مجلة الرسالة/العدد 30/إلى الأقصر. . .
مجلة الرسالة/العدد 30/إلى الأقصر. . .
- 1 -
كان لا بد للاّغب أن يستجم، وللصائم أن يعيد، وللمجادل في مجد الفراعين أن يزور الأقصر.
وكان (قطار الآثار) قد جرأ الجيوب الهزيلة على أن تباري الجيوب الأمريكية في (وادي الملوك)! وقطار الآثار كقطار البحر فكرة سديدة، تنفذها إرادة رشيدة. .
ولكن حرف (لكن) لا يزال وا أسفاه أكثر أخوات (إن) استعمالاً، وأشدها بحياتنا اتصالاً! فأنا مضطر أن أقول: ولكن هذا القطار لا يصلح إلا لأقوياء البنية، أشداء العصب، ممن يستريحون على الوقوف، وينامون على الرفوف، ويغمضون على ضيق المكان، وكظّة الديوان، وحرج الأسِرة. أما أخو الجسد المهدود، والعصب المجهود، فلا مناص أن يقضي ليله كما قضيت: مقسم النفس بين القلق والأرق، ولا يجد نفسه ولا يملك قلبه!
سار بنا القطار المثقل في منتصف الساعة التاسعة من مساء يوم الاثنين أول أيام أمس العيد، وكان المفروض على راكبه أن يبيت قائماً في الممشى، أو نائماً على (الرف)، أما الجلوس لو أراد، فلا سبيل إليه إذ لا محل له! وكان من الميسور تلطيف هذا المقدور بشيء من لهو الحديث ولو جمعنا الحظ العنيد برفقة من أهل الأنس، ولكنني كنت أنا وصديقي بين أربعة لا يصل أحدهم بالآخر سبب من جنسية أو لغة، فحملونا مكرهين إلى الفراش النابي والوساد القلق. . . ولا أريد أن أثقل عليك وعلى إدارة القطار بذكر ما أعقب ذلك من أزمة الصدر، وضمة القبر، وإزعاج الصحب، وإغاثة الإسعاف، وقضاء الليل الطويل قابعاً أمام الباب لا يخدع في عيني نعاس، ولا ينفس عن صدري فرج، فان علاج ذلك كله إعداد عربة للجلوس يتنفس فيها الساهد المكروب باللهو والسمر.
القطارالجاهد يخوض في أحشاء الليل المظلم، والهواء البارد يسفي غبار الطريق الخانق، والركب المترجح يغط في النوم غطيط الخلي، والكرى الجائر قد غلبني على أخوي فأوى بهما إلى المضجع! وأنا وحدي في هذا القفص الطائر أرعى نجوم الكهرباء في سمائه المحصورة الرفيعة، وأقول في آخر ليلة من ليالي رمضان المحتضر: متى يا اله الناس يصبح هذا الليل؟! وأخيراً، أخذ نور المصابيح الزاهر يشحب قليلاً فقليلا، وستر الظلام الصفيق يرق عن جوانب القطار شيئاً فشيئا، وأنفاس الفجر الندية تخلص إلي من خلال النوافذ، وكنا حينئذ نمر على الجسر الحديدي (بنجع حمادي)، ففتحت الشباك القريب وأرسلت طرفي الكليل في شمال الوادي، فرأيت رءوس الشجر الرفيفة، وذوائب النخل الرفيعة، طافية في سيل من الضوء المشوب المبهم، وتبينت القرى الجاثمة على الضفاف الخضر تستيقظ مطلولة الجنبات مع الطبيعة، والصبح الوليد يهتك عن مهده الوردي كلَّة السحر الداكنة، وأبصرت من وراء (قنا) خطاً من ذائب المرجان قد ارتسم على قمم الجبال اللوبية، ثم أخذ ينتشر رويداً على الظلال المتخلفة من بقايا الليل حتى غمر الوادي، فاستبانت في سهوله الخصيبة حقول القمح والفول والعدس يكللها الطل، ويهفو فوقها رقيق الضباب.
أشرقت الشمس علينا كما كانت تشرق منذ آلاف السنين على سيتي ورمسيس، فهي وحدها المخلوق الذي شهد ضخامة الماضي، ويشهد الآن ضآلة الحاضر! فليت شعري ماذا تقول ذكاء في هؤلاء الأقزام الذين يحجبون اليوم (طيبة) مختالين على مركب ليس في صنعه قسط من حديد أو خشب؟ ماذا تقول ذكاء وقد رأت ملوكنا العماليق وهم في طفولة البشرية ينقلون قطع الجبال من أدنى الشمال إلى أقصى الشلال على عجلات وآلات من خلق عقولهم وصنع أيديهم، ثم ترانا معشر الأعقاب نلوك الفخر أمام الغربيين بعظمة الأقدمين، ونتبجح أمام الأقدمين بعبقرية الغربيين، فنحن كخلفة الدوحة العتيقة تنبت رخوة على جوانب الجذر الثابت، ثم يقعد بها الوهن عن مطاولة الجذع، فلا هي في رسوخ الأصل وقوته، ولا هي في سموق الفرع وإشرافه!!
لا يكاد الصعيد يختلف اليوم عما عهده الفراعين منذ أربعة آلاف سنة! فالشمس المعبودة هي الشمس، والنيل المقدس هو النيل، والقمح الذي خزنه (يوسف) هو القمح، وجوارح الطير التي تحوم فوق ساحلي النهر هي بأنواعها وأشكالها وألوانها التي كانت تحلق في أجواء (طيبة)، لأن الحيوان والنبات قلما ينالهما التغير. أما الذي نال منه الحدثان، وغير من حاله الزمان، فهو هذا الإنسان المسكين، فإنسان النيل لم يعد ذلك الذي قارع الدهر، وصارع البلى، وحاول الخلود، وقدس القوة، وأخضع العراق والشام وفلسطين والسودان والحبشة، وإنما أصبح من فعل القرون وإلحاح الجور شيئاً من المتاع تابعاً للأرض، يُملك ولا يَملك، وينتج ولا يٌهلك!
على أن القبس الإلهي العربي الذي بعث الضوء في شبابه الكادي، والحرارة في جسمه المنحل، لا يزال قديراً على إحياءه، جديراً برفعه.
وإذا كان البحر يتعاوره الجزر والمد، والشمس يتعاقبها الغروب والشروق، والطبيعة يتناوبها الخريف والربيع، فأن مصر الناهضة تشارف بثروتها المد، وتطالع بقادتها الشروق، وتستقبل بشبابها الربيع!
ضحت الشمس واستطاع النظر القصير أن يجمع الوادي في نظرة! وهيهات لابن (الدلتا) الفسيحة أن يفهم معنى الوادي إلا في أعالي الصعيد! فهناك تتقارب السلسلتان بما ورائهما من موات وجدب، وينساب بينهما النهر العظيم بما يحمل من حياة وخصب، ويشعر المصري الذي يرى هذا المنظر أول مرة فيجد واديه كله في عينه وفي قلبه، بنوع من الغبطة لم يحسه من قبل، ويستغرق في نشوة من الذكريات والأماني لا يخرجه منها إلا وقوف القطار في محطة الأقصر. . .
احمد حسن الزيات