مجلة الرسالة/العدد 300/رسالة المرأة
مجلة الرسالة/العدد 300/رسالة المرأة
الإسلام (والأتيكيت)
الأتيكيت أو الآداب العامة
دراسة وتحليل
للآنسة زينب الحكيم
نصت الشرائع السماويةُ كلها، على مراعاة الآداب العامة في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية. وإذا أنا اخترت أن أبين نسبة آداب الفرنجة إلى الآداب الشرقية وعلى الأخص الإسلامية منها، فما ذلك إلا لشدة الشبه بين هذه وتلك، ولأن في الإسلام وهو دين الاجتماع والتشريع الإنساني الرفيع - ما لو عرفناه وعملنا به - لما احتجنا إلى التقليد والنقل، مما تضيع معه قوميتنا الشرقية، وتتلاشى به شخصيتنا المصرية
ولقد اطلعت على كتب كثيرة شرقية وأجنبية في هذا الصدد حتى كوّنتُ فكرةً تحليلية عن الآداب العامة ونشأتها
فمجمل الكتب الشرقية (الإسلامية على الأخص) تشير إلى إنه من الواجب على الإنسان كفرد، وعلى الأمة كجماعة، أن تقوم بواجب الآداب العامة نحو الخالق الذي أوجدها سبحانه وتعالى؛ فتقر بفضله تعالى عليها - وتعتبر هذه أول خطوة في الآداب - ثم المحافظة على ما ورثته من نظم، وأن تتبع هذه النظم، وتسير على مهل في سبيل الانتقال بها من طور إلى طور أكمل منه في غير اهتزاز وعنف. كل هذا يكون الميراث التقليدي الأدبي، ونكون قد تدرجنا على شبه ما تدرج بالبرية موجدها الأعلى من مهدها ومن زمنها الأول وإلى الآن
والأديان السماوية أدل شيء على هذا التدرج المعتدل، فإن من يترسم خطى هذه الأديان، يلحظ سمة الطفولة على التوراة، ويرى سذاجة الفطرة والتضحية في الإنجيل، ويميز اتسام القرآن بسمة الرشد، ومدى النضوج العقلي الذي يعتمد عليه الإنسان للسير في الحياة وقد هُيئ له من أمره رشد
ولهذا فإن قائد الأمم أخلاقها وطباعها، والحاجة والزمان هما الكفيلان بإعداد النظم الجديدة، وأخلاق الأمة هي التي تحكمها. فكل نظام أو تشريع لا يتفق مع هذه الأخلاق ويمتزج بها امتزاجاً تاماً، يكون نظاماً مؤقتاً وتشريعاً لا يدوم طويلاً
ومما يجب التنبه له أن البيئة والأحوال والحوادث، تدل دلالة واضحة على مقتضيات الزمن الذي هي فيه. . . فلو نظرنا إلى التقاليد في أي زمن، ولأي أمة، وجدناها عبارة عن ماضي الأمة في حاجاتها ومشاعرها وأفكارها
فالتقاليد إذن: عوامل تشخص روح الشعب والحقبة التي وجد فيها لما لها من تأثير عظيم في القوم
فإذا بحثنا مثلاً في ضرورة احتياجنا إلى تقاليد في الآداب العامة (أتيكيت) من نواح كثيرة تساءلنا:
1 - لماذا نلاحظ قوانين واصطلاحات خاصة؟
2 - لماذا يحيى الناس بعضهم بعضاً، بشتى الطرق مثل الانحناء، والابتسام، والسلام باليد، ورفع غطاء الرأس الخ؟
3 - لماذا نقوم بعمل تعارف بين الأفراد، ونرسل الدعوات بعضنا لبعض؟
4 - لماذا نهذب طباعنا وحديثنا؟
لكي نستطيع الإجابة على أشباه هذه الأمثلة، يجب أن تتبع سير المدنية من مبدئها، فإذا فعلنا ذلك، وجدنا أنه كان من أولى ضروريات الإنسان الهمجي تدبيرُ بعض الطرق، واختراع بعض الوسائط التي تقنع الهمج من قبائل أخرى بأنه لا يريد المشاجرة، ولا الاعتداء، وإنه يريد أن يعيش في سلام.
ولكن كان من الصعب عليه جداً أن يفعل ذلك مبدئيا. فقد كان تفكيره المحدود مرتبكاً بالخوف وبوعورة الحياة. إذ أن الإنسان في تلك العصور الأولى كان دائم الارتياب، شديد التطير، كثير الظن؛ وقد كان مضطراً إلى أن يكون كذلك، لأن حياته كانت متوقفة على حذقه وحرصه
ولكن الحاجة أم الاختراع دائماً، فأقيمت علامات خاصة، وروعيت أشياء أخذ يميزها الهمج، وتعارفوا عليها كتحيات سلام وأمان
فتحية اليوم نتيجة مباشرة لتلك الضرورة الغابرة، ويقاس عليها كثير من التقاليد المتبعة.
فإن تحية الأمان هذه كانت أول المخلفات من الآداب العامة التي نطق بها بين الإخوان والمريدين
ولما عرفت قيمة هذه الشعائر السلمية، اتبعت تحايا خاصة لكل ظرف ولكل مناسبة مما ساعد على وضع الأمور في نصابها بأقل مشقة، وبأخص طريق، فساد السلام نوعا ما، وأخذت العواطف الإنسانية تقوى (ومن هنا بدأ عهد جديد في تطور البشرية).
فإذا أودعت هذه الشعائر خفايا النسيان، وأسدل عليها ستائر الإهمال كان الغرض استئناف حياة الهمج من جديد.
على إنه لن يكون في استطاعتنا وأدْ الآداب دفعة واحدة وهي التي تكونت على مر الدهور، ولا يمكن أن ينكر أحد أن البشرية نشأت ونمت معها المدنية، فمن تحية الأمان الأولى، نمت سلسلة تحايا خاصة، وأشكال احترام خاصة جمعت الرجال تحت لواء حماية متبادلة، وصداقة مشتركة، فتولدت الحفلات، وحلقات الرقص لتعظيم القوى الطبيعية التي حار العقل البشري في فهمها حينئذ، كالشمس والنجوم، وقدمت الضحايا لآلهة الخوف التي أزعجتهم، كالظلام، والوحوش، والأصوات غير المعهودة لهم، كما أقيمت حفلات تأبين الموتى، وولائم الأفراح، وغير ذلك.
من ذلك نرى، أن الهيئة الاجتماعية حريصة على سلامتها، فهي لذلك أقامت تشريعاً اجتماعياً محدودا واضحا، مبنياً على الأخلاق والعادات، فأصبحت هذه التقاليد تشريعاً أرتآه، وعمل به نفر ممن تفخر بوجودهم في زمرتها الجماعة الإنسانية المثقفة الراقية.
فنحن ملزمون إذن أن نتعلم هذه التقاليد رغبنا أو كرهنا ما دمنا نعيش في جماعات، وننشد مجتمعاً راقياً في حياتنا
مما لا ريب فيه إنه توجد عند كل إنسان رغبة للخير، وإن جانب الخير في الإنسانية توقظه وتظهره الرحمة والآداب والأخلاق الكريمة بوجه عام. كما أن المران على (الأتيكيت) أو الآداب العامة يحتاج إلى أكثر من مجرد استقاء معلومات من معاهد التقاليد الاجتماعية الخاصة بالأخذ والعطاء، والقبول والرفض، والدعوات والولائم، أو عدد البطاقات التي تترك للآخرين بالمناسبات، أو استعمال الألقاب على وجه صحيح في التحدث وللكتابة. فإن التمرن العملي على (الإتيكيت) يجب أن يبني على المبادئ الأولية، وهي الاحترام، ومشاعر الرحمة والشفقة نحو الآخرين، وإلا كانت التقاليد مجاملات جوفاء وهذه لا تلبث أن تزول
وان أميز ما يمتاز به الرجل الملم بمعرفة الآداب (العامة والخاصة) ما يتسم به من وقار وسماحة يغمر من يقابله، كما يساعده على العمل والقول اللائق الصحيح في كل موقف من المواقف. فالفرد الذي يعرف كيف يوجد بين جماعة راقية، لا يدع مجالاً للغضب ولا لعدم الصبر، ولا يتسيطر ولا يتحكم ولا يضغط على الآخرين بطباعه الجافة أن مركز الآداب الراقية، يمنع التبجح مع الرؤساء، كما يمنع الأحاديث التي تؤلم المشاعر، ويحبذ العمل على إيجاد رغبة صادقة في جلب السرور لمن نوجد معهم. فالمرأة والرجل المثقفان يجتهدان في جعل كل فرد مجتمعهما سعيداً مطمئناً (على شرط أن يستأهل هو ذلك أيضاً من جانبه). ثم أن مشاركة عواطف الغير واحترامهم مفروض على كل فرد مهما كان نوعه، وذلك واجب عليه سواء أكان غنيّاً أم فقيراً، عالماً أم جاهلاً. ومع أن الأخلاق الرقيقة قد تكون وراثية إلى حد ما، فانه يمكن تحسينها وإنماؤها بوساطة البيئة الصحيحة، وبدراسة القوانين الاجتماعية ومراقبة المجتمع نفسه، وتطبيق ما حصله الإنسان في معاهد الآداب عمليا في الحياة العملية حتى يجنى المجتمع ثمار عمل أفراده وبُناته
لعلنا بهذا التلخيص نكون قد أوضحنا بعض الشيء نشأة الإتيكيت وضرورته في الحياة.
زينب الحكيم