مجلة الرسالة/العدد 300/من ذكريات لندن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 300/من ذكريات لندن

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 04 - 1939



حرية. . .!

للأستاذ عمر الدسوقي

مضى الشتاء متثاقلاً متلكئاً بعد أن أطلق لشياطينه العنان، تعبث بالأرض عبث الوليد بخذروفه، وتجوس خلال الديار بوجوه مقطعة مكفهرة، تتواري منها ينابيع الجمال والرحمة هلعاً وفرقاً؛ وتلفح أنفاسها الأوراق النضرة فتذوي، وأوراق الدوح فتساقط عصفاً مأكولاً؛ وتزفر زفرات مَرّتْ على زمهرير سقر، حتى تنتفض لها الدنيا، وتنكمش في أبرادها وتسري في أوصالها رعدة الفر، وقشعريرة الحمى البرود، أو ترسلها ضباباً أسود بشعاً، يملأ فجاج الأرض، تطرف منه العيون وتدمع، وتغص به الحلوق وتشرق، وتسيل الأنوف وتنتفخ، وتسعل الصدور وتنقبض؛ يحجب الشمس، ويعطل الحياة، ويحيل السبل سراديب مدجنة يرتطم فيها الأحياء بالجمادات وهم يتحسسون طريقهم، وتتراءى فيها الجمادات مردة طليت بالقار، أو اشتملت بمسوح نسجت من أديم الليل البهيم؛ أو ترسلها ريحاً زفزفاً مزمجرة، تهز الأرض هزّاً عنيفاً، وتزأر زئيراً منكراً كئيباً، يصم الآذان، ويرجف الأفئدة. . .

حتى إذا خالت الشياطين أن الدنيا قد هلكت رعباً، وحالت جثة هامدة باردة، وأشلاء ممزقة مبعثرة، دفعت بالثلج كفناً أبيض يتراكم كسفاً، ويجلل الأرض بقطع بيضاء هشة، كأنها زبد الموج الصاخب، أو شعر عجوز شمطاء اجتثته وهي مغيظة محنقة، أو العهن المنفوش، أو القطن المندوف

ثم حشدت فيلق المزن في عنان الجو، تتردى حبر الحداد، وتبكي وتنتحب، وتجهش بالعويل، فتسمع لها شهيقاً وزفيراً؛ وتسكب الدمع مطراً هتوناً تسقط حباته على الأرض كأنها نقرات الدفوف، أو عصا جبار ينكث الأرض موجدة وغيظاً، أو حجرات مسلم متعبد يرجم الشيطان بمنى، ثم تزدحم به الأودية فيطغى ويكتسح كل ما يعترض موكبه الهائج وتياره المائج

وها قد نفخ الشتاء في بوقه، فحشرت إليه شياطينه من كل فج، وولى مشيعاً باللعنات، وطفقت حرارة الحياة تتمشى في أطراف الدنيا، فتنهض الطيور الهاجعة، وتتثاءب البراع الوسنانة، وترقع الرياض ما بلى من كسائها بالحشائش الحواء، وتوشيه بالأزهار اليانعة العبقة الشذى

وهاهي ذي ذكاء صفراء عليلة، غب احتجاجها الطويل، ثم تتواري في خدرها بعد هنيهة، ثم تبدو أثبت قدماً وأربط جأشاً. وتحاول السماء أن تتجرد من ثياب الشتاء القاتمة الغليظة، فتمزقها إرباً إرباً، فتظهر أجزاء من أديمها الأزرق الصافي خلال بردها المهلهل الخلق

وهرع أهالي لندن إلى العراء ليشهدوا آخر معركة بين التوأمين الربيع والشتاء

وجاءتني ربة الدار فرحة متهللة، مشرقة الطلعة، كأنما نفث الربيع فيها من سحره، فغدا وجومُها بسمات، وحديثها ضحكات فحيت تحية كأفواف الزهر، ثم تغنَّت بفتنة الطبيعة في ديارها إبان الربيع، فحسبتها قمراً يُرَجِّع على فنن دوحة تميس في الحبر السندسية البديعة، أو مِزْهر عازف يوقع أنشودة الجمال الرائع؛ ثم قالت:

- حذار أن تظل جلس بيتك في مثل هذا اليوم النادر، فمسرح الطبيعة عندنا جم المناظر، تارة يلفظ شُواظاً من نار فتقبع المخلوقات في دورها، وتارة يبتسم ابتسامة الرضا فينسى الناس فترات تجهمه، فيعدون إليه بقلوب يستخفها الطرب، ويتملكها العجب. إن أشعة الشمس في بلادنا نفيسة كالذهب الوهاج، يتهافت عليها الناس ويدخرونها لأوقات يربدُّ فيها وجه السماء، وما أكثرها حتى في هذا الفصل الذي تخطر فيه الدنيا في حلة قشيبة من النّوْر، وتتنفس فيه الرياض عبيرَ الأقحوان النَّدّ، والياسمين والورد

- لقد حدثتِ فأطربت، ووصفتِ فأطنبتِ، فهل لكِ أن تهديني إلى أي الحدائق أبهج للفؤاد، وأجلى لصدى النفس، وأمتع للنظر؟

- إن لندن يا سيدي مدينة تزخر بألوف الألوف من البشر، مترامية الأطراف، واسعة الجنات، فسيحة الرقعة تتمثل فيها الحياة العاملة المجدة، والحركة الدائبة النشطة في أوجها؛ ترى قُطُر الكهرباء تجري فيها رائحة غادية، في سراديب تحت الأرض، وعلى قضب فوقها؛ وترى أسراب السيارات تجوب أرجاءها ألوفاً ألوفاً، فمنها ذوات الطبقتين كأنها بواخر تمخر عباب اليم، ومنها القميئة التي تنساب في الطرقات انسياب الصِّلال وسط الإحراج والأدغال؛ والناس فيما بين ذلك يهرولون زرافات ووحداناً، كأنما الحياة الدنيا قد أفلست وعرضت ذخائرها، وهم إلى الغنيمة يهطعون ولهم ضجيج يفزع الكواكب في مسابحها، والشياطين في معاقلها

وحري بنا ونحن نتنفس هواء قد أفسدته الصناعة، وأنفاس الخلق، أن ننشئ الرياض العريضة الرحبة، تخُطُّها البحيرات الجميلة الجذابة، ففيها نستجم من نصب العمل والحياة المضنية، وإليها نهرع إذا ضاقت صدورنا، وكادت أرواحنا تزهق من حر أنفاسنا. ولكل روض خاصة: فإذا نشدت الهدوء والعزلة، والمنظر الخلاب البهيج، فدونك (الريجنت)؛ وإذا شئت أن تدرس طباع الشعب عن كثب، وتشهد صراع الفكر، وخطباء النَّدى، والجموع الغفيرة، والحرية المطلقة، فدونك (هايدبارك)؛ وإن كنت مولعاً بالتلال المعشبة، والرُبى الخضراء، والوهاد الفسيحة، والطبيعة الساذَجة الغفل التي لم تصقلها يد البشر، فأعمد إلى (هامستدهيث)؛ وإن كنت مغرماً بدرس النباتات وأنواعها المختلفة وأشكالها المتباينة، فعليك بحدائق (كيو) حيث يمثل فيها نبات الدنيا جمعاء. وهناك رياض أخرى لا تقل رونقاً وبهاءً وحسناً ورواءً عما ذكرت

- لقد شدت - يا سيدتي - بمدينتك فخورة مُدِلة، ولا غرو، فأنتم أمة لم تنس نصيبها من متع الدنيا وزخرفها. فها هي ذي لندن، قد تجَّلت في مبانيها سلامة الذوق والانسجام البديع، وحفت طرقها بالأشجار، وزينت منازلها بالحدائق الصغيرة سيان في ذلك بيت الأمير وبيت الحقير. وإني لنصيحتك جِدُّ مطيع، ولك مني ثناء عطر جزاء وفاقاً على ما أتحفتني به من حديث ممتع طريف؛ فمعي صباحاً، وإلى اللقاء. . .!

ذهبت إلى (هايدبارك) وها أذنا ألج ساحتها المزدحمة

يا عجباً هنا منابر وخطباء، وهنا جموع محتشدة تنصت وتنتقد وتجادل تسخر وتحتد؛ وعلى كل منبر رَق مرقوم، يفصح عن الفكرة التي يدعو إليها الخطيب أو ينافح عنها. والناس ينتقلون من حلقة إلى أخرى كأنهم زُمَر النحل، تقتطف من كل زهرة قطرة؛ حتى يقعوا على ما يَلَذ لهم حديثه، فيرهفون السمع ويعملون الفكر ويجادلون المتكلم أحرَّ جدال

هاك شيوعياً يبسط للناس مبادئ عقيدته، ويلوم في حدة وسلاطة وعنف، هؤلاء الذين اكتنزوا الذهب والفضة واستعبدوا بهما الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؛ وأخذوا يَنعمون بأطايب الحياة، ويبعثرون النضار في سبل الفسق، بينما يَغضص المجتمع بقوم يبيتون على الطوى ويندبون جَدَّهم العاثر، وزمنهم الغادر. ويدعو بكل ما أوتي من ذرابة لسان، وشجاعة جَنان، إلى تقسيم الثروات حتى يتساوى الناس في الشقاوة والسعادة، والغنى والفقر

وهاك اشتراكياً لا يشتط كتربه وإنما يطلب - كما يقول - العدل والرحمة، والرفق بمن يكد ويكدح لينعم سيده ويقوى بمن يذوي شبابهُ ويراق دمُه، ويَضنى جسمه في المصنع والحقل؛ ليقدم للإنسانية عُدة الترف والبذخ؛ مفنداً في لباقة وطلاوة حديث ما يتصدى له الشيوعي من دعوة ترمي بالعالم في أحضان التهلكة والدمار؛ وكيف يُسَوَّي بين الذكي والغبي، والشجاع والرعديد، والقوي والضعيف، والجاد والخامل. . .؟ وهل الحياة الدنيا سوى كفاح وجهاد، وصراع وجلاد، يفوز فيه من قويت مُنَّته، وحسنت عدته، ودأب على العمل لا يَكل ولا يمل. .؟

ثم يعرج على أزمات الأمم في عصرنا هذا، وأنها نِتاج استبداد الأغنياء بالفقراء، ولو رعى الأول حقوق الثاني لأخلص الثاني في خدمة الأول ولاستقام العالم وعاش في بُلَهنية ووفاق. ولم ينس أن يَصُبَّ ذَنُوباً من ألفاظ السباب على الحكام المستبدين وقتلهم لحرية الأفراد، وتسخيرهم الأمم لإشباع مطامعهم

وهاك يهودياً يبكي ويستبكي، ويناشد القلوب الرحيمة والعقول السليمة، أن تنصف شعب الله المختار، الذي كتبت عليه الذلة والمسكنة، والذي طارده الحكام المستبدون في كل بقعة عقد لهم فيها اللواء، وكتب الظفر، فبات شريداً طريداً، خالي الوفاض، كسير القلب، مهيض الجناح. ويقول: إننا قطعة من الإنسانية المعذبة، وأنتم يا أبناء التايمز قد ربُيتم على البر بالمحروم، والنصفة للمظلوم، ولا نطلب منكم سوى ديارنا التي كنا نقطنها منذ ألفي سنة، وما تركناها إلا قسراً وقهراً، جودوا لنا بفلسطين، نُحيلها جنَّة من جنان الخلد، ومعقلاً أميناً يصد كل من تحدثه نفسه بالتعدي على طرق الإمبراطورية العتيدة. ينفذ بمثل هذه العبارات إلى أفئدة الناس فيأسرها، ويستدر دمعهم، ويكسب عطفهم.

وهاك قسيساً، قد ارتدى مسوحه، ووقف في وقار وتزمت ينادي القطعان النافرة من حظيرة الكنيسة: أن ارجعوا إلى بارئكم، فالباطل لا يغني من الحق فتيلا وأن لكم في طمأنينة الروح عوضاً عن فقدان المادة، وأن الحياة الدنيا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا لم يجده شيئاً؛ يدعها الإنسان وحيداً إلا مما قدمت يداه، فلا مال ولا عتاد، ولا جاه ولا سلطان والآخرة خير لكم وأبقى

وهاك امرأة، قد تملكتها نزعة صوفية، فبرزت في أسمال، وأطمار وطفقت ترفع عقيرتها منشدة الأغنيات الدينية فتجذب إليها جموع الناس، ثم توسعهم لوماً وتأنيبا على تقصيرهم في حق المسيح، حتى إذا انفضوا عنها ضاحكين هازئين عادت تغني مرة أخرى.

وهاك ملحداً يسفه الشرائع والأديان، وهاك عالماً يشرح للدهماء أصول علم النفس وقوانين الاجتماع.

وهاك حبشياً يثير حماس القوم ضد القوة الغاشمة، والأمة الظالمة، ويلجأ إلى سجايا الإنجليز الكريمة، وأريحيتهم ومروءتهم وتقديسهم للحرية ألا يدعو وطنه يذهب نهبة لأطماع الاستعمار، وقرباناً على مذبح الغدر بالعهود والحنث بالذمم.

وهاك سفسطائياً يبرهن على أن الإنجليز هم (شعب الله المختار) لا بني إسرائيل، وأنهم أولى الناس بحلم العالم.

وهاك نازياً، يبرق ويرعد، ويتهدد ويتوعد، ويهدر كالسيل الجارف، ويغزو الديمقراطية في عقر دارها، ويرميها بالتفكك والانحلال، والضعف والفساد؛ ولاتباعها أوهاماً وخزعبلات، وتعلقها بمثل لا تغني أمام جبروت المدفع شيئاً؛ ولما لأوشاب الناس فيها من أيد وقوة، فيتخلف عن دست الحكم ذو الرأي الرشيد، ويطفر إليه من لا يقيم للأمور وزناً؛ ويرمي المجالس النيابية بأنها ميدان للثرثرة وقتل الوقت، ويقول:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا

يا قوم، القوا أعنة أموركم ليد مصلحة سديدة، ففي ذلك العزة والمنعة، والعدل والمساواة، طهروا دياركم من اليهود الذين امتصوا دماءكم وأنتم في غفلة ساهون. ألم يسيطروا على صحفكم ويوحوا إليكم بما تعتقدون؟ ألم يخضعوا المسرح والخيالة لسلطانهم المالي، ويعرضوا عليكم ما يشاءون لا ما تريدون؟ ألم يغتصبوا ينابيع الثروة منكم، ويصيروكم فعلة مأجورين؟

إن آفات المجتمع - يا قوم - تجد المرعى خصباً ممرعاً، في ظل الديمقراطيات؛ حيث يتغنى الناس باسم الحرية فتوزع جهود الأمة، ويتفرق شيعاً، ويُشغَلون بالحزازات الحزبية عن السير في طريق الإصلاح والفلاح راعني، وأيم الحق، تلك الحرية العجيبة، وكيف أن عقول الناس في هذا البلد، تصغي إلى كل هذه المبادئ المتباينة ولا تتأثر بها، وكيف أن حلمهم يسع كل هذه الطعنات في أنظمتهم وعقائدهم وآرائهم. ولو كان هؤلاء الدعاة في أمة أخرى غير إنجلترا لزجوا في غيابات السجون، أو حزت ألسنتهم أو قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما ينفثونه بين الناس من سموم، وما يريدونه من شر بالحكم ونظامه والمجتمع واستقراره

تركت تلك الجلبة الصاخبة، وأخذت أجوب الحديقة، فشاهدت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت؛ رأيت الفضيلة تذبح في معبد الشهوات، والناس لا يتورعون عن الفاحشة تحت شمس الضحى، وقد عادوا أشبه بالضواري في أدغالها، لا قانون ولا نظام ولا حرمة ولا حياء. انتهكت الأعراض علانية، ووطئت المكارم طواعية؛ ولم يرتفع صوت يهيب بهم: أن رفقاً بمبادئ الإنسانية والشرائع الدينية، والمثل الخلقية

بل سمعت أدهى من ذلك وأمر، أعني حماية رجال الشرطة لكل من في الحديقة، والضرب على يد كل من يتصدى لهم واعظاً أو مبكتاً، وأن الحديقة حرم يأوي إليه كل من يريد أن يفرج عن نفسه أو يطفئ نار شهوته، أو يفوه بما يعد جريمة في مكان غير هذا؛ وأن الشعب هنا يسير على سجيته وفطرته، فلا يتقيد بعرف أو نظام، بل يتمتع بالحرية المطلقة

فقلت: رحماك ربي، إن هذه أعجوبة العصر. . .!

ثم سألت شرطيا: أيتاح لي أن أعتلي منبراً كهؤلاء الخطباء؟

- ولم لا؟ ما عليك إلا أن تستأجر منبراً وتقول ما شئت، وإن استجاد الناس حديثك استمعوا لك، وإن لم يلذ لهم انفضوا من حولك

تركته شاكراً متعجباً، وقد عقدت العزم على أن أدحض باطل هذا الدجال الصهيوني الذي يفتري على الحق، ويعلي كلمة الزور والبهتان، ويدعي وطناً ليس له بحق عربي مبين؛ وقلت لنفسي: ما دام للدهماء في هذه البلاد كلمة وسلطان فجدير بي أن أسمعهم صوت فلسطين العربية

ثم عدت وزمرة من لداتي أبناء العروبة، نتبارى في تبيان قضية العرب العادلة؛ وكانت ملحمة حامية الوطيس بيننا وبين الصهيونيين، سأرجئ وصفها إلى حديث آخر إن شاء الله

عمر الدسوقي