مجلة الرسالة/العدد 301/دخيلة آسيا
مجلة الرسالة/العدد 301/دخيلة آسيا
للأستاذ عباس محمود العقاد
جون جنتر كاتب صحفي روائي ذو شهرة عالمية، بدأ حياته الصحفية في الحادية والعشرين من عمره حوالي سنة 1922 مخبراً في صحيفة شيكاغو دايلي نيوز الأمريكية، ثم أسندت إليه مراسلتها من عواصم أوربا والشرق الأقصى فأقام في لندن وباريس وبرلين وموسكو ومدريد وحواضر الصين واليابان والهند وكل حاضرة كان لها شأن في السياسة العالمية
واتصل بعظماء البلاد بين محادث ومجالس ومراقب، واستعان بالوسائل الكثيرة التي يستطيعها الصحفي الأمريكي من بذل المال وإقامة الولائم والتقاط الأسرار للإطلاع على دخائل الزعماء المحجبين في البيوت وفي دواوين الأعمال؛ ثم اعتزل الصحافة منذ ثلاث سنوات وتفرغ للتأليف في موضوعات تشبه موضوعات الصحافة، فكان تصنيفه الأول في هذا الباب كتاباً ضخماً يربى على خمسمائة صفحة كبيرة أسماه دخيلة أوربا ويشمل على نوادر مستملحة ومعلومات طريفة عن كل من عرف من الرجال، وكل ما عرف من الشؤون والأحوال؛ وهو محصول نفيس ولا شك يحتاج إليه كل من يعنيه أن ينفذ إلى حقائق الأمور في سياسة الدول الأوربية وسياسة العالم عامة
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في شهر يناير سنة 1936، وصدرت الطبعتان الثانية والثالثة منه قبل أن ينتهي الشهر، وأمامي الآن الطبعة الحادية والثلاثون منه؛ ولا يبعد أن تكون الطبعة الثانية والثلاثون في الطريق، وثمن النسخة نيف وستون قرشاً بالعملة المصرية. . . فلعلي لا أتهم غداً بالتحريض على جريمة قتل واغتيال إذا اطلع على هذه (الأسرار) أولئك الحانقون على كتابنا الكهول والشيوخ، لأنهم ناجحون!
وسر المؤلف بهذا النجاح فأقدم على تجربة ثانية باسم (دخيلة آسيا) في هذه المرة، تناول فيها عظماء اليابان والصين والهند وفارس وسائر العظماء الأسيويين، وكتب عن إمبراطور اليابان وقائد الصين وشاه إيران وغاندي وجوهرلال، وأجاد في هذه التراجم كما أجاد في تراجم المشهورين الأوربيين، فسيلقى كتابه الثاني من الرواج ما لقيه كتابه الأول؛ وسيقبل عليه الأمريكيون والأوربيون قبل إقبال الآسيويين وإخوانهم الإفريقيين عليه! ولما يصدر الكتاب بعد من المطبعة، ولكنا اطلعنا على نخبة من فصوله في المجلات المختلفة، ومن هذه الفصول نلخص بعض ما يطيب الإطلاع عليه لقراء العربية
كتب عن إمبراطور إيران صاحب الجلالة رضا بهلوي بعنوان (ملك الملوك) أو شاهنشاه بالإيرانية، فذكر جهاد جلالته في كفاح الجهلاء من رجال الدين الذين يحاربون الإصلاح باسم القرآن، وما يحاربونه في الحقيقة إلا بما يجهلون من العلم ومن القرآن، وذكر اجتهاده في تعليم نفسه وقال: إن ظهوره كان أكبر حادث في التاريخ الفارسي بعد أيام جنكيز خان، وإنه كان قبلة الآمال حين فكرت فئة قليلة من الشبان في إنقاذ البلاد من الفوضى والفساد، فجمع حوله ألفين وخمسمائة من الجند وتقدم إلى طهران في العشرين من شهر فبراير سنة 1921 فاستولى عليها بغير عناء
ويقول المؤلف إن الشاه يستيقظ في الخامسة من الصباح، وليس في المملكة موظف كبير إلا ويتوقع دعوة منه في أي وقت من أوقات الليل والنهار للحضور إلى القصر بعد خمس عشرة دقيقة، وهو يستحث وزراءه إلى العمل الناصب فيفخرون بالعمل ويفخرون بإيران
ويقال إن الشاه أوسع الملاك أرضاً في أرجاء القارة الأسيوية، وأنه يملك أعظم الفنادق الكبرى، ويجعل السياحة في البلاد الفارسية حكراً للدولة، وليس على الدولة ديون بل لها موارد في احتكار السكر والشاي والملح والتجارة الخارجية، والنقل والنفط وما إلى ذلك، وتنفق كلها على المرافق العامة والإصلاحات الداخلية. وقد وهب الشاه بلاده كل ما عنده من الذهب منذ عهد قريب.
ولا يطيق الشاه تعصب الجمقي من رجال الدين. فمن ذلك أن جماعة منهم هجموا على موظف أمريكي في السك القنصلي فقتلوه لأنه التقط صورة شمسية لمحفل من المحافل الدينية، وكانوا بقيادة رجل يزعم أنه من نسل النبي عليه السلام. فأمر الشاه بمحاكمته وصدر الحكم عليه بالموت، فمات، وكان عبرة لغيره من الجهلاء الذين يسيئون بهذه الحماقات إلى سمعة البلاد.
وقال إن الشاه تدرج في إلغاء الحجاب فأصبح نساء المملكة جميعاً سافرات، وإنه يقتدي بالغربيين، ولكنه لا يستسلم لأحد منهم في سياسة داخلية ولا سياسة خارجية. وقد ألغى خطوط الطيران الألمانية والإنجليزية وسمح للطائرات الهولندية وحدها أن تطير فوق بلاده، على أن تجدد الرخصة كل شهرين.
وندع ما أشار به الكاتب إلى (خصوصيات) الشاه، ونذكر بعض ما رواه عن (الإنسان الإله) أو إمبراطور اليابان ومن أنهم يستأنسونه شيئاً فشيئاً لأنه يعيش حتى الساعة عيشة الأرباب المعبودين، فلا يتكلم في المذياع ولا يجوز لأحد أن يصوره ولا أن يحدجه بنظره، وأنه مع هذا ينظم الشعر ويقيم في قصره مكتباً للمسابقات الشعرية تعرض فيه المنظومات كل سنة ويشترك الإمبراطور فيها وإن كان لا يشترك في الجوائز الممنوحة للسابقين
ونقل المؤلف عن بعض المصادر أن السياسي الياباني الكبير الأمير (إيتو) قد استشار بسمارك أثناء زيارته لبرلين في أمر الدستور والقواعد النيابية فقال له ضريبه بسمارك إن الشرط الأول لنجاح المملكة الدستورية هو اعتصام الملك بثروة كافية وافية. وعلى هذا يقول المؤلف إن رأس مال البيت الإمبراطوري هو الثالث أو الرابع بين رؤوس الأموال في الديار، وإن للإمبراطور أسهماً في كثير من الأعمال الصناعية والسكك الحديدية وخطوط الملاحة، ومع هذا لا يأذن العرف للإمبراطور بحمل النقود كما يقولون.
وكتب عن زعيم الصين (شيان كاي شيك) فقال: (إنه لغز من الألغاز النفسية لأنه لدود الخصام شديد الصرامة في النظام، ومع هذا يصفح عن كثير من أعدائه ويوليهم المناصب ويلقي عليهم التبعات.
يستيقظ عند الفجر ويدأب على العمل حتى المساء، ويحب أن يؤدي أعماله وهو مضطجع، وينام قليلاً أثناء النهار على صوت الأغاني التي تدار له على الحاكي، ويختار من الأغاني أنشودة دينية لشوبير، ويعلم مرءوسوه في الحجرة المجاورة أنه قد نام ساعة ينقطع الإنشاد.
لا يدخن ولا يشرب الخمر، وقلما يتعاطى القهوة أو الشاي، وله يومية يواظب على تدوين الملاحظات فيها؛ ويقال إنه نجا من الموت مرة بفضل هذه اليومية، لأنها وقعت في أيدي المعتدين عليه فقرءوها فبدا لهم الرجل في حياته الخاصة بعد قراءتها على صورة غير التي تعرضها لهم مغامراته السياسية، فأحجموا عن قتله
رياضته المختارة السير على الأقدام فوق التلال، أو تناول الغداء في الخلاء، ولا يزجى الفراغ في غير القراءة، وأكثر ما يقرأ في الكتب الصينية القديمة، وشعاره من كلام كونفشيوس الحكمة التالية: (من أراد أن يحكم أمة فعليه أن يحكم أسرة. ومن أراد أن يحكم أسرة فعليه أن يروض جسمه قبل ذلك بالرياضة الأدبية. ومن أراد أن يروض عقله فعليه أن يخلص في نياته ومقاصد حياته. ومن أراد الإخلاص في النيات فعليه التوسع في المعرفة)
ومفتاح أخلاق الزعيم الصيني العناد والصبر والمثابرة. ويبلغ من يقينه بصوابه أنه ينتظر من أعدائه أن يثوبوا إليه مع الزمن نادمين موافقين ولو طال الانتظار
مرتبه ألف ريال صيني في الشهر، وهي تساوي مائتين وخمسين من الريالات الأمريكية. وهو سعيد في حياته المنزلية تعاونه زوجة فاضلة من بيت كريم هو بيت أستاذه زعيم الصين الأكبر (سون ياتسين)
ولا يزال وفيَّا كل الوفاء لأستاذه الجليل. ففي صباح كل يوم من أيام الاثنين يقام في معسكره حيثما كان اجتماع عام يحضره نحو ستمائة من أعوانه، وتعزف الموسيقى سلاماً فيقف جميع الحاضرين، ويرفعون القبعات وينحنون ثلاثاً راكعين أمام صورة كبيرة لسون ياتسين، ثم يتلو شيان كاي شيك وصية أستاذه في خشوع واتئاد كما يتلو الصلاة، ثم يسأل الحاضرين السكوت دقائق ثلاثاً يعقبها بإلقاء موعظة تستغرق الساعة أو أكثر من ذلك، يعرض فيها على أستاذه أعماله وحساب أسبوعه كما يعرض المرؤوس تقرير الأسبوع على رئيسه الذي هو مسؤول بين يديه، ويظل السامعون والمتكلم واقفين طوال وقت الاجتماع، ثم ينفضون خاشعين بعد أن يؤذنهم الخطيب بكلمة الختام)
ويرى المؤلف أن شيان كاي شيك ربما كان اقدر أبناء الصين منذ العهد الذي بنى فيه الحائط قبل المسيح بثلاثة قرون
ولا يتسع المقام لتلخيص ما كتبه عن غاندي وجوهرلال وغيرهما من أعلام الهند والقارة الآسيوية، فلعلنا نرجع إلى تلخيص الطريف النافع بعد صدور الكتاب
عباس محمود العقاد