المحاكمة وقد انعقد لهم مجلس يحاكمهم برياسة عثمان رفقي باشا.
ويحسن أن نورد هنا ما وصف به عرابي موقفهم ساعتئذ قال: (ولما أقفل باب الغرفة تأوه رفيقي علي بك فهمي وقال: لا نجاة لنا من الموت وأولادنا صغار. ثم اشتد جزعه حتى كاد يرمي بنفسه في النيل من نافذة الغرفة فشجعته متمثلاً بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج
وتمثل عرابي بأبيات أخرى نسبها إلى السيدة زينب رضي الله عنها إلى أن قال: (فلا والله ما كانت إلا هنيهة حتى جاءت أورطتان من آلاى الحرس الخديو وأحدق رجالهما بديوان الجهادية وأسرع بعض الضباط والعساكر فأخرجونا من السجن، ففر ناظر الجهادية ورجال المجلس وغيرهم من المجتمعين وقصدوا جميعاً إلى سراي عابدين) وإنما نورد ما ذكره عرابي لأنه من جهة يصور لنا جانباً من شخصيته وناحية من ثقافته ويرينا نزعة اتكاله على الله تلك النزعة التي سوف لا تنخلع عنه حتى بعد أن تنخلع عنه عزيمته في مأساة التل الكبير؛ ثم لأنه من جهة أخرى متفق مع ما يقول الرواة فلا ضير أن نورد القصة على لسانه
(يتبع)
الخفيف