مجلة الرسالة/العدد 300/على هامش الفلسفة
مجلة الرسالة/العدد 300/على هامش الفلسفة
طريقة الأخلاق
للأستاذ محمد يوسف موسى
قلنا في الكلمة الأخيرة: ما هي الطريقة التي تتبع لمعرفة الخير من الشر، ولتحديد المثل الأعلى الأخلاقي تحديداً صالحاً مرضياً من الجميع؟ تساءلنا كذلك بعد أن أثبتنا أن الأخلاق علم من العلوم فيجب أن نسير في دراسته على الطرائق العلمية التي تصل بنا إلى الغرض في غير عوج ولا التواء
على أن الفصل في هذا ليس سهلاً ميسوراً؛ فهي مسألة ولا أبا حسن لها! مسألة اشتجر فيها الخلاف بين المفكرين والفلاسفة، بل لعل الخلاف لا يزال قائماً فيها حتى اليوم. يرى البعض أخذ الأخلاق من الدين - فهو المعين الذين ينقع الغلة ولا يكذب قاصده - أو مما وراء الطبيعة أو من علم الاجتماع؛ ويرى آخرون أنه من الخير أن نتعرف المبادئ الخلقية بأداة المعرفة المباشرة أي بالحماسة الخلقية التي تدرك الخير والشر من نفسها بدون نظر واستدلال: (استفْت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك)؛ بينما يذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن الواجب أن يطبق في الدراسات الأخلاقية الطريقة التجريبية الاستقرائية
الأخلاق الإستنتاجية
من الممكن كما يرى فريق من الباحثين أن نستنتج الأخلاق إما من الدين أو مما وراء الطبيعة أو من العلم الذي تنتمي إليه العلوم وهو علم الاجتماع
بالبحث نعرف أن الأخلاق، أو المبادئ الخلقية العامة، في كل الأديان التاريخية مستقاة من الإلهيات. نرى رجال الدين يقررون أولاً المسائل الخاصة بالله وصفاته وكمالاته، وبالحياة الأخرى ونعيمها وعقابها، ثم يربطون بذلك نتائج خلقية مردها للكتب المقدسة. يقررون أن الله لم يخلقنا عبثاً: (أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) وأنه لابد محاسب كلا على ما جنت يداه: (لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت) وأنه لابد من دار أخرى يكون فيها ذلك الحساب على ما أسلف المرء من خير أو شر: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيدا). كما يقررون أن الجنة التي عرضها السموات والأرض (أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس) وأن النار عقبى الظالمين. ويستنتجون من هذه الحقائق الدينية وأمثالها أن المرء يجب أن يكون خيّراً في كل أعماله، وأن ينأى دائماً عن الشر وبذلك يصل للكمال الأخلاقي. والخير والشر هنا ما جاءت به الكتب السماوية
استنتاج منطقي حسن من الناحية العملية؛ إلا إنه ليس له القيمة التي تؤتى ثمرها الخلقي إلا لدى المؤمنين بالله والدار الأخرى والثواب والعقاب وبهذا أو ذاك من الكتب المقدسة. فكيف العمل بمن لا يؤمن بإله أو رسول، أو بمن يؤمن بالإنجيل دون التوراة، أو بالعكس، أو بهذين دون القرآن الكريم؟ إذن ليس من الممكن بهذا الطريق أن نصل لتحديد قانون أخلاقي يرضاه الناس جميعاً على ما بينهم من خلف في الأديان والمعتقدات (فضلاً عن هذا فالرباط الذي يكون بين هذه العقائد الدينية والأفكار والآراء والمبادئ الخلقية التي يربطونها بها يكون غالباً واهياً متداعياً، فلا يكون الاستنتاج قوياً له قيمته وخطره)
وهاهو ذا العلامة (جوستاف بيلو يقول عن هذه المسألة (من الناحية المسيحية طبعاً): (ليفتح من يشاء أي كتاب من كتب العقائد الدينية: وحينئذ ماذا يجد. يجد أن الجانب الأكبر منه مشحون بالنظريات الخاصة بالله وقدرته وصفاته وأن الأخلاق تجيء في المركز الثانوي منه، وأنه من الواجب أن نكره الطفل على أن يفهم ويقبل نظاماً من الاعتقادات الدينية دون أن نعني بالتساؤل عما إذا كان في مقدوره فهمها! إن رجال الدين يجأرون بالشكوى من تزعزع الأخلاق وتدهورها من يوم لآخر لأن الإيمان يتزلزل من آونة لأخرى. لو أن هذا كان صحيحاً فعلى من تقع التبعة والمسؤولية؟ أليس على هؤلاء الذين يعملون دائماً على تفهيم الأطفال أن الأخلاق تتعلق دائماً بالدين والعقائد الدينية؟ مع أنه ليس في مقدورهم حماية هذه الاعتقادات من حملات الشك ومعاركه التي تنشب من حين لآخر. إنه مما يتفق مع حقائق الأشياء كما يتفق مع الحقائق العملية أن يرد للأخلاق استقلالها)
ينقد هذان الأستاذان الباحثين في الأخلاق من المسيحيين، وقد أصابا في كثير مما نقداه. إن الديانة المسيحية أعلنت في مبدأ أمدها الحرب الضروس على الفلسفة الإغريقية معلنة أن الأخلاق ليس لها أن ترجع في معينها للعقل والنظر، ولا أن تُترك للفلاسفة الذين هم بشر يخطئون ويصيبون؛ وإنما الدين وحده هو الحري بنشر التعاليم الصحيحة والأخلاق الفاضلة التي يوحي بها العليم الحكيم؛ ومن ثم أصبحت الأخلاق لا ترتكز على النظر المنطقي السليم، بل على الوحي المسيحي وحده، وصار أجل الفضائل في نظر المسيحية هو حب الله والإيمان به اللذان يوصلان إلى الخير الأسمى والسعادة الكاملة في الدار الأخرى بدل أن كان أرقى الفضائل وأسماها هي الحكمة في رأي الفلسفة اليونانية
أما الإسلام فلم يبخس العقل حقه ولم يحجر عليه في التفكير. أمرنا أن نعمل عقولنا فيما خلقت له، وأن نفكر في خلق السموات والأرض: (وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. إن في ذلك لآيات لأولى الألباب). كذلك لم يلجأ الإسلام في تحديد قيم الأعمال الأخلاقية، وبيان خيرها من شرها إلى ما فيها من منافع وملاذ في العاجل أو في الآجل كما يتوهم واهم إذا قرأ وصف الجنة، والترغيب فيها، والنار والترهيب منها؛ بل هو يخاطب كلاّ حسب ما يسعه فهمه تمشياً مع الغرائز الإنسانية. حتى إذا فعل المرء خير رجاء الصواب مرات عديدة أصبح له عادة، ويتشربه قلبه ويفهم ما فيه من جمال وسمو ذاتيين، فينتهي به الأمر إلى أن يفعله لذاته وحده. وهذا عين ما أراده الرسول إذ قال: (نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه). أي أن المثل الخلقي الكامل هو ما وصل إليه صهيب وأمثاله من فعل الخير، وترك الشر لذاتهما لا رغباً ولا رهباً.
على أننا نجد في تاريخ التفكير الإسلامي أن فريقاً كبيراً من المسلمين وهم المعتزلة يقررون أن الأعمال توصف بالحسن والقبح لذاتها لا لأن الشرع أمر بها أو نهى عنها، فيكون الشرع مبينا لصفاتها لا مثبتا لما ليس فيها. ويدللون لذلك باتفاق الناس على كثير من الفضائل والرذائل قبل مجيء الشرائع السماوية، إلى غير ذلك من الأدلة التي ليس هذا موضعها وليس هذا رأي المعتزلة وحدهم بل كان رأي غيرهم من مفكري المسلمين وحكمائهم أمثال الفارابي الذي يؤكد أن العقل يستطيع أن يحكم على العمل بأنه خير أو شر بنفسه بدون رجوع للوحي؛ لأن العقل عنده ليس إلا قبسا من النور الإلهي. وابن طفيل في رسالة (حي ابن يقظان) يجعل العقل قادراً على إدراك الحقائق كلها (ومنها طبعاً الخير والشر) وعلى العروج في المعارف العُلى حتى يصل للحقيقة المطلقة، لمعرفة الله تعالى.
وابن رشد فيلسوف الأندلس بل الإسلام يقرر أن العمل يكون خيراً أو شراً لمعان يكشفها العقل، وليس ذلك لأن الله أمر أو نهي
والخلاف في هذه المسألة يذكرنا بالخلاف بين الفلاسفة المحدثين فيما سمَّوه (نظرية القيم). فإنا نراهم مختلفين في أن القيم التي تقدر بها الأشياء من جمال وقبح وخير وشر وحق وباطل صفات عينية في الأشياء؛ كالألوان والطعوم والروائح، وبذلك يكون لها وجود مستقل عن العقل الذي وظيفته حينئذ إدراكها لا إثباتها؟ أم هي من صنع العقل (يصف بها بعض الناس الأشياء إذا كانت لها في نظرهم قيمة، ولهم فيها غرض أو غاية، ولا توجد إلا حيث توجد هذه الغاية). ذهبت طائفة إلى الرأي الأول، وأخرى إلى الرأي الثاني. ولكل وجهة هو موليها.
وأخيراً؛ إذا كان أخذ الأخلاق من الدين وربطها به منقوداً من بعض نواحيه كما رأينا، فهل من الممكن استنتاجها من معين آخر؟ ذلك ما حاوله كبار علماء ما وراء الطبيعة. وموعدنا ببسط آرائهم الكلمة الآتية إن شاء الله تعالى.
محمد يوسف موسى